بين العملية النوعية التي نفذها حزب الله يوم الأربعاء 28 كانون الثاني/ يناير الماضي في مزارع شبعا المحتلة ضد دورية اسرائيلية رداً على الهجوم الاسرائيلي على قافلة لحزب الله في القنيطرة، وبين المواقف غير المسبوقة التي أعلنها الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله يوم الجمعة 30 كانون الثاني/ يناير الماضي، مسافة زمنية لا تتعدى ثلاثة أيام، لكنها حملت الكثير من المتغيرات السياسية والأمنية التي يجدر التوقف عندها لاسيما في مسار المواجهة المستمرة بين حزب الله واسرائيل من جهة، وفي التداعيات السياسية على الساحة اللبنانية من جهة ثانية. صحيح ان تعادلاً قام بين حزب الله واسرائيل في نوعية اعتداء القنيطرة والرد في مزارع شبعا من حيث الشكل (قافلة للحزب في القنيطرة وقافلة للعدو في المزارع)، والتوقيت (وضح النهار مع فارق زمني قصير)، وعدد الشهداء (من حزب الله والحرس الثوري الإيراني)، والقتلى (في صفوف الإسرائيليين)، إلا أن الفارق كان كبيراً من حيث الأبعاد التي افرزتها الأحداث في القنيطرة ومزارع شبعا، خصوصاً بعدما أعلنه السيد نصر الله في الاحتفال الذي أقيم في مجمّع سيد الشهداء عند الضاحية الجنوبية، لاسيما إعلانه عدم الاعتراف بعد اليوم بما كان يسمى <قواعد الاشتباك> التي أرساها قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701، واستعداد المقاومة للذهاب <الى أبعد ما يتصوره أحد في هذا العالم>، ما يعني استطراداً إلغاء الاستراتيجية السابقة التي كانت تقضي بحصر القتال مع اسرائيل ضمن الحدود اللبنانية، وهو تطور نوعي في الخطاب والتخطيط والممارسة، متفلت من كل الضوابط السابقة غير المعلنة رسمياً، والتي كانت تقتضي بأن يكتفي الحزب بردود <مناسبة ومتوازنة> مع الاعتداءات الاسرائيلية التي كانت تستهدف مواقع في الجنوب اللبناني أو قوافل حزب الله المتنقلة بين سوريا ولبنان.
وترى مصادر معنية بمسار الصراع بين حزب الله واسرائيل ان السيد نصر الله وسّع إطار المواجهة مع العدو الى خارج الحدود اللبنانية وعلى المحاور التقليدية، وجعل من المصالح الإسرائيلية هدفاً دائماً للحزب خصوصاً بعد تحذيره من أن الرد على اغتيال أي كادر من حزب الله سيُردّ عليه في أي مكان وزمان، وأن اسرائيل ستتحمّل مسؤوليته. وفي رأي هذه المصادر أن معادلة <التوازن الردع> التي نشأت بعد حرب تموز/ يوليو 2006 لم تعد تقتصر على الأراضي اللبنانية الجنوبية والأراضي المحتلة على طول الحدود، بل باتت تشمل سوريا وفلسطين في الجغرافيا القتالية الجديدة، وربما إيران في المقاربة السياسية للمواجهة الدائمة مع اسرائيل، وهذا ما يفسر وجود رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي في الاحتفال الذي أقيم لتأبين شهداء اعتداء القنيطرة والذي استمع جيداً الى ما قاله السيد حسن نصر الله في كلمته التي حملت رسائل في اتجاهات مختلفة، لكنها ركزت خصوصاً في اتجاه اسرائيل رغم قول <السيد> ان حزب الله لا يريد الحرب.. لكنه لا يخشاها، أي انه - وفق المصادر نفسها - سيرد على أي اعتداء اسرائيلي جديد ولن يكون المبادر الى فتح جبهة أو أكثر.
ردود متفاوتة على كلام <السيد>
وإذا كانت ردود الفعل على عملية مزارع شبعا قد غلب عليها <التفهّم النسبي> أكثر من <الرفض المطلق>، لأن انتقاء حزب الله لمزارع شبعا للردّ على عملية القنيطرة يوفق بين حتمية الرد وبين الرغبة في عدم التصعيد لأن <المزارع> هي منطقة لبنانية محتلة تقع خارج نطاق القرار 1701 وتملك المقاومة فيها حق العمل العسكري قبل عملية الأربعاء وبعدها، فإن المواقف التي أعلنها السيد نصر الله في خطاب الجمعة لم تلقَ <التفهّم> نفسه لدى فريق 14 آذار، في حين تفاوتت ردود فعل فريق 8 آذار بين مؤيد بالمطلق وآخر متحفظ، وثالث منكفئ عن التعليق، وإن كان جميع من علّق وشرح وحلّل التقى على القول ان المنطقة صارت أمام <شكل جديد> من الصراع قد تكون له تداعيات متعددة الوجوه وليس بالضرورة الوجه العسكري فقط.
وفي وقت برّرت فيه مراجع رسمية عملية مزارع شبعا وراوحت ردود الفعل بين كونها <عملية نظيفة>، كما قال الرئيس نبيه بري الذي أضاف ان اسرائيل <دقـت الـباب وتلقت الجواب في المزارع>، وبين مواقف الرئيس تمام سلام وبيان مجلس الوزراء وإعلان وزارة الخارجية <لبنانية مزارع شبعا وحق المقاومة بالردّ>، بدا أن مواقف السيد نصر الله أحرجت الحكومة إذ تفادى الرئيس تمام سلام التعليق عليها وكذلك عدد من الوزراء <الوسطيين>، في حين حذرت أصوات وزارية ونيابية في 14 آذار من خطورة ما أعلنه <السيد> والذي سبّب - برأيها - <إحراجاً> للدولة اللبنانية والأمم المتحدة لأن إسقاط <قواعد الاشتباك> تمّ من دون علمهما، في وقت كان وضع هذه القواعد العام 2006 ملازماً لتطبيق جوانب أساسية من القرار 1701 في الجنوب الذي وضع حداً لـ<الأعمال العدائية> المتبادلة بين اسرائيل من جهة وبين المقاومة والجيش اللبناني من جهة ثانية، تمهيداً لإعلان وقف كامل ونهائي للنار، وهو ما لم يتم حتى الآن إذ لم يُطبّق من بنود القرار سوى وقف <الأعمال العدائية>، ولم يتم الانتقال الى <وقف النار>. وإذا كانت ردة فعل الرئيس فؤاد السنيورة هي الأقوى في صفوف 14 آذار عندما وصف كلام السيد نصر الله بأنه <متفرّد ومتسرّع ويلغي إرادة الشعب اللبناني ومؤسساته الدستورية ولا يملك أي تفويض>، فإن الانتقادات <الآذارية> الأخرى ركّزت على <مصادرة> السيد نصر الله صلاحيات الدولة اللبنانية وتفرّده بتقديم نفسه على أنه <مرجعية القرار> وأن <الأمر بات له> في ما خص إعلان الحرب والسلم، علماً أن هذه المسؤولية يتحملها مجلس الوزراء مجتمعاً استناداً الى الدستور، وليست من صلاحية أحد منفرداً حتى رئيس الجمهورية!
إلا أن مصادر مطلعة أشارت الى ان ثمة <مبالغة> في الحديث عن <إسقاط قواعد الاشتباك> التي أقرتها الأمم المتحدة ووافق عليها لبنان في حينه، لأن هذه <القواعد> مجمّدة أصلاً منذ سنوات نتيجة الاعتداءات الاسرائيلية المتتالية وخرقها السيادة اللبنانية براً وجواً وبحراً في مناسبات عدة، واستهداف الجيش اللبناني المنتشر جنوباً، والتي عجزت الأمم المتحدة من خلال قوات <اليونيفيل> عن وضع حدٍ لها، فضلاً عن العثور باستمرار على أسلحة ومستودعات ذخيرة جنوب الليطاني من دون أن تتمكن <اليونيفيل> من مصادرتها نتيجة <المواجهات> التي تحصل مع الأهالي الجنوبيين في القرى المعنية. ونتيجة ذلك <الجمود> الحاصل على <قواعد الاشتباك>، فإن إسقاطها أو إبقاءها قائمة لا يبدّل شيئاً في الواقع القائم على أرض الجنوب والمفتوح على احتمالات التصعيد دائماً من خلال ما يجري من حين الى آخر من تطورات عسكرية مفاجئة تتمكن القوات الدولية من لجمها حيناً وتفشل أحياناً، فتعمد الى ترحيلها الى اللقاءات الدورية التي تعقد في المقر الدولي في الناقورة بين ضباط الارتباط اللبنانيين والإسرائيليين والدوليين الذين كانوا <يوفقون> أحياناً في إيجاد مخارج تُبقي على الاستقرار ولو كان هشاً.
هل خُرق القرار 1701؟
وفيما تتوقع مصادر مطلعة أن تستمر ردود الفعل السياسية على مواقف السيد نصر الله بعد عملية مزارع شبعا من دون أن تعطّل مفاعيل الحوار القائم بين حزب الله وتيار <المستقبل>، لفتت هذه المصادر الى أن عملية <المزارع> والمعادلات التي أطلقها <السيد>، أثارت نقاشاً حول وضع القرار 1701 في ظل بروز مواقف لمسؤولين دوليين وديبلوماسيين اعتبرت أن عملية <المزارع> خرقت القرار 1701 لأنها تجاوزت <الخط الأزرق> المرسوم في منطقة <المزارع> والذي سبق للبنان أن احتج على قيام اسرائيل بخرقه. وقد سمعت الموفدة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة الى لبنان <سيغريد كاغ> (التي لم تمضِ أيام على بدء عملها الديبلوماسي في لبنان) موقفاً واضحاً من الرئيس سلام الذي قال فيه إن منطقة <المزارع> محتلة وان حزب الله استهدف دورية اسرائيلية كانت تمر فيها، من دون أن يتوسع سلام في النقاش حول <الخط الأزرق> وما إذا تعرض للخرق أم لا. أما السفير الفرنسي <باتريس باولي> الذي اتخذ موقفاً مماثلاً لموقف السيدة <كاغ> لجهة خرق القرار 1701، أضاف ان اسرائيل خرقت أيضاً القرار بقصفها مناطق لبنانية، فطلب من سلام العمل على تهدئة الوضع، كما كان قد طلب من السفيرين الأميركي <دايفيد هيل> والبريطاني <توم فليتشر>.
ولوحظ أن السيد نصر الله لم يشر في كلمته الى القرار 1701 في سياق حديثه عن <قواعد الاشتباك> ما فسرته مصادر معنية استمراراً لالتزام المقاومة بمندرجات القرار رغم عدم تطبيقه بدقة من قبل الإسرائيليين.
<إعلان بعبدا>... مستحيل التطبيق
وإذا كان الموقف اللبناني قد بدا حاسماً لجهة عدم خرق المقاومة للقرار 1701 وحمّل اسرائيل مسؤولية قصف المناطق اللبنانية ومواقع <اليونيفيل> والتسبب بقتل جندي إسباني في بلدة العباسية، وقدم شكوى الى مجلس الامن ضد اسرائيل اتهمها فيه بانتهاك السيادة اللبنانية والقرارات الدولية لاسيما منها القرار 1701، فإن ما حصل في مزارع شبعا وما تلاه من قصف اسرائيل ومن مواقف للسيد نصر الله أطاح عملياً بـ<إعلان بعبدا> الذي صدر بعد اجتماع <هيئة الحوار الوطني> في قصر بعبدا يوم 11 حزيران/ يونيو 2013 والذي استمر موضع جدل، لاسيما وان فرقاء في 8 آذار حضروا جلسة الحوار تلك أكدوا في مناسبات مختلفة أن ما سمي بـ<إعلان بعبدا> ليس سوى مبادئ عامة تُليت خلال الاجتماع، لكن لم يتم التصويت عليها كما لم تعرض على مجلس الوزراء ليقرها وفقاً للأصول القانونية والدستورية. وقد أتت تطورات الأسبوعين الماضيين لتثبت ان <إعلان بعبدا> غير قابل للتطبيق، وهو ما أشار إليه بوضوح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي دعا الى عدم <المزايدة> في المطالبة بتطبيق <إعلان بعبدا> لأن هذا الأمر <مستحيل>، مفضلاً الاهتمام بمعالجة الأمور الحياتية والاجتماعية مثل موضوع مكب النفايات والكهرباء وغيرها. وجدد جنبلاط القول باستحالة تطبيق <إعلان بعبدا> لأن الظروف غير ملائمة دولياً وإقليمياً، والأمر يبدأ من إيران ، وربما من المحادثات النووية الإيرانية - الأميركية. وفي رأي النائب جنبلاط أن <لا فائدة> اليوم من التأكيد على <إعلان بعبدا> لأن لحزب الله استراتيجية واضحة هي الدفاع عن لبنان والرد على أي عدوان اسرائيلي، وقد حصل الرد من خارج الإطار اللبناني، وإذا ما حصل اعتداء على لبنان، فلا حول ولا قوة، إذ علينا أن نتضامن جميعاً وراء الحزب وأهل الجنوب، وعلى اللبنانيين أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة اسرائيل، وهنا - يضيف جنبلاط - تزول كل المصطلحات لأنه أمام العدوان الاسرائيلي لا معنى للسفسطة الكلامية.
واعتبرت مرجع سياسية أن التطورات الأخيرة تجعل من <إعلان بعبدا> وما ورد فيه من عناوين <خارج السياق>، لاسيما وان لا مفاعيل دستورية أو قانونية له. ورأت هذه المراجع في كلام جنبلاط <مقاربة واقعية> لعدم جدوى <إعلان بعبدا> الذي تخطته الأحداث والتطورات في لبنان ودول الجوار والمنطقة كلها وظلت بنوده <شعارات> وعناوين لدولة <مثالية>، وهي افتقدت الى التطبيق منذ صدوره عن قصر بعبدا في العام 2012.
وأشارت المراجع نفسها الى ان <إعلان بعبدا> بات يشكل مادة خلافية بين اللبنانيين لأنه لم يلتزم أحد تطبيقه، بل بالعكس فإن ثمة مواقف لمرجعيات شاركت في <هيئة الحوار الوطني> تتناقض ومضمونه، إضافة الى عدم القدرة على التزام تطبيقه منذ صدوره حتى اليوم، علماً أن الرئيس السابق ميشال سليمان يحرص في كل مناسبة على التذكير به ويدعو الى تطبيقه وهو ما أثار النائب جنبلاط معتبراً أن تطبيق هذا الإعلان <مستحيل>، رغم قوله إنه من الذين وافقوا عليه عندما طرح على طاولة الحوار.