قصر بعبدا يستعد لاستقبال «الفراغ الثاني » منذ اتفاق الطائف..
ابتداءً من 25 أيار/ مايو الجاري، يصبح الرئيس ميشال سليمان رئيساً سابقاً للجمهورية اللبنانية، من دون أن يكون في قصر بعبدا رئيس جديد للجمهورية، فينضم الرئيس سليمان بذلك الى نادي الرؤساء السابقين للجمهورية ما بعد الاستقلال، فيصبح عدد هؤلاء 12 رئيساً، اثنان منهم على قيد الحياة هما: الرئيس أمين الجميل والرئيس إميل لحود، فيما انتقل الآخرون الى جوار ربهم، بينهم رئيسان استشهدا بالاغتيال، الأول الرئيس بشير الجميل الذي قضى نحبه وهو بعد رئيس منتخب، والثاني الرئيس رينه معوض الذي مارس الرئاسة 23 يوماً واستشهد يوم ذكرى الاستقلال.
وعلى الرغم من أن اللبنانيين اختبروا بعد اتفاق الطائف شغور موقع الرئاسة الأولى مرة واحدة بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود يوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007 من دون انتخاب رئيس خلف، فالذي يبدو ان عليهم أن يعيشوا التجربة نفسها في الآتي من الايام، بعدما تعذر على مجلس النواب انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة الدستورية التي انتهت بانتهاء ولاية الرئيس سليمان، علماً أن المرجعيات السياسية والروحية التقت على التأكيد على ضرورة انتخاب الرئيس العتيد وعدم إدخال البلاد في شغور رئاسي، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان والمنطقة، لاسيما نتيجة الاحداث السورية المرشحة لتطورات جديدة بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي السوري يوم 3 حزيران/ يونيو المقبل الذي سيحمل الرئيس بشار الأسد مجدداً الى ولاية رئاسية جديدة.
وفيما ظل الحراك السياسي الداخلي الأسبوع الماضي ضئيلاً مع تشبث كل فريق بموقفه، بدا أن سفراء الدول المعنية بالاستحقاق حلّوا محل القيادات اللبنانية وبدأوا حراكاً لافتاً يؤكد أن الكلمة الفصل في الاستحقاق الرئاسي لم تعد لبنانية، بل غدت عربية وإقليمية ودولية، في وقت شهدت العاصمة الفرنسية سلسلة لقاءات محورها الرئيس سعد الحريري الذي انتقل من الرياض الى باريس التي وصل إليها أيضاً وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ومرشح 14 آذار رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، والرئيس فؤاد السنيورة والنائب وليد جنبلاط وشخصيات سياسية أخرى خاضوا جميعهم في الطبق الرئاسي بحثاً عن <مخارج> و<حلول> و<خيارات> تحدث تبدلاً في الواقع الانتخابي سواء لجهة التعاطي مع استمرار ترشيح الدكتور جعجع، أو للبحث عن بدائل أخرى، أم لجهة <مقاربة> الترشيح غير المعلن بعد لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، أم لجهة التفاهم على <تسويق> ما اصطلح على تسميته بـ<الخيار الثالث> الذي باتت أسماء الشخصيات التي تندرج تحته قليلة نسبة الى ما كانت عليه قبل أسبوعين بعد إخراج عدد من المرشحين الرئاسيين من اللائحة لاعتبارات مختلفة وبروز معلومات أن بورصة هؤلاء أقفلت على 3 أسماء فقط.
ولم تحمل اجتماعات باريس جديداً يبدّل الواقع في انتظار الموقف السعودي.
<هيل> يتابع الحوار السعودي - الإيراني
في أي حال، فإن التحرك الديبلوماسي الداخلي الذي شهدته <صالونات> السياسيين ومكاتبهم كرّس عودة الاستحقاق الرئاسي الى المربع الإقليمي والدولي وخروجه نهائياً من المربع الداخلي، بحيث ان مصادر متابعة أكدت ان الرئيس العتيد لن يكون <صُنِع في لبنان>، بل هو <صناعة خارجية وتجميع لبناني> على حد تعبير أحد المحللين السياسيين الذين يتابعون مسار الاستحقاق الرئاسي. ولعل أبرز ما سُجل في هذا السياق كانت لقاءات السفير الأميركي في بيروت <ديفيد هيل> العائد حديثاً من الرياض، حاملاً معه <أجواء مشجعة> عن التقارب السعودي - الإيراني بعد الدعوة التي وجهها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الى نظيره الإيراني محمد جواد ظريف لزيارة المملكة، والتي رأى فيها السفير <تطوراً مهماً> في مجال العلاقات بين الرياض وطهران يمكن أن يترك بصمات إيجابية على الاستحقاق الرئاسي اللبناني إذا تم التعاطي مع هذا الاستحقاق على قاعدة «فصله» عن الاستحقاقات الإقليمية الاخرى، ولا سيما منها تشكيل الحكومة العراقية والانتخابات الرئاسية في كل من مصر وسوريا، إضافة الى فصله عن الملف النووي الذي تدور في شأنه محادثات باتت متقدمة بين طهران ومجموعة الدول الخمس + 1 التي تتابع البحث مع المسؤولين الإيرانيين وسط حديث عن تسجيل تقدمٍ في هذا المسار.
ويجمع الذين التقوا السفير <هيل>، علناً مثل اللقاء في دارة النائب السابق الدكتور فارس سعيد، أو سراً مثل العديد من اللقاءات التي أبقاها السفير <هيل> بعيدة عن الإعلام، على القول ان السفير الأميركي الذي يعتبر <خبيراً محلفاً> بالملف السياسي اللبناني يؤكد أن الحوار القائم بين العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري سجل تقدماً ملحوظاً لم يصل بعد الى الحسم، لاسيما وأن الرئيس الحريري لم يعلن بعد تأييده صراحة للعماد عون، لكنه لم يقل في المقابل إنه لا يؤيده، لأن المشكلة تكمن - في رأي السفير <هيل> - في العلاقة بين عون وفريق 14 آذار المسيحي الذي لا يريد الحريري أن يتجاوزه في التفاهم مع العماد عون من دون أن يكون لمسيحيي 14 آذار الدور الفاعل في ذلك، الأمر الذي يُفسر لجوء الحريري الى البطريرك الماروني لوضع «الورقة الرئاسية> لنواب <المستقبل> في سلته ليتصرف بها وفق ما يعكس الإرادة المسيحية التي قال الحريري انه سيحترمها ويتمسك بها منذ اليوم الأول لبدء الحديث عن الاستحقاق الرئاسي.
وأعاد <هيل> في كل لقاءاته، لاسيما مع الذين لبوا دعوة سعيد التأكيد على الموقف الاميركي الذي لن يتدخل في تسمية الرئيس العتيد، لكنه <سيبارك> أي صيغة تتوافق عليها الغالبية المؤثرة من الأفرقاء اللبنانيين، لاسيما وان السفير <هيل> لا يتوقع <اجماع> اللبنانيين على هوية الرئيس العتيد، وهو الذي يعرف تماماً من خلال خبرته أن مثل هذا الإجماع لا يمكن توافره في لبنان لاعتبارات كثيرة.
واشنطن لن تسمي الرئيس
وأبلغت مصادر ديبلوماسية <الأفكار> ان السفير <هيل> الذي استمع الى شروحات الحاضرين في اللقاء عن أهمية وجود مرشح من 14 آذار لرئاسة الجمهورية لم تصدر عنه أي كلمة يمكن أن توحي بأن واشنطن مع هذا المرشح أو ذاك، علماً أن <هيل> يؤكد دائماً على ضرورة التعاطي بـ<واقعية> مع المرشحين المعلنين وغير المعلنين، لأن الرئيس العتيد لن يحمل صفة <التحدي>، بل سينتخب نتيجة تفاهم مروحة واسعة من القيادات اللبنانية إذا تعذر أن يكون التأييد بالإجماع، وهو أمر صعب. وعندما يُسأل السفير <هيل> عما إذا كان التفاهم المطلوب على الرئيس العتيد يمكن أن يتحقق قبل 25 أيار/ مايو الجاري، يرد بالتمني بأن يحصل ذلك، لكنه لا يؤكد حصوله، مشيراً الى أن الشغور في موقع الرئاسة <يجب ألا يطول>، وهذا هو <جوهر> الحراك الديبلوماسي الذي يصب في خانة الوصول الى تفاهمات إقليمية ودولية حول الرئيس العتيد، بعد تعذّر ذلك لبنانياً، لأن أي مرشح لا يحظى بقبول إقليمي ودولي لن يصل الى قصر بعبدا، باعتبار أن أي فريق اقليمي أو دولي لا يملك وحده القدرة على <فرض> رئيس على فريق إقليمي أو دولي آخر، لأن كل الأطراف قادرة على التعطيل إذا لم يكن لها الرأي الإيجابي في هوية الرئيس العتيد.
وأشارت المصادر الديبلوماسية الى أن واشنطن تتابع التحرك السعودي - الإيراني باهتمام لا سيما وأن إدارة الرئيس الأميركي <باراك أوباما> شجعت الرياض على هذه الخطوة وأرادت أن تتم بالتزامن مع الاتصالات الأميركية - الايرانية، من خلال تحرّك مجموعة الدول الخمس + 1. وفي مفهوم واشنطن ان أي تفاهم سعودي - ايراني، ولو كان في حده الأدنى في مرحلة أولى، يصب في مصلحة المنطقة وأمنها كما يخدم السلم والأمن الدوليين. وتؤكد المصادر نفسها أن موسكو ليست بعيدة عن دعم مثل هذا التواصل السعودي - الإيراني، وكذلك الصين.
الرياض لن تتدخل...
بالتزامن، بدا أن السفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري عاد الى التحرك هو أيضاً على خط الاستحقاق الرئاسي، من دون أن يعلن ذلك صراحة، انطلاقاً من القرار السعودي المعلن بعدم التدخل في الانتخابات الرئاسية إلا من باب تشجيع القيادات اللبنانية على حصول الانتخابات قبل انتهاء ولاية الرئيس سليمان أو بعد انتهائها بـ<أيام>. ولمس الذين التقوا السفير عسيري أن الانفتاح السعودي - الايراني ستكون له ايجابيات إذا ما استمر بفعالية ولم يتعثر لأي سبب كان، كذلك فإن الرياض <مرتاحة> الى الحوار الدائر بين العماد عون والرئيس سعد الحريري، وان همّها الأساسي هو المحافظة على الاستقرار في لبنان بشقيه السياسي والأمني، ومقاربة مسألة سلاح حزب الله بشكل يوقف انتشاره في الداخل باتفاق جميع الاطراف، من دون أن يفقده دوره الاستراتيجي في مواجهة اسرائيل، طالما أن حالة العداء بين لبنان واسرائيل لم تنتهِ بعد نتيجة استمرار احتلال أجزاء من الأرض اللبنانية. ويقول هؤلاء ان الرياض التي كان لها الرأي المعروف بسلاح حزب الله تشجّع كل خطوة تجعله خارج الحياة السياسية اللبنانية كي لا يكون مادة خلافية، وان ما سمعه المسؤولون السعوديون والرئيس سعد الحريري من العماد عون وفريق عمله ليس بعيداً عن ضرورة التعاطي مع سلاح حزب الله داخلياً بصورة مختلفة عن السابق، على أن يتم ذلك من دون أن يتعرض الاستقرار الأمني والسياسي لأي اهتزاز.
وفي هذا السياق، تؤكد المصادر المتابعة أن السفير عسيري ليس في وارد <الايحاء> الى أي طرف باعتماد هذا الخيار الرئاسي أو ذاك، لاسيما وأن الملف هو الآن بيد القيادة السعودية التي تتعامل معه انطلاقاً من مصلحة لبنان العليا ووفق التوقيت الذي تراه الرياض مناسباً، وبالتالي لم تعطِ الرياض <كلمة السر> لأي من السياسيين اللبنانيين الذين يزورونها هذه الأيام، أو الذين كانت لهم لقاءات مع الوزير سعود الفيصل، لأنها تريد أن تكون على مسافة واحدة من الجميع. والدعم السعودي للبنان سيترجم - وفقاً للمصادر المتابعة - من خلال المضي في تنفيذ الهبة المالية لشراء معدات للجيش اللبناني التي وقّع قائد الجيش العماد جان قهوجي على الاتفاقية النهائية الخاصة بها، كما أن الرئيس تمام سلام سمع مباشرة خلال وجوده في الرياض كلاماً مطمئناً، سيترجم عملياً مع تدفق السعوديين، خصوصاً والخليجيين عموماً لتمضية ما تبقى من فصل الربيع، وكلّ فصل الصيف في الربوع اللبنانية، ومؤشرات العودة الخليجية الى لبنان بدأت طلائعها من خلال الحجوزات في الفنادق اللبنانية.
.. وباريس لا تراهن على الحوار
الايراني - السعودي
وفي التحرك الديبلوماسي، برزت أيضاً عودة فرنسية على خط البحث في الاستحقاق الرئاسي تمثلت بسلسلة لقاءات عقدها السفير الفرنسي في بيروت <باتريك باولي> الذي التقى قيادات س
ياسية كان بينها وزير الخارجية جبران باسيل لسؤاله عن مسار الاتصالات الجارية بين العماد عون والرئيس الحريري، والموقف السعودي من هذا التواصل بعد لقاء باسيل مع الوزير سعود الفيصل في الرياض. وبدا واضحاً من خلال لقاءات السفير <باولي> أن الرسالة الفرنسية للقيادات اللبنانية ركزت على أن باريس عادت الى الاهتمام بالاستحقاق الرئاسي بعد انكفاء جزئي، وأنها تشجع كل حوار من شأنه أن يحقق في الانتخابات الرئاسية معاجلة مماثلة لتلك التي تحققت في تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام. وفي رأي باريس ان المبدأ نفسه يجب أن يعتمد في الاستحقاق الرئاسي، مع التأكيد على أن الإدارة الفرنسية لا تملك مرشحاً معيناً ولا تفرض <فيتو> على أحد، لكنها ترغب في أن يكون الرئيس العتيد نتاج تفاهم وطني شبه جامع، ليتمكن من لعب دوره بفعالية وتأثير، علماً أن باريس لا تريد حصول شغور في الموقع الرئاسي الأول، وإن كان البديل عن الشغور منصوص عنه في الدستور لجهة تسلم الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية. ومثل هذا الأمر - إذا حصل - فالأفضل أن يكون لفترة محدودة، لأن عجلة الدولة يجب أن تنطلق بقوة لتأمين سير عمل المؤسسات، لاسيما وأن عشرات الملايين من الدولارات والمساعدات والمشاريع تمّ تجميدها في انتظار حصول الانتخابات الرئاسية.
وتشير مصادر ديبلوماسية أوروبية الى أن باريس تأمل بألا يقع الاستحقاق اللبناني تحت <رحمة> الحوار الإيراني - السعودي المتجدد، لأن مثل هذا الحوار قد يأخذ وقتاً لأن ملفاته كثيرة ومتشعبة وقد لا تنتج عنه <الحلول السريعة> التي يتطلبها الوضع في لبنان. وكذلك الحال بالنسبة الى الانتخابات السورية، لأنه من الأفضل فصل الاستحقاق الرئاسي اللبناني عن الاستحقاقات الإقليمية الأخرى كي لا يطول الفراغ.
وبالتزامن مع الحراك السعودي والأميركي والفرنسي، لوحظ أن أعضاء <المجموعة الدولية لدعم لبنان> قرعوا بدورهم <جرس الإنذار> مع تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكانت دعوات متتالية الى إجراء الانتخاب الرئاسي مقرونة بنفي وجود أي عرقلة خارجية لهذا الاستحقاق.
وترى مصادر متابعة أنه بين الحراك الإقليمي والدولي لإنجاز الانتخابات الرئاسية في أسرع وقت ممكن، وبين مواقف القيادات اللبنانية، لاسيما تلك التي رشحت مناصرين لها، هوة كبيرة قد لا يكون من السهل ردمها بسرعة، إلا إذا توافرت عوامل كتلك التي تأمنت وحققت ولادة حكومة الرئيس سلام، أي انه يفترض أن يحصل خرق في مكان معين يؤدي الى تجاوب مع الجهود الدولية والإقليمية، وعند ذاك يمكن أن يلتئم مجلس النواب بنصاب الثلثين وينتخب الرئيس العتيد بغالبية 65 صوتاً أو أكثر، وقبل ذلك من الصعب أن يشهد لبنان ولادة رئيسه الثالث عشر الذي سيستقر في قصر بعبدا الذي حلّ فيه الفراغ للمرة الثانية منذ بداية تطبيق اتفاق الطائف!