تفاصيل الخبر

العملات الرقمية: تطور نقدي ضروري أم مفتاح للتحكم في أسلوب حياة الناس؟

17/12/2020
العملات الرقمية: تطور نقدي ضروري أم مفتاح للتحكم في أسلوب حياة الناس؟

العملات الرقمية: تطور نقدي ضروري أم مفتاح للتحكم في أسلوب حياة الناس؟

بقلم خالد عوض

  [caption id="attachment_84111" align="alignleft" width="301"] قيمة عملة "البتكوين" ارتفعت من أقل من دولار واحد عام ٢٠١٠ إلى أكثر من ٢١ ألف دولار منذ أيام.[/caption]

 هناك حرب واضحة اليوم على كل ما يسمى النقد والعملات الورقية من قبل المصارف المركزية حول العالم. الهدف المعلن يبدو منطقياً وعملياً: الحد من عمليات تبييض الأموال ومن الجرائم على أنواعها ولجم التزوير وضبط محاولات التهرب من الضرائب وتخفيف الضغط عن المصارف في توفير السيولة النقدية ومنع المضاربات على العملات. من أجل كل ذلك تسعى المصارف المركزية لخلق عملات وطنية رقمية تحل محل العملات الورقية والمعدنية على أمل أن تتمكن من تحفيز إقتصاد رقمي "نظيف" وتخفيف كلفة طبع وتوزيع النقد الورقي. ولكن ما سيأتي مع العملات الرقمية هو رقابة لصيقة على طريقة صرف الناس لأموالهم، تؤسس لإمكانية التحكم في كيفية استخدام المال إلى حد توجيه الإنفاق إلى حيث تريد.

الصين سبقت الجميع

 أطلقت الصين منذ حوالي شهرين في عدة مدن عملتها الإليكترونية اليوان الرقمي. التحضير لذلك استغرق خمس سنوات. ماذا يعني ذلك؟ البنك المركزي الصيني يوزع اليوان الرقمي على المصارف التي تضع في حسابات زبائنها ما يسمى بالمحفظة الرقمية، مما يسمح لهم بالإنفاق منها في مختلف نقاط البيع. مقابل ذلك تودع المصارف القيمة الرقمية نفسها وليس نسبة منها كاحتياطي في البنك المركزي. يسمح ذلك للبنك المركزي الصيني أو أي بنك مركزي آخر بمتابعة الإنفاق في الاقتصاد ومعرفة أين يذهب مال الناس وفي أي قطاعات، الأمر الذي لم يكن ممكناً في حالة العملات الورقية أو المعدنية. تنوي الصين توسيع استخدام اليوان الرقمي إلى كل أنحاء البلاد خلال سنتين والتحضير لإلغاء التعامل الورقي. سيساعدها ذلك في زيادة التعامل الدولي بعملتها الرقمية والحد من هيمنة الدولار على التعاملات المالية الدولية. ستتمكن الصين أيضاً عبر طرح عملتها الرقمية وتعميمها من محاصرة الفساد المتفشي في دوائرها الحكومية ومن تجفيف مصادر تمويل الإرهاب والجرائم المالية وتبييض الأموال.

الهند تحارب الاقتصاد الورقي.. الأسود 

 

[caption id="attachment_84110" align="alignleft" width="354"] رئيس وزراء الهند "نارندرا مودي": أول من أعلن الحرب على النقد الورقي.[/caption]

في ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦ ألغت الهند العملات الورقية من فئة ٥٠٠ و ١٠٠٠  روبية وأعطت حامليها مهلة اسابيع لاستبدالها في البنوك بما يعادلها من فئات أقل قيمة. هز هذا القرار المفاجئ الأسواق المالية الهندية وتسبب في تراجع حاد للنمو. الهدف منه كان القضاء على ما يسمى باقتصاد الظل القائم على التعامل النقدي الورقي والذي كان يسمح بالتهرب من الضرائب وبتمويل مختلف عمليات تبييض الأموال. تمكنت المصارف الهندية من جمع ما يوازي ٢٠٠ مليار دولار من النقود وتم تقدير ذلك بحوالي ٩٥ بالمئة من كل النقد الورقي الموجود في الهند. صحيح أن الخمسة بالمئة الباقية أي حوالي ١٠ مليارات دولار كافية للإبقاء على الاقتصاد غير الشرعي ولكن الهند نجحت إلى حد كبير في التضييق على المساهمين في اقتصاد الظل وزيادة مداخيلها من الضرائب. وها هي الهند اليوم تسعى إلى اللحاق بسرعة بالصين عبر طرح "الروبية الرقمية" للخروج نهائياً من الاقتصاد الورقي. 

طموحات صندوق النقد الدولي... المشبوهة

 في الوقت نفسه الذي كانت الصين تطرح عملتها الرقمية وتحديداً في ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي صرحت رئيسة صندوق النقد الدولي البلغارية "كريستالينا جورجيفا" أن العالم بحاجة إلى إتفاق "برتون وود" جديد. الإتفاق المذكور هو ما عقده الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٤ في مدينة "برتون وود" الأميركية لإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتنمية وإعادة الإعمار الذي سمي بعد ذلك بالبنك الدولي. كما اتفقت الدول المجتمعة على ربط عملتها بالذهب والتفاهم على سعر صرف فيما بينها قائم على الربط بالذهب. اليوم تريد "جورجيفا" طرح المبادئ المالية نفسها التي إتفق عليها عام ١٩٤٤ عن طريق التوافق على عملة رقمية موحدة يطلقها صندوق النقد وتصبح العملة العالمية الرئيسية. وفقط بهذه العملة يمكن ساعتها أن تحصل الدول على مساعدات وقروض. يتيح ذلك لصندوق النقد الهيمنة المالية الكاملة على الدولة المقترضة التي من المفروض أن تعيد المال المستدان بعملة الصندوق نفسها وبالتالي

[caption id="attachment_84109" align="alignleft" width="334"] رئيسة صندوق النقد الدولي "كريستالينا جورجيفا": السيطرة على الدول من خلال رقمنة القروض والمساعدات.[/caption]

سيتوجب على البنوك المركزية حول العالم ربط عملتها الوطنية بعملة صندوق النقد بدل ربطها بالدولار أو بسلة عملات. وكما عانت الدول النامية أو دول العالم الثالث من تبعات ربط عملتها بعملة مثل الدولار ستصبح ماليتها وبنكها المركزي عندما ترتبط بالعملة الرقمية لصندوق النقد مجرد أدوات لتنفيذ سياسات الصندوق. 

وداعاً للمصارف التجارية 

تهافت البنوك المركزية لإصدار عملة رقمية وطنية مفهوم. ولكن مفاعيله ستكون كبيرة وخطيرة. فمع انتشار النقد الرقمي لن تصبح هناك حاجة للبنوك كما نعرفها اليوم. فباستطاعة أي فرد أو مؤسسة الحصول على محافظ رقمية من دون أن تكون هذه الأموال في المصارف بل يكفي أن تكون موجودة في خوادم إلكترونية. ويمكن لأصحاب المحافظ الرقمية الإنفاق منها من دون أي حاجة إلى مصرف. أما موضوع الاستدانة فيمكن أن يديرها المصرف المركزي مباشرة أو عدد محدود من البنوك المتخصصة في منح القروض من دون أن تكون هناك ودائع مقابلة. ولكن الأهم في مسألة طرح العملات الرقمية هو قدرة البنك المركزي في أي دولة على التحكم في مسارات الإنفاق عبر تشجيع الإنفاق في قطاعات معينة عن طريق رفع الفوائد أو منح تحفيزات لذلك مقابل تخفيف الفوائد بل حتى تكليف الإنفاق في قطاعات أخرى. كما يمكن للشركات الكبيرة أن تؤثر في إنفاق الأموال عن طريق تشجيع وضع المحافظ الإلكترونية لديها وتحفيز شراء بضائعها. 

العملات الرقمية آتية شئنا أو أبينا. لن تكون هي الخلاص الكامل ،وهي ستكون معرضة لكل أنواع القرصنة الإلكترونية. كما أنها ستكون جاسوساً على كل أساليب الإنفاق في حياتنا. الأفضل الاستعداد من الآن إلى أمرين أساسيين: أولاً لإنتهاء العملات المعروفة وثانياً لانتهاء دور المصارف في حفظ الودائع. هذا يعني ضرورة التخلص من الودائع بالعملات التقليدية وتحويلها باكراً إلى ذهب وأصول ذات قيمة وحتى إلى عملات رقمية مثل الموجودة حالياً "كالبتكوين" أو "إثيريوم". من دون ذلك يمكن أن يصحو أصحاب الودائع بالدولار أو اليورو ليجدوا أن جزءاً من مدخراتهم فقد قيمته تماماً بين ليلة وضحاها.