فوجئ الحاضرون في الكاتدرائية المرقسية أثناء قداس عيد الميلاد المجيد للأقباط في مصر بوصول الرئيس عبد الفتاح السيسي في زيارة تعد الثانية من نوعها لرئيس مصري منذ أكثر من 30 عاماً، حيث زار الرئيس السابق المؤقت المستشار عدلي منصور الكاتدرائية السنة الماضية مهنئاً بعيد القيامة.
وقال الرئيس السيسي في كلمته القصيرة التي ألقاها في الكاتدرائية: <أرجو منكم أن لا يقول أي شخص فيكم أنا مسلم أو مسيحي، حتى لا يتم وضع تفريق بين جبهتي مصر>، مضيفاً: <أنا قادم هنا وأريد أن أقول :عام سعيد عليكم وعلى كل المصريين وكل سنة وأنت طيب يا قداسة البابا>، وتابع: كان ضرورياً أن أحضر لكي أقول لكم كل سنة وأنتم طيبون، وأرجو ألا أكون قطعت صلواتكم. أريد أن أقول إن مصر طوال آلاف السنين علّمت الإنسانية، والعالم ينتظر مصر في ظل الأيام والظروف التي نحن نعيشها. وقال الرئيس السيسي في كلمة ارتجلها: <حنبني بلدنا بأيد واحدة، وحنحب بعض بجد>.
وكان في استقبال الرئيس السيسي لدى وصوله إلى الكاتدرائية البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، حيث استقبل الرئيس المصري بتصفيق حاد من الحضور لدى دخوله إلى القاعة الرئيسية في الكاتدرائية، وشهد حضور الرئيس هتافات حارة من رواد الكنيسة، مرددون <إيد واحدة>.
ووجه البابا توا ضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي على حضوره قداس عيد الميلاد لتقديم التهنئة، مؤكداً أن الشكر ليس باسم الأقباط وحدهم ولكن باسم المصريين جميعاً على اللفتة الإنسانية بحضوره لتهنئة أشقاء الوطن في عيدهم.
وأضاف البابا:
<مصر تبدأ عصر جديد بحضور السيسي للتهنئة وهو ما يشير إلى مستقبلها ومستقبل أبنائها وباسمي وبالأصالة عن نفسي وهيئة الأوقاف والمجلس الملي والإكليروس وكل الشعب في مصر والخارج وبلاد المهجر أهنئ بعيد الميلاد، وتحية خاصة للكنائس القبطية في بلاد العالم، وكذلك لرجال الشرطة الذين أمنوا وجودنا وتعبوا كثيراً من أجلنا>.
وغادر الرئيس السيسي مقر القداس فور إلقاء كلمته المقتضبة، وسط ابتسامات علت وجه البابا تواضروس بابا الكنيسة المصرية الذي كان يقف بجواره.
وكان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قد زار الكاتدرائية عام 1959 ليقدم التهنئة بجلوس البابا كيرلس السادس (1959 - 1971) على عرش البابوية. كما تكرر التصفيق الحاد عندما حيا البابا توا ضروس الثاني، وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم الذي حضر القداس بعد بدايته بقليل واستمر حتى نهاية القداس.
وألقى البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، كلمة روحية خلال قداس عيد الميلاد،حول دلالات ميلاد المسيح والخطيئة. وقال: <إن الخطيئة جعلت الإنسان يفكر في عبادة الفلك والنجوم والأوثان، وبعد أن أرهقته الحيل صار يفكر في نفسه ليعبد ذاته، واتجه الإنسان وبدأ رحلة ظلمة الخطيئة، وليبتعد عن عبادات الله وجعلته وحيداً وشريداً كأنه يعيش في فراغ، عاش يعبد ذاته، وصارت ذاته في أي صورة من شهوات ورغبات، وأتى ميلاد المسيح الذي قسم الزمن لعهد قديم وعهد جديد، وبدأ الله يفتش عن الإنسان الضائع التائه والخائف والذي يعبد ذاته، ووضع أمامه علاجات لهذه الضعفات الثلاث، بعد أن أصبح الإنسان يفخم ذاته واختراعاته في عصر الثورة الرقمية ويقول ما حاجة لي من الله، وبدأت ضعفات كثيرة من بينها السيطرة ورغبات تحقيق الذات بطرق ملتوية وصار كبيراً في نظر نفسه وسقط في بئر الكبرياء وحلت به النظرة الأرضية الترابية فقط ولم يعد يقدم تمجيداً لله، فعندما تضخمت ذات الإنسان فقد علاقته مع الله وأصبحنا نسمع عن شرور الإلحاد والإباحيات والشذوذ وهدم الأسرة، وكل يوم الإنسان يخترع شيئاً، وصارت نغمة الناس في العالم حقوق الإنسان وتناسى حقوق الله في حياته وخلقه.
وأضاف البابا: العلاج الأول لأنانية الإنسان وبعده وذاته أن يمجد الله ويقدم التسبيح، والإنسان الذي تسكنه مخافة الله يكون أميناً، أما الإنسان الذي يعيش في أنانية فلا يرى سوى نفسه فقط واتجه للقسوة والقمع والظلم ونسمع عن الآلام الكثيرة في بلدان كثيرة صنعها بشر، وأنانيته جعلته ينسى الله وجعلته يتحول لصراع وعنف وإرهاب وحروب، والعلاج أن يكون الإنسان صانع سلام، أن يمتلئ قلبه بمخافة الله، لا يستطيع إنسان يصنع سلاماً وصلحاً إلا أن يسكن الله قلبه في كل لحظة، نقول عليه في تعبيرنا أن لديه ضميراً، أما الإنسان الذي صار خائفاً وخوفه يلاحقه في كل مرحلة من مراحل حياته فالسبيل لعلاجه هو الفرح.
وتابع البابا: قصة الميلاد قصة ليست تاريخية أو حدثاً زمنياً ولكن هي رسالة إنسانية لكل أحد، أيها الإنسان الذي ابتعد عن الله وتاه في دوامات الحياة والذي في أوقات كثيرة يفقد إنسانيته إن أردت أن تكون حسب مشيئة الله فاطلب أن تكون المخافة في قلبك لتعيش حكيماً واصنع السلام وقدم تمجيداً لله، فلا تترك الخطيئة تتملك قلبك، وعندما تصنع ذلك ستنال فرحاً في الأرض والسماء، هي رسالة لكل شخص فينا لننظر وندبر حياتنا، فالله خالقنا والذي أعطانا الحياة وعندما أوجدنا أوجد لنا رسالة وبهذه كلها نمجد اسم الله على الدوام.
واختتم البابا كلمته وسط تصفيق الحضور بتقديم الشكر مرة ثانية للرئيس عبد الفتاح السيسي على زيارته في الكاتدرائية قائلاً: <تلك مشاعر جميلة، وتوجد في حياة البشر مواقف تأخذ دقائق معدودة ولكن تترك أثراً قيماً مثلما هنأنا الرئيس بالعيد، ونصلي من أجل كل المسؤولين في الدولة، ونصلي من أجل المتألمين في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا ونيجيريا، ونصلي من أجل اخوتنا الذين قدموا حياتهم من أجل أمن الوطن وأمانه ومن أجل المصابين ومن أجل الذين في شدة ليفك الله شدتهم>.
وفد الأزهر
وكان البابا تواضروس الثاني، قد استقبل وفداً من الأزهر الشريف، برئاسة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، والدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، والدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر، والدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف الحالي، والدكتور محيي الدين عفيفي أحمد، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، والمستشار محمد عبد السلام، مستشار شيخ الأزهر للشؤون التشريعية والقانونية، حيث جاءوا لتهنئته بعيد الميلاد.
وقال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إن تزامن عيد ميلادي نبيي الرحمة يعطي علامة على أن السنة الجديدة بها تفاؤل، مشيراً إلى أن القرآن الكريم يحث على التسامح ومحبة المسيحيين، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم وقصة النجاشي ملك الحبشة.
وقال البابا تواضروس إن هذه اللقاءات تأتي تأكيداً على المحبة التي تجمعهم في كل المناسبات الدينية والوطنية، قائلاً: <كل ما يُبنى على أساس المحبة يستمر ويدوم>.
وفي السياق نفسه، شدد القس بوليس حليم المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، على أن تلك اللقاءات رسالة للمواطن البسيط للاخوة والمحبة بين الأزهر والكنيسة.
وقال الأنبا يؤانس أسقف الخدمات، إن شيخ الأزهر أكد أن القرآن يحث على محبة المسيحيين وشيخ الأزهر شخصية متفتحة جداً، وأتمنى أن يديم الله المحبة والمودة بين المسلمين والمسيحيين على جميع المستويات سواء القادة أو الشعب.
وأشار الدكتور محيي الدين عفيفي إلى أن الحديث الذي دار بين شيخ الأزهر والبابا تواضروس، أكد على قوة النسيج الوطني، وعلى أن العلاقة بين أبناء الشعب المصري من المسلمين والمسيحيين ضاربة بجذورها التاريخية في الترابط والتعاون، وأن الأزهر الشريف والكنيسة المصرية هما صمام الأمان لمصر، في وجه التحديات الراهنة التي تحاول النيل من أمنها واستقرارها. وأوضح عفيفي أن التهنئة بعيد الميلاد للاخوة المسيحيين تجسد روح السماحة الإسلامية، فقد أجاز الإسلام للمسلم أن يتزوج بالمسيحية، مع بقائها على دينها، فكيف يحرم عليه تهنئتهم بالعيد، ولذلك فإن المشتركات الإنسانية بين الإسلام والمسيحية، تؤكد روح الرحمة والمحبة بين أبناء الشعب المصري، في مواجهة تلك التيارات المتشددة والمتنطعة التي تريد تعميق ثقافة الكراهية بين أبناء الشعب المصري.
من ناحية أخرى قال الدكتور محمد مهني، مستشار شيخ الأزهر، إن زيارة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر للكاتدرائية المرقسية في العباسية، لتهنئة البابا تواضروس الثاني، بالعام الميلادي الجديد وعيد الميلاد المجيد، ترسيخ للصورة الحقيقية للإسلام من خلال تبادل التهاني خلال المناسبات الدينية للاخوة الأقباط.
وأضاف مهني: ان إيمان الفرد بالديانات الأخرى والرسل الذين جاءوا قبل النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، أهم أركان الدين الإسلامي، وبدون هذا الإيمان لا يعد الفرد مسلماً.
كما زار المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية السابق، المقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية في العباسية، لتهنئه قداسة البابا بعيد الميلاد، وكان في استقباله الأب أرميا.
وقال المستشار منصور، عقب انتهاء اللقاء، <إن تقارب أعياد الميلاد، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف، يدل على تقارب الشعب المصري وتلاحمه. كما هنأ المستشار عدلي منصور، الحضور
جميعاً، بأعياد الميلاد، قائلاً: <سنة سعيدة عليكم إن شاء الله>.
وبعث رئيس مجلس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، ببرقية تهنئة إلى قداسة البابا تواضروس الثاني. وقال محلب: <يسرني أن أبعث إلى قداستكم وإلى جميع الاخوة الأقباط، أخلص التهاني القلبية مقرونة بأطيب التمنيات، بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد>. وأضاف <إنني إذ أهنئكم بهذه المناسبة، أدعو الله عز وجل، أن يعيدها على قداستكم بموفور الصحة والسعادة، وعلى مصرنا الغالية وشعبنا العظيم وقد تحقق ما يتطلع إليه من مستقبل مشرق، ينعم فيه أبناؤه بالمزيد من الخير والرخاء والمحبة والسلام>.