لا يمكن وضع التفجيرات الارهابية التي حصلت في مناطق لبنانية بعيداً عن ارتدادات الأحداث السورية وامتداداتها، وذلك بسبب مشاركة أطراف لبنانية فيها، ولا يمكن عزل الاستحقاق الرئاسي في لبنان عن الصراع الدائر هناك، لكن هذا الامر لا يُلغي انه مرتبط بمدى اتفاق الاطراف اللبنانية على الخروج من دائرة هذا الصراع والتوافق على مرشح للرئاسة، وما رفض حزب الله للدعوات لانسحابه من الحرب الدائرة في سوريا، سوى دليل إضافي على ارتباطه بالتحالف القائم بين ايران وسوريا، فالشعب السوري قد ينسى مآسي النظام إذا وقعت المصالحة بينهما، ولكن مشاركة الحزب ستبقى في الذاكرة.
ومع العلامة السيد علي الأمين كان هذا الحوار:
ــ ما هي قراءتكم لموجة التفجيرات الأخيرة التي ضربت في العمق اللبناني؟
- نحن نرى أن التفجيرات التي حصلت في مناطق لبنانية متعددة هي من ارتدادات الاحداث الجارية على الاراضي السورية، وامتداداتها بسبب مشاركة أطراف لبنانية فيها وان مواجهة هذه التفجيرات الارهابية المُدانة يكون من خلال وقوف اللبنانيين جميعاً وراء قيام الدولة اللبنانية بواجبات بسط سلطتها الوحيدة على كل الاراضي اللبنانية، وضبط الحدود مع سورية ومنع دخول السلاح والمسلحين منها وإليها، وبذلك تتحقق سياسة النأي بالنفس التي أعلنت عنها الحكومة اللبنانية.
ــ لماذا يرفض حزب الله كل الدعوات لسحب مقاتليه من سوريا وهل يسعى لانتزاع اعتراف دولي بحجمه العسكري؟
- إن رفض حزب الله لدعوات انسحابه من سوريا يرجع فيما نرى الى ارتباطه بالتحالف القائم بين ايران وسوريا، وما كان الحزب ليتدخل في القتال على الأراضي السورية بمعزل عن هذا التحالف. ولا نعتقد أنه يسعى لانتزاع اعتراف دولي بحجمه من خلال تدخله العسكري الى جانب النظام السوري، لأن تدخله هناك جعله يخسر الكثير من التأييد الشعبي له داخل سوريا وخارجها، ولا قيمة لأي اعتراف دولي بحجمه العسكري من خلال استمرار مشاركته في القتال هناك الذي لا يحصد منه سوى المزيد من الخسائر. وإذا تمت التسوية بين النظام والمعارضة، فسيكون الحزب أكبر الخاسرين، لأن الشعب السوري قد ينسى مآسيه مع النظام، ولكنه سوف يحمّل حزب الله تلك المآسي والخسائر، وسوف يبقى ذلك في ذاكرة الشعب السوري، وهذه الخسارة هي الخسارة الكبرى لحزب الله.
ــ بعدما شكلت الحكومة، هل يمكن مقاربة الاستحقاق الرئاسي بالأطر الدستورية، أم أن الامور ذاهبة الى الفارغ؟
- من الصعب جداً عزل الاستحقاق الرئاسي عن الصراع الدائر على الاراضي السورية، ولذلك سيكون الاستحقاق مرتبطاً بمدى اتفاق الاطراف اللبنانية على الخروج من دائرة الصراع السوري والتوافق على مرشح لرئاسة الجمهورية، وإذا لم يحصل ذلك، فنحن ذاهبون الى الفراغ الذي يزيد الامور تعقيداً ويفتح البلاد على المجهول!
العرب هم الأقدر على منع الفتنة
ــ هل أصبح فتيل الفتنة السنية - الشيعية قابلاً للاشتعال، أم أن الأمور تحت السيطرة؟
- المطلوب من ولاة الامر في الدول العربية والاسلامية القيام بكل ما يلزم لمنع الفتنة وإبعادها عن المسلمين، وهم يمتلكون كل الاسباب لتظهير خطاب الاعتدال وإبعاد خطاب التطرّف والتقليل من آثاره السلبية على الرأي العام، ونحن نرى أن من السبل التي تخرجنا من هذه الحالة الطائفية التي تهدد الاستقرار والوحدة في لبنان خصوصاً والمنطقة عموماً، أن يجتمع أهل الاعتدال من مختلف الطوائف من المثقفين ورجال الدين والسياسيين لإنشاء إطار يجمعهم ليكون خطابهم أكثر تأثيراً وفاعلية في الرأي العام. وتقع المسؤولية الكبرى على ولاة الأمر والحكام في دولنا العربية والاسلامية في تظهير ودعم الاعتدال الديني والعمل على تنظيم السلك الديني وإقامة معاهد مشتركة للعلوم الدينية، واعتماد الوسائل الاعلامية والقنوات التلفزيونية التي تنشر فكر الوسطية والاعتدال في المجتمع، وبذلك تنتشر ثقافة الاعتدال التي تضعف حجج التطرّف وتبطلها.
ــ هل صحيح أن الطائفة الشيعية باتت مستهدفة في هذه المرحلة؟ وما هي الأسباب برأيكم؟
- لا نعتبر المسلمين الشيعة مستهدفين كمذهب ولا كطائفة لبنانية، لأن الشيعة عاشوا مع غيرهم من الطوائف في لبنان والمنطقة قروناً، ولم يكن هناك استهداف من طائفة لأخرى، ولكن الذي برز أخيراً في المنطقة هو وصول بعض القوى اللبنانية الى الحكم بعناوين دينية وصفات مذهبية، مما هيأ لولادة أحزاب دينية وطائفية وانتقالها من موقع الدعوى والأرشاد الى الدخول في عالم السلطة والصراع عليها بوسائل غير سياسية، مما أوجد لهم مشكلة مع شركائهم في الوطن كما حصل في لبنان، وهذا ما جعل العناوين الطائفية محلاً وموضعاً لتسليط الأضواء والاستغلال لها من الطامعين بزرع الانقسامات في مجتمعاتنا وامتنا طمعاً بإضعافها وتفكيك عرى وحدتها من الداخل. ولا شك أن الأسباب التي جعلت من الشيعة اللبنانيين وغيرهم في واجهة الأحداث في لبنان والمنطقة، هي السياسة التي اعتمدتها قيادات الأحزاب الشيعية المحلية في الارتباط بسياسة النظام الإيراني الإقليمية. وانخراط حزب الله أخيراً في القتال على الأراضي السورية، زاد من الاحتقانات المذهبية ومن ارتداداتها على الطائفة الشيعية.
العمليات الانتحارية
ــ ما مدى مشروعية العمليات الانتحارية التي تحصل في لبنان من وجهة نظركم الدينية والأخلاقية؟
- نحن قد عبّرنا عن الرأي الديني في دروسنا الفقهية عن حرمة العمليات الانتحارية والارهابية، وهي تعتبر في الشرع من كبائر الإثم والعدوان، وهي بالتالي من أسوأ الجرائم التي يرتكبها الانسان ضد أخيه الانسان، وقلنا إن الأعمال الانتحارية لا ترتبط بدين أو طائفة أو منطقة، ونرى أن مثل هذه العمليات لا تصح نسبتها لغير فاعلها، بلا نظر الى لونه أو معتقده وجنسيته، وهي تتولد عادة من ارادة سيئ النية وفاسد الطوية التي تزرعها في نفس صاحبها ثقافة الحقد والكراهية العمياء التي تتولد في اغلب الأحيان من الانتماء الى تنظيمات وأحزاب تعمل في سبيل تحقيق طموحاتها السلطوية ومشاريعها السياسية على تعبئة نفوس عناصر بمشاعر العداوة والبغضاء، وتزين لهم سفك الدماء وقتل الأبرياء تحت عناوين الجهاد والنضال.
ــ هل أنتم مستعدون للقيام بمبادرات باتجاه حزب الله وغيره للتقريب في وجهات النظر؟
- بكل تأكيد نحن مستعدون للقيام بأية مبادرة باتجاه الحوار مع الحزب وغيره في أسباب هذه الأزمة، لأننا من المقتنعين بأن حزب الله يمكن أن يلعب دوراً ايجابياً ومؤثراً في وضع حد لتصاعد الاحتقانات المذهبية ومخاطرها، والمطلوب منه أيضاً أن يستمع للرأي الناقد له، لأن صاحب هذا الرأي قد يكون من الذين لا يريدون له التورط والابتعاد عن دوره البنّاء في قضايا الوحدة الإسلامية والوطنية، وهذا بخلاف الذين يسكتون عن نقده أو الذين يكيلون له المديح ممن يريدون له المزيد من التورط في الصراعات الداخلية والخارجية التي تبعده عنها.
ــ ما هي حقيقة الصراع الحالي؟ سياسي أم مذهبي؟ وما هو الحل برأيكم؟
- لقد ذكرنا مراراً أن السبب الرئيسي في ظهور الطائفية العنيفة على سطح مجتمعاتنا، يعود الى الصراع على السلطة والنفوذ بين الاحزاب الدينية والجماعات السياسية في الداخل، وبين دول اقليمية على مستوى الخارج، وقد زاد من حدته غياب العلاقات الطبيعية بين الدول العربية والاسلامية في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث العراق. وقد يحاول بعضهم إعطاء العناوين الطائفية والمذهبية للصراع، ليحصل على الاصطفاف الطائفي وراء مشروعه السياسي وطموحاته الحقيقية. والمسلمون السنّة والشيعة عاشوا إخواناً في مجتمعاتهم وأوطانهم قروناً عديدة وسيبقون كذلك الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كانوا يختلفون في قضايا تاريخية ودينية تبعاً لاختلاف الاجتهادات، ولم يؤثر ذلك على حياتهم الطبيعية، لأنه لم يكن هناك صراع على السلطة والحكم.
نحن وولاية الفقيه
ــ مـــــا هـــــو رأيكم بولايـــــة الفقيـــه وتطبيقها المعاصر؟ وهـــل ســــاهمت هــــذه الفكرة في تقـــــريب الشـــــيعة مــــن بقيــــــة المــــــذاهب؟
- إن مسألة ولاية الفقيه انتقلت من علم الفقه الى عالم السياسة لإعطاء الصفة الدينية للسلطة، وقد أصبح النظام السياسي في ايران قائماً على بعض تفسيراتها، وهي ما تزال محل رفض وقبول عند علماء المذهب الشيعي، خصوصاً على المستوى السياسي، وقد تجلى هذا الرفض مرات عديدة في حركات شعبية ودينية داخل ايران نفسها، وهي في كل حال نظرية خاصة لا تلقى القبول في المجتمعات التعددية التي لا تؤمن بها على مستوى الفقه المذهبي أو على المستوى الديني، وهذا ما يشكل مانعاً من قبولها عندهم على المستوى السياسي في حكم البلاد وإدارة شؤونها، وهو ما يؤدي الى تغليب رؤية فقهية ذات صفة مذهبية على الآخرين الرافضين لها وعلى الذين لا يؤمنون بها أصلاً، وهذا ما يفتح الطريق لظهور الخلافات المذهبية والطائفية، خصوصاً عندما تواكبها سياسة التمييز بين المواطنين، مع أن الدولة في طبيعتها ينبغي أن تكون مدنية تقوم على عقد اجتماعي بين كل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية، كما حصل في وثيقة المدينة المنورة التي جمعت كل مكونات المجتمع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أراد التوسع في نظرية ولاية الفقيه فبإمكانه الرجوع الى كتابنا (ولاية الدولة ودولة الفقيه)، حيث ناقشنا فيه هذه النظرية على المستوى الفقهي.
ــ ما السبيل الصحيح لتبصير الشعب بمخاطر اختلاط السياسة بالدين؟
- من أهم الوسائل المانعة من اختلاط الديني بالسياسي واستثمار مقدسات الدين في الخلافات السياسية، هو العمل على نشر الوعي الديني الذي يعطي المواطنين القدرة على التمييز بين الشأن الديني والشأن السياسي، والبيان لهم أن الدين ليس هادفاً للامساك بالسلطة والنظام، وأن الدين لا تتنافى أهدافه مع العدالة والاستقرار التي يحققها النظام السياسي الذي ارتضاه الشعب في بلاده. ومن الوسائل النافعة في هذا المجال، العمل على تنظيم قيام الأحزاب على أسس من البرامج السياسية والاجتماعية والثقافية، بعيداً عن احتكار الصفة الدينية التي توحي للقواعد الشعبية وكأن الخلاف السياسي بين بعض الأحزاب والنظام وغيره، يجري بين أتباع الدين والمخالفين للدين! فإن الشرعية الدينية للحاكم والدولة لا تأتي من الانتماء للأحزاب الدينية، وإنما من خلال مؤسسات الدولة التي ارتضاها الشعب ومن خلال العمل المتواصل لتحقيق الحياة الآمنة للشعب، وتطويرها والحفاظ على حقوقه، ومن إرساء قواعد النظام الشامل لأمن البلاد ومصالح العباد.
ــ ما هي نصيحتكم لجيل الشباب لكي يتغلبوا على مصاعب الطائفية والمرحلة المقبلة؟
- أتوجه الى شبابنا بالقول لهم: أنتم أمل الأوطان، وأمل الأمة في بناء مستقبلها وتعزيز مكانتها والوصول بها الى موقعها الريادي اللائق بها في العالم، وأنتم تعلمون - أيها الأمل الواعد - من خلال تاريخنا وقرآننا المجيد، أن وحدة الكلمة كانت في أساس البنيان المرصوص لأمتنا، كما قال الله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)، وكما في قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)، ولذلك فإن المطلوب منا جميعاً أن نبتعد عن كل عوامل الفرقة والانقسام، وأن ندرك أن وحدة الأمة هي من مقاصد شريعتنا السمحاء، وبهذا المقصد الشريف يعرف شبابنا بطلان كل دعوة تريد جعلنا طوائف ومذاهب متناحرة تحت شعار الدين، فإن الدين هو داعية وحدة وليس داعية فرقة.