تفاصيل الخبر

الفتنة تستيقظ من "الخندق".. والبلاد إلى المجهول

10/06/2020
الفتنة تستيقظ من "الخندق".. والبلاد إلى المجهول

الفتنة تستيقظ من "الخندق".. والبلاد إلى المجهول

بقلم علي الحسيني

[caption id="attachment_78717" align="alignleft" width="376"] الثورة في الشارع يوم 6 حزيران الجاري.. الامتحان الاصعب[/caption]

وحده "المجهول" كان يعلم ما ينتظره لبنان خلال الأيام القليلة الماضية بعدما لاحت الفتنة المذهبيّة برأسها من منطقة لم يُعثر فيها على رؤوس الموقظين للفتنة بعدما تخندقوا في "الغميق" وراحوا يبثوّن سموم أحقادهم بمسّ المحرّمات وإهانة رموز دينيّة والإستثمار بها في لعبة الشارع. ولعل الفوضى التي كشفت عن أنيابها في عدد من أحياء بيروت والإحتكام إلى الرصاص كلغة بديلة عن الحوار، خير دليل على مدى احتقان النفوس، وأن الحرب يُمكن أن تشتعل في أي لحظة طالما أن البعض استبدل عبارات الإستنكار، بقطع رأس الفتنة من أصله.

يوم نام الفقر في حضن المذهبية

 لم تنم بيروت ليلة السادس من حزيران الحالي، وذلك بعد أن طغى صوت الرصاص في أزقتها، وقضى على كل حلم بانتفاضة لا تشكل خطراً على السلم الأهلي. فالجوع الذي كان يجب أن يوحّد صفوف اللبنانيين لمواجهة السلطة الفاسدة، إذ به يتحوّل إلى نزاع بين الجياع أنفسهم بانقسامات طائفية مذهبية، يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام إلى الوراء، متناسين أن من أوصلهم إلى الجوع، لا علاقة له لا بالسيدة عائشة زوجة النبيّ محمد، ولا بالسيدة فاطمة ابنة الرسول، ولا حتى ديانات وطوائف هؤلاء اللبنانيين، هي المسؤولة عن حاضرهم اليوم.  

 في هذه الليلة وصل "العيش المشترك" إلى أشد مراحل الخطر بعد حماوة المشهد الميداني المُمتد على "خط التماس" بين عين الرمانة - الشياح، وتنقّله من بربور- طريق الجديدة وصولاً الى الخط المُمتد على طول كورنيش المزرعة. والبداية كانت بشريط فيديو تم تناقله على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع لمجموعة من الشبّان من منطقة "خندق الغميق" وهم يشتمون السيدة عائشة، وذلك خلال تجمّع لهم على تخوم ساحة الشهداء استنكاراً لتظاهرة تبنّى قسم منها شعار نزع سلاح حزب الله.

من أشعل الشارع؟

[caption id="attachment_78721" align="alignleft" width="445"] وفي الشياح ـ عين الرمانة .. خطوط تماس جديدة[/caption] من ثغرة الأخطاء السياسيّة التي لم تعد تُحصى لكثرتها، ومن بوابة الأزمات التي تتخبّط بها البلاد نتيجة الإهمال السياسي، كادت أن تتسلّل الفتنة بأبشع صورها إلى النسيج الداخلي وذلك بعدما أقدمت مجموعة من الغوغايين بشتم زوجة النبيّ محمد، ممّا استدعى نزول مجموعات من الشبّان إلى الشارع للتعبير عن غضبهم، بعدما شعرت بالإهانة. والحق، أنه لولا وجود بعض الحريصين على البلد وسلمه الاهلي، لكان دخل لبنان في نفق مجهول لم يكن ليتمكن من الخروج منه، إلاّ بإعجوبة سماوية بعدما تقاعس أهل السياسة عن القيام بدورهم، أو بأدنى واجباتهم.  

 واللافت أن ما حصل يُعيدنا إلى بداية الثورة يوم نشر أحد هواة الفتنة شريطاً مصوراً يظهر فيه وهو يشتم آل بيت النبي ويوزع إهاناته السياسية والمذهبية، يمنة ويسرة، الأمر الذي رأى فيه البعض، أنه مُخطّط له بشكل مدروس، وذلك خدمة لمشروع يستهدف كل لبنان بطوائفه ومذاهبه، وتحديداً سلمه الأهلي. وبالطبع، فإن المشهد الذي ارتسم في الشارع الذي احتله صوت الرصاص ومشهد الخوف الذي سيطر على ليل بيروت، لن يكون الأخير، ولن يكون يتيماً. فالساحة ستكون على مواعيد كثيرة مع تحركات مشابهة، تختلط فيها عناوين المتظاهرين والمحتجين. لدرجة أنها ستبدو صورة ثانية يريد لها البعض أن تكون مكملة لـ17 تشرين، بينما آخرون يريدون لها أن تكون مختلفة عنها، وتسهم في وأدها.

ترهيب الثورة والثوّار

 لم يستبعد البع

[caption id="attachment_78720" align="alignleft" width="516"] مشاهد التخريب في يوم السبت الأسود في الداون تاون .."الله بعوّض"[/caption] ض أن تكون الممارسات التي حصلت على الأرض، محاولة لترهيب الثوار ومنعهم من التزايد بشكل تلقائي في الساحات لا لأنهم يهوون النزول الى الشوارع ولا لأنهم اعتادوا على المواجهات بعد طول فترة حراكهم، بل لأنهم لم يقتنعوا بعد بالوعود السياسية التي تُقطع ولا حتّى بطرق الحل التي تُطرح. ويقول هذا البعض بأن ثمة جهات قررت اللجوء الى "الدم" والقتل، لإخافة المنتفضين وابلاغهم ان المواجهة دخلت مرحلة جديدة ولن تكون بعد اليوم "نزهة"، وأن التظاهر وقطع الطرقات لن يمرا بسهولة وقد تكون كلفتهما عالية. وأيضاً ثمة من يسعى إلى حفر هوّة بين الثوار من جهة، وبين المدنيين والجيش اللبناني.  

 بين القوى السياسية المتصارعة، ثمة جهات كثيرة تُريد الاستثمار بهذه الشعارات المتضاربة سواء السياسيّة أو المذهبيّة، من أجل إجهاض التحركات، وتفريق المجموعات المتظاهرة، على قاعدة شدّ العصب الطائفي والمذهبي كونه كفيلاً بإعادة انتاج الشعبيّة التي فقدتها السلطة الحالية من خلال إخلالها بالوعود وإفقار الشعب بكل طوائفه. ومع هذا، فإن ما جرى مساء السبت من استنفار مذهبي، سيتكرر على ما يبدو تباعاً، وليس بالضرورة بشكل متواصل. لكن الأكيد أن ثمة دوامة جديدة قد دخلها لبنان وسيستمر بالدخول إليها، تزامناً مع استمرار الانهيار المالي والاقتصادي، وبانتظار فرض عقوبات دولية جديدة على مؤسسات وأسماء لبنانية.

صراع الثورة والسلطة

 المؤكد أن تعدد الرأي الثوري، أو التناقض في وجهة التغيير، سمة واقعة لا مجال لتبديدها، لا في هذه المرحلة ولا مستقبلاً. والغرق في نقاش وجهات التغيير، يدفع إلى إثارة الانقسامات بين قوى الحركة الاحتجاجية، بغية تشتيتها وضرب عناصر قوتها. وقد يكون الأفضل للمجموعات الثورية تكريس منطق التنوع، والنقاش الهادئ في تنظيم التظاهرات، والتركيز على مضمونها السياسي، بدلاً في الغرق في مناقشة الانقسامات التي يؤدي إلى التشرذم.

 أما قوى السلطة وأحزابها، فمن البديهي أن تلجأ إلى ذر الرماد في العيون، وإثارة الشقاق بين مجموعات الحراك ومكوناته. وذلك لدفع المجموعات إلى مغادرة الساحات والانكفاء، بحجة أن بعضها لا تريد تبني هذا الشعار أو ذاك الذي يرفعه بعضها الآخر. وليس أسهل على قوى السلطة من اختراع مثل هذه الشعارات التي تشتت الحراك ومجموعاته، تماماً كما حصل في اليومين الماضيين، تحضيراً لتحركات السبت 6 حزيران.

إدانات سياسية.. متأخرة

[caption id="attachment_78719" align="alignleft" width="348"] المفتي عبد اللطيف دريان والشيخ عبد الأمير قبلان زمن الاعتصام بحبل الله[/caption]

 رئيس الجمهورية ميشال عون دان أي تعرض للرموز الدينية لأي مكون من مكونات العائلة اللبنانية. وشدد على أن مناعتنا الوطنية نستمدها من بعضنا البعض، وقوتنا كانت وتبقى وستظل في وحدتنا الوطنية أياً كانت اختلافاتنا السياسية. وتوجه رئيس إلى ضمير كل مسؤول سياسي أو روحي، والى الحكماء من اللبنانيين الذين عايشوا أحداث العامين 1975-1976 التي ما زالت ماثلة أمامنا، القيام بما يتوجب عليهم، كل من موقعه، من أجل وأد أي شكل من أشكال الفتنة الناجمة عن المساس بمقدسات بعضنا البعض الدينية والروحية والمعنوية، والتي من شأنها، إن استعرت، أن تقوض الهيكل علينا جميعاً في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة الى أن نضع اختلافاتنا السياسية جانباً ونسارع إلى العمل معاً من أجل استنهاض وطننا من عمق الأزمات المتتالية عليه، خصوصا بعدما ملأت أصوات اللبنانيين الشرفاء المحقة الساحات، مطالبة بعيش كريم لائق لجميع أبناء الوطن الواحد.

 بدوره علق رئيس مجلس النواب نبيه بري على الأحداث، وقال: هي الفتنة مجدداً تطل برأسها لاغتيال الوطن ووحدته الوطنية واستهداف سلمه الأهلي. هي أشد من القتل، ملعون من يوقظها، فحذار الوقوع في أتونها فهي لن تبقي ولن تذر ولن ينجو منها حتى مدبريها ومموليها. واعتبر بري أن كل فعل من أي جهة أتى يستهدف وحدة اللبنانيين وأمنهم واستقرارهم وعيشهم الواحد هو فعل إسرائيلي وإن أي صوت يروج للفتنة بين أبناء الوطن الواحد وأبناء الدين الواحد هو صوت عبري ولو نطق بلغة الضاد.

مهمة "حزب الله".. أصعب من الصعب

[caption id="attachment_78718" align="aligncenter" width="627"] الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وحسان دياب... الإصلاح السريع.. وإلا[/caption]

 المؤكد أن مهمة "حزب الله" في هذه الفترة، هي غاية في الصعوبة نظراً للإستحقاقات التي تُداهمه، من هنا يرى مراقبون أنه معني أكثر من غيره في تثبيت عملية الإستقرار الداخلي، هذا في حال قرّر مواجهة ما يُحاك ضده بالحكمة والتعقّل. يُشير مصدر سياسي بارز لـ"الافكار" إلى أن الحزب يجد نفسه مُحاطاً في هذه الفترة، بكثير من الأعباء وبقليل من الأصدقاء، خصوصاً بعدما أظهر رئيس "التيّار الوطني الحر" النائب جبران باسيل حقيقة نياته لجهة العلاقة التي جمعته بـ"حزب الله" منذ اتفاق مار مخايل.

 لقد أفقدت نيات باسيل "الحزب"، البوصلة التي كان يستدل بها لتطويق الأزمات الداخلية، أو لإلهاء بعض الداخل، لكن مواقف باسيل التصعيدية مع أعضاء كتلته النيابية ضد سلاح "المقاومة" والتي ترافقت مع إصدار "قانون قيصر" الذي يطال "الحزب" في بعض جوانبه، حتّم على "حزب الله" التعقّل والتعاطي مع الواقع بمرونة أكثر، وهذه الأمور تدعوه في الحال إلى لملمة ذيول الفتنة التي كادت أن تُشعل حرباً مذهبيّة، وإلا سيكون مضطر لاحقاً، لتبرير ما جرى في الشارع، أمام الجمهور العربي السُنّي، الذي ما زال يؤمن بقضيّة المقاومة.

 ويقول المصدر: ليس بالضرورة أن تؤدي عقلنة "حزب الله" أو درايته للوضع الحسّاس الذي يمر به إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري مثلاً، لكن الأساس هو استعادة التوازن السياسي في البلد. والأكيد، أن حزب الله يعلم ما هو آت من صعاب على لبنان، وستنعكس على الوضع السياسي والشعبي والاجتماعي، خصوصاً وأن الضغوط ستتزايد عليه وعلى إيران، والضربات الإسرائيلية ستتزايد عند الحدود اللبنانيّة ـ السورية وفي الداخل السوري.

 وفي مثل هذه الحالة، يجب بحسب المصدر أن يعود الحزب إلى تحصين وضعه في الداخل، تماماً كما رفع عنواناً أساسياً بعد الانتخابات النيابية بأنه يريد الاهتمام بالشأن الداخلي، شرط عدم الإصطدام بالرئيس نبيه بري، وهذا شرطه الأساس عدم زجّ جمهور حركة "أمل" في صراعات داخليّة، نيابة عن "حزب الله" على غرار ما حصل منذ أيّام في بربور وفي خندق الغميق.

لا حلول تلوح في الأفق

 حتى الساعة، ليس في الأفق ما يدل على اقتراب الحلول إذ إن المعطيات بمجملها، تُشير إلى ان التوافقات السياسية ما زالت مفقودة بين السياسيين أقله حتى اللحظة وهي عالقة على حافة المطالب والمطالب المضادة خصوصاً في الشقّ المتعلّق بالتعيينات، هذا كله يُقابله ارتفاع زخم الثورة التي تُهدد باطاحة كل من في السلطة اذا ما استمرت البلاد على ما هي عليه. وعلى أرض الواقع، ليست الأمور بأفضل حالها، فكل شيء يدل على أن الوضع الصحّي أصبح في عهدة القدر، فبعد أن أثبتت سياسة "مناعة القطيع" عدم جدواها، حذا أحد السياسيين الكبار حذو الرئيس الإيطالي بقوله "لقد فعلنا كل شيء وأصبحت حياتنا بيد الله".

 في الخلاصة، هناك مسار أصبح مفتوحاً في السعي إلى التغيير، ويضرب قدرة السلطة على التوازن والثبات. فقوى السلطة وأحزابها تتخبط فيما بينها، ويظهر عجزها يوماً بعد يوم. وعلى الشارع أن يستمد من ذلك التخبط قوة وقدرة، لفضح فشل السلطة بتعابير ولغة ميدانية في التحركات وشعاراتها، على الرغم من تنوع توجه المجموعات، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. والأبرز، أنه يُمكن القول إن تظاهرة 6 حزيران قد انتهت، لكن هناك لغة جديدة كتبها الشارع مفادها، أن النزول إلى الشارع في المرّة المقبلة، لن يكون نزهة وعلى الجميع دراسة الخيارات الف مرّة قبل الإقدام على أي خطوة، وإلّا فالبركان يتهدّد الجميع وبالتالي لن ينجو من غرق القارب، سوى من ينأى بنفسه عن هذه اللعبة.