الأخبار التي ترد يومياً من شمال لبنان الى الأجهزة الأمنية تدعو فعلاً الى القلق مع تكاثر حوادث السرقات والاعتداءات والسلب في احياء عدة من عاصمة الشمال طرابلس حيث برزت التداعيات السلبية للازمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان مع تفاقم الاحداث بعد "انتفاضة 17 تشرين" وتراجع القدرة الشرائية لليرة اللبنانية حيال الدولار الأميركي وغيرها من التطورات الاجتماعية المتردية. وما يزيد الطين بلة ان صرخات الطرابلسيين لا تلقى اذاناً صاغية ومؤسسات الدولة واداراتها شبه غائبة خصوصاً تلك التي تعنى بالشأنين الاجتماعي والإنساني.
هذا الواقع المتردي أوجد بيئة صالحة لمنظمات غير حكومية ودول "صديقة" للدخول الى الفيحاء من البوابة الإنسانية، من دون ان تلقى أي مساءلة الحكومة وممثليها في طرابلس الذين يتفرجون على ما يجري في عاصمة الشمال من دون ان يحركوا ساكناً. وقد شجع هذا الواقع دولا عدة لـــ " الوجود" في طرابلس والشمال لخدمة أبناء المنطقة وتقديم المساعدات. فتركيا مثلاً بات حضورها لافتاً خلال الأشهر الماضية في الفيحاء وفي منطقة عكار على السواء، وجمعياتها الإنسانية والخيرية تتحرك على اكثر من خط لتعزيز هذا الحضور بالتعاون مع عدد من الجمعيات المحلية التي غابت عنها المساعدات اللبنانية، الرسمية او الخاصة لا فرق، لتحل محلها "التقديمات" التركية المتعددة الأنواع فنشأت جمعيات مشتركة وتنظيمات أهلية في الأحياء، لاسيما الفقيرة منها.
وصارت الاحتفالات تقام برعاية هذه المؤسسة اللبنانية - التركية او تلك على نحو طرح علامات استفهام كثيرة حول حقيقة الدور التركي في الشمال عموماً، وفي طرابلس خصوصاً، لاسيما وأن تقارير امنية كانت تحدثت عن "تمويل" تركي لعدد من المجموعات الشبابية التي كانت تتشارك في تحركات على الأرض تصاحبها اعمال شغب وعنف ومواجهة للقوى العسكرية والأمنية.
زيارة أميركية لافتة ...
وسط هذه الأجواء "حطت" في طرابلس الأسبوع الماضي السفيرة الأميركية في بيروت "دوروثي شيا" في زيارة رافقتها إجراءات امنية لافتة، "واستقرت" في غرفة التجارة والصناعة تحت عنوان استطلاع الأوضاع الاقتصادية العامة وتفعيل العلاقة بين القطاع الخاص في كل من لبنان وأميركا، إضافة الى المشاريع الإنمائية والتطويرية وقال الذين شاركوا في هذا الاجتماع ان حديث السفيرة الأميركية تمحور حول الإصلاحات الواجب اعتمادها وحكومة تسهر على تطبيقها، وفي العموم أيضاً تناولت شيا العوائق التي تواجه عملية التطوير في لبنان ومنها الفساد وغياب الشفافية والفرص المساعدة على النهوض بالاقتصاد اللبناني، ودعوتها في هذا السياق الى إعادة النظر بالتشريعات والقوانين، التي يجب ان تواكب متغيرات العصر الاقتصادية والاستثمارية. هذه المقدمة كانت للوصول الى "زبدة " الرؤية الأميركية لشمال لبنان وتحديداً المرافق العامة والاقتصادية التي اشارت الى ضرورة تفعيلها وتحدثت عنها في الاسم كالمرفأ ومعرض رشيد كرامي وصولاً الى المطار حيث اكدت السفيرة ان الحاجة باتت حيوية لدراسة كيفية تنشيطها. هذه المواقف الأميركية ليست الا بعض ما يتم التخطيط له على المستوى الخارجي وتحديداً الرؤية الأميركية الى عاصمة الشمال كمنفذ على الساحل الشرق اوسطي من سوريا الى تركيا وقبرص، وهذه المنطقة تعد بالمنظار الأميركي بعيدة عن بيئة حزب الله، ومن السهل التعامل
[caption id="attachment_84010" align="alignleft" width="375"] السفيرة الفرنسية "آن غريو" في دار الفتوى في طرابلس.[/caption]مع فعاليتها وحثهم على المضي بتلك المشاريع الاستراتيجية التي تخدم المصالح الأميركية.
واعتبر مشاركون في الاجتماع، ان حديث شيا عن المرفأ والمطار يعكس رغبة أميركية في ان تكون طرابلس ومنطقتها الاقتصادية البديل الممكن عن بيروت التي تخضع الإدارات فيها- حسب الرأي الأميركي- لارادة حزب الله من خلال الوزراء الذين يشاركون في الحكومة او بحكم الامر الواقع. اما مطار رينه معوض في القليعات، فتحدثت عنه السفيرة باهتمام لأنه يقع على خط حيوي ساحلي. وثمة من رأى في كلام السفيرة ان هناك دوراً لطرابلس في المستقبل يجعل الدول تهتم بها كثيراً في المرحلة الراهنة حيث التطلع اكثر نحو المشاريع التي يمكن ان تستقطب الشارع الشمالي عموماً والطرابلسي خصوصاً المتلقف للمساعدات الإنسانية في هذه الظروف الصعبة.
... وحضور فرنسي أيضاً
والواقع ان السفيرة الأميركية لم تكن الوحيدة التي زارت طرابلس، فزميلتها الفرنسية "آن غريو" ذهبت الى طرابلس عبر الخط الثقافي والديني واختارت دار الفتوى في عاصمة الشمال لتكون منبراً للحديث عن مزايا المدينة وتوضيحاً فرنسياً عن الموقف من الإسلام بعد الكلام الذي قاله الرئيس "ايمانويل ماكرون" واثار استياء وردود فعل إسلامية... ومن حضر لقاءات السفيرة "غريو" لاحظ ان الفرنسيين معنيين بكل التطورات التي يمكن ان تحصل وكلام مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام أمام ضيفته الفرنسية يتماهى مع كلام السفيرة الاميركية حيث عرض امامها لواقع الانكماش الاقتصادي والحاجة الماسة للاهتمام بالقطاعين الصحي والتربوي، والعمل على تطوير وتفعيل المرافق الاساسية في طرابلس والشمال من المعرض الى مطار القليعات في عكار وصولاً الى المرفأ والمنطقة الاقتصادية الخاصة ومصفاة النفط في البداوي. واختيار السفيرة "غريو" مقصود من الناحية الثقافية نظراً للابعاد التي تحملها المرأة على هذا المستوى والدور الذي يمكن ان تلعبه كجسر حوار ثقافي بين المكونات اللبنانية، في ظل وجود امني واستخباراتي لدول اوروبية اخرى ابعدت باريس عن هذه المهمة الى حد كبير، الى ما هو قادم خلف الحدود. فتذكر بزيارات النائب فيصل كرامي المستمرة الى تركيا والمشاريع التي تقدمها الاخيرة لعدد من القرى والبلدات التي يحمل ابناؤها الجنسية التركية، محذرة من التباينات الدولية والصراع الدائر اليوم في المنطقة وامكانية تأثيره على لبنان ومدينة طرابلس بالتحديد التي تبحث عن الدولة ولكن لا تجد الا الخارج في هذه البقعة الاستراتيجية المهمة القريبة من دول اقليمية لها اهميتها على الخارطة الجيوسياسية.
في أي حال، "الحراك الأميركي" والفرنسي صوب طرابلس، يقابله التحرك التركي المتعدد الوجوه، في وقت يتراجع فيه الحضور الرسمي اللبناني مع حديث متنامي حول إعطاء تركيا جنسيتها لعدد من الشماليين الراغبين في ذلك!....