في الوقت الذي تنشغل الأوساط السياسية اللبنانية في ملء الفراغ الحاصل على مختلف المستويات بالجدال حول التمديد لمجلس النواب قبل انتهاء ولايته الممددة أصلاً في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، دخلت المبادرة التي أعلن عنها رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون في 30 حزيران (يونيو) الماضي إلى مجلس النواب بعد شهرين من السجالات حولها من خلال الاقتراح الذي تقدم به 10 نواب من «التيار الوطني الحر» لتعديل المادة 49 من الدستور وتحديداً الفقرة المتعلقة بآلية انتخاب رئيس الجمهورية، بحيث ينتخب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر على دورتين: دورة تأهيلية يختار فيها المواطنون اللبنانيون من مختلف الطوائف المسيحية منافسين اثنين لموقع رئاسة الجمهورية وفقاً لترتيب عدد الأصوات التي ينالها كل المتنافسين ودورة ثانية ينتخب فيها المواطنون اللبنانيون على اختلاف طوائفهم المسيحية والإسلامية رئيساً للجمهورية من المرشحين الاثنين اللذين تأهلا في الدورة الأولى، ويعتبر فائزاً الأكبر سناً عند تساوي الأصوات...
وفيما اعتبر أمين سر «تكتل التغيير والإصلاح» النائب إبراهيم كنعان أن هذه الآلية المقترحة تؤدي إلى انتخاب الرئيس القوي في طائفته «والقادر على التواصل مع جميع مكونات المجتمع اللبناني»، اعتبر نواب في التيار البرتقالي أن هذا الانتخاب من الشعب يؤمن الشراكة الحقيقية ويحرّر موقع الرئاسة من الضغوط الخارجية. أما عن توقيت طرح التعديل، فقال كنعان إن التمديد الأول للمجلس النيابي حصل وكان من المفترض أن تحصل الانتخابات النيابية العام 2013، «ونحن اليوم بتنا على مشارف الانتهاء من العام 2014 ولم يقر قانون انتخابات بعد وليس هناك في الأفق تحضير جدي للانتخابات النيابية رغم كثرة التبريرات».
«8 آذار» تتريث... و«14 آذار» تعترض بقوة
وإذا كان توقيع اقتراح القانون قد اقتصر على نواب التيار العشرة من دون نواب «المردة» و«الطاشناق»، فإن لذلك دلالة واضحة وهي «أبوة» زعيم «التيار الوطني الحر» العماد عون لهذا الاقتراح الذي كان النائب سليمان فرنجية قال عندما أعلن عون المبادرة أنه لم يُسأل عن رأيه مسبقاً فيها، فيما تحفظ نواب «الطاشناق» عن إعلان أي موقف في حينه وفضلوا التريث. أما الحلفاء الشيعة في «8 آذار»، فآثروا «النأي بالنفس» على مستوى نواب حزب الله والرفض غير المباشر على مستوى حركة «أمل»، إذ صدر تعليق «مشغول بعناية» عن المعاون السياسي للرئيس نبيه بري وزير المال علي حسن خليل قال فيه إن اقتراح نواب عون «يتطلب توافقات ربما لا تستطيع اللحظة السياسية تأمينها»، مع الإشارة إلى أن مجلس النواب موجود في دورة استثنائية وليس في دورة عادية فضلاً عن أن أي تعديلات دستورية بحاجة إلى مناخ من التفاهمات الداخلية وهذا الموقف كرره الرئيس بري بشكل دستوري متوقفاً فقط عند الإشارة إلى أن التعديل الدستوري يتم في دورة عادية والمجلس النيابي اليوم في عقد استثنائي.
أما على جبهة «14 آذار»، فكان رفض اقتراح النواب العونيين القاسم المشترك لكل التعليقات التي صدرت عن وزراء «14 آذار» ونوابها، وتفاوتت بين الانتقاد العنيف وبين اتهامات بإسقاط النظام والطائف وصولاً إلى حد وصف البعض لاقتراح القانون بـ«المزحة السمجة». وذهب المنتقدون من مختلف أطياف «ثورة الأرز» إلى حد القول إن الاقتراح «مفصّل على قياس ميشال عون»، وهو ليس تعديلاً للدستور فحسب بل تعديل للنظام من خلال تحويله إلى نظام رئاسي، إضافة إلى أنه يحدث تمييزاً بين المواطنين بحيث يعطي الحق لبعضهم لينتخب مرتين، بينما البعض الآخر يحق له الانتخاب مرة واحدة. ورأى بعض المتحدثين في «14 آذار» أن في الاقتراح «كمية من التهور» لأنه يفتح الباب أمام تعديلات تطالب بها فئات أخرى، وسألوا: «لو انتخب العماد عون رئيساً للجمهورية، هل كان هذا الاقتراح قد طُرح للتداول السياسي؟».
نواب عون: لا رغبة بتغيير الطائف
ورغم وجود رغبة لدى العونيين بعدم الدخول في سجال مع زملائهم المنتقدين للاقتراح، فإن القول إن الاقتراح هدفه ضرب اتفاق الطائف و«اللعب» بالصلاحيات الدستورية حتّم التأكيد على أن التعديل الدستوري المقترح يقتصر على آلية الانتخاب بحيث تصبح من الشعب وليس عبر مجلس النواب، من دون أي مساس بالصلاحيات أو أي تعديل لاتفاق الطائف واحترام «الحصص» الطائفية الميثاقية، بل إن «روحية» الطائف محفوظة ولا رغبة في أي تغيير في بنود الاتفاق الذي أصبح دستوراً. وبرر العونيون اقتراحهم بعجز المجلس النيابي تاريخياً عن انتخاب رئيس يجسد الإرادة الشعبية التي يفترض أنها أعطت النواب الوكالة لتمثيلهم، لكن «التسويات» هي التي أتت بالرؤساء قبل الطائف وبعده، كما كانت «المحادل» تأتي بالنواب خلافاً أحياناً للإرادة الشعبية. إضافة إلى الخلل المستمر في التمثيل المسيحي في المجلس النيابي بحيث تحول معظم النواب المسيحيين إلى «تابعين» للكتل الطائفية الأخرى. ويقول العونيون إن اقتراحهم يؤمن حلاً مستداماً لأزمة يمكن أن تتكرر مع كل انتخاب بحيث يعطي الاقتراح دينامية جديدة لعملية الانتخاب مع ما يتبعها من تعزيز لموقع الرئيس وحضوره.
درسه ينتظر الدورة العادية للمجلس
في أي حال، تقول مصادر سياسية متابعة إن اقتراح القانون بانتخاب الرئيس من الشعب مباشرة أضيف إلى سلسلة المواضيع الخلافية التي سيطول الجدال حولها خلال الأسابيع المقبلة لملء الفراغ في الحياة السياسية الناتج عن تعثر الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، ولن يُكتب له أن يصل إلى الهيئة العامة لمجلس النواب قبل بدء الدورة العادية للمجلس في أول ثلثاء يلي 15 تشرين الأول (أوكتوبر) المقبل، لأن المجلس في دورة استثنائية والدستور ينص في المادة 77 منه على أن مجلس النواب ينظر بناء على اقتراح 10 من أعضائه في إعادة النظر بالدستور «خلال عقد عادي» ولا بد من توافر أكثرية الثلثين للتعديل علماً أن الاقتراح الذي يصوت عليه النواب «يبلغه رئيس المجلس للحكومة طالباً أن تضع مشروع قانون في شأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر، وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية، فإذا أصر المجلس عليه بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً فلرئيس الجمهورية حينئذٍ إما استجابة المجلس لرغبته أو الطلب من مجلس الوزراء حلّه وإجراء انتخابات جديدة خلال ثلاثة أشهر، فإذا أصر المجلس الجديد على وجوب التعديل وجب على الحكومة الانصياع وطرح مشروع التعديل في مدة أربعة أشهر».
وعليه، تضيف المصادر نفسها، فإن الآلية المعتمدة لتعديل الدستور عندما يكون الاقتراح من النواب هي آلية معقدة في الحالات العادية، فكيف في الحالات الاستثنائية التي يمر فيها الواقع السياسي، حيث لا رئيس جمهورية ولا مجلس نيابياً تتوافر غالبية الثلثين من أعضائه لانعقاده، إضافة إلى كون التناقضات والتجاذبات السياسية تجعل الحكومة مشلولة عندما يصل الأمر إلى اتخاذ قرارات على مستوى تعديل الدستورفي ظل اعتراض فئة سياسية وازنة على ذلك. من هنا، تقول المصادر السياسية إن اقتراح النواب العونيين سيبقى مادة للنقاش السياسي ولن يُطرح أمام الهيئة العامة للمجلس أقله حتى بدء الدورة العادية في منتصف تشرين الأول (أوكتوبر) المقبل، وإذا طُرح فهل في إمكان «التيار الوطني الحر» تأمين غالبية الثلثين لدرسه، وهو العاجز عن توفير هذا النصاب لانتخاب «عماده» رئيساً للجمهورية نتيجة التجاذبات السياسية الحادة التي «شطرت» مجلس النواب إلى فريقين لن يكون من السهل جمعهما على خيارات واحدة لا سيما الخيار الرئاسي!
ماذا عن صلاحيات الرئيس؟
ولفتت المصادر نفسها إلى أن الاقتراح العوني يواجه، إلى جانب عقدة تعديل الدستور، واقع الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية في ظل دستور الطائف، فكيف إذا أصبح الرئيس منتخباً من الشعب، ما يفرض إعادة النظر في هذه الصلاحيات لتتناسب مع التمثيل الشعبي الذي يتمتع به الرئيس المنتخب من الشعب لا سيما وأنه نال وكالته من الشعب مباشرة، وهذه القاعدة المعتمدة في الأنظمة الرئاسية ما سيستدعي، بالتزامن، تبديلاً للنظام اللبناني، من برلماني ديموقراطي إلى رئاسي ديموقراطي، إذ لا يمكن أن يكون النظام برلمانياً ورئاسياً في آن واحد.
وأضافت هذه المصادر أن «فتح الباب» على انتخاب الرئيس من الشعب قد يجر إلى المطالبة بعدم حصر التمثيل الرئاسي الشعبي بطائفة معينة وبالتالي يمكن أن تنسحب هذه المطالبة على الرئاسات الثلاث، أو في أحسن الحالات سترتفع أصوات تنادي بالمداورة في الرئاسات الثلاث بين الموارنة والشيعة والسنّة، ما يمكن أن يحرك مجدداً المطلب القديم ــ الجديد باستحداث مجلس الشيوخ تكون رئاسته مداورة بين الدروز والأرثوذكس!
ويقول قانونيون إن اعتماد النظام الرئاسي بديلاً للنظام البرلماني يرتب تبديلات جذرية في بنية النظام وأسس الدستور المعتمد منذ اتفاق الطائف، الأمر الذي يفرض قيام «حوار وطني» للتفاهم على التغييرات المفترضة، ما سيدفع إلى إعادة تحريك المادة 95 من الدستور التي تنص على تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي تتحفظ مرجعيات لبنانية سياسية ودينية على تأليفها منذ أن وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، فكيف في ظل الأوضاع الراهنة التي تشهد فيها الدول المجاورة للبنان مواجهات ذات طابع مذهبي، إضافة إلى ما يتعرض له المسيحيون في ا لعراق من اضطهاد وتنكيل على أيدي التنظيمات الإرهابية المتطرفة، بعدما وقعت أحداث مماثلة في سوريا ومصر واليمن.
النتيجة الأولى: تجميد الملف الرئاسي
في ضوء هذه المعطيات، تعتقد المراجع المتابعة للملف الرئاسي أن المحصلة الوحيدة للاقتراح العوني ستكون إبقاء ملف الاستحقاق الرئاسي مجمداً إلى النصف الثاني من شهر تشرين الأول (أوكتوبر) المقبل، موعد بدء الدورة العادية لمجلس النواب، لأن أي مراجعة مع العماد عون لبت مصير ترشيحه غير المعلن إلى المقعد الرئاسي قبل طرح اقتراح نوابه على مجلس النواب، لن تعطي نتيجة إذ سيتمسك «الجنرال» بموقفه المنادي بتعديل الدستور بهدف تأمين مشاركة حقيقية مسيحية ــ إسلامية في الانتخابات الرئاسية، ما لم تسفر الاتصالات الدولية والإقليمية عن توافق على الرئيس العتيد الذي قد يكون العماد عون أو من يدعمه لأن المعادلة واضحة وتفترض قراراً من عون بأن يقبل أن يكون «الناخب الأكبر» إذا تعذر أن يكون الرئيس العتيد!
فهل يكون تحرك الرئيس بري والنائب جنبلاط في هذا الاتجاه؟