بقلم جورج بشير
قبل أربع سنوات، رفع الرئيس الفرنسي يومئذٍ <نيكولا ساركوزي> إصبعه في وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في اجتماع العمل الذي عقد في قصر <الاليزيه> مقر رؤساء فرنسا، علامة احتجاج من <ساركوزي>، لا بل امتعاض من التحذير الذي أطلقه بطريرك الموارنة أمام رئيس فرنسا وخمسة من كبار معاونيه والذين يخططون معه سياسة فرنسا من مغبّة أي قرار فرنسي أو أوروبي - أميركي باستخدام العنف والعمل العسكري في سوريا لتغيير نظامها السياسي أو رئيسها بشار الأسد، لأن هذا العنف والعمل العسكري سيؤديان حتماً الى حرب أهلية داخل سوريا تكون لها مضاعفات سلبية على الدول المجاورة وفي طليعتها لبنان، ناهيك عن التداعيات السياسية بفعل مجازر القتل والتهجير والتدمير واحتلال الممتلكات، بدفع الشعب السوري ثمن أعمال العنف ستمتد تداعياتها حتماً الى الأقليات الاتنية في سوريا وفي طليعتها المسيحيون من سريان وآشوريين وكلدان، فضلاً عن الكرد والعلويين، وستنعكس سلباً على الوجود المسيحي في دول الشرق بكاملها، ولبنان في هذه الحال ليس في وسعه ان يتحمّل نتائج هذه الأعمال الحربية ومنها الحرب الأهلية والتدخل الخارجي، لأنه - أي لبنان - الى اليوم يا فخامة الرئيس <ساركوزي> ما زال يتحمّل عبء لجوء نصف مليون لاجئ فلسطيني يعيشون في المخيمات حياة لا تليق بكرامة الإنسان وأبسط حقوقه...
المراقبون والذين شاركوا في ذلك الاجتماع التاريخي بين رئيس فرنسا وكبار معاونيه من جهة، وبطريرك الموارنة وكبار معاونيه من جهة ثانية ما زالوا يذكرون، وللتاريخ كيف كانت عليه ردة فعل الرئيس الفرنسي معبّراً عنها برفع اصبعه في وجه البطريرك الماروني، واصفاً كلامه بأنه تعبير عن قلق في غير محله، لأن العملية التغييرية في سوريا لن تدوم أكثر من ثلاثة أو ستة أشهر على أبعد تقدير، ويرتاح الشعب السوري ويعود المهجرون - النازحون السوريون الى بلادهم لينعموا في ظل حكم ديموقراطي جديد ورئيس جديد...
.. وأما التطبيق؟!
فوجئ الجانب الفرنسي يومئذٍ بكلام البطريرك الراعي الذي ذكّر بموجبه رئيس فرنسا بأن سلفه رئيس فرنسا سنة 1948 وعد رسمياً بطريرك الموارنة في ذلك الحين (البطريرك أنطوان عريضة) بأن الفلسطينيين الذين نزحوا من وطنهم فلسطين بفعل أعمال العنف التي مارستها ميليشيات <الهاغاناه> الصهيونية بحقّهم لن تطول إقامتهم في لبنان والدول المجاورة أكثر من ثلاثة أو ستة أشهر، وسرعان ما يعودون الى وطنهم الأم فلسطين، ومنذ ما ينيف عن ستين عاماً زاد عدد اللاجئين الفلسطينيين النازحين الى لبنان ودول الجوار، وأصبحت الدول التي استضافتهم ومنها لبنان تنوء تحت عبء لجوئهم الاجتماعي والديموغرافي، تماماً كما هو الحال في لبنان والأردن وتركيا اليوم بالنسبة لمئات الآلاف بل لملايين النازحين السوريين بفعل ما تسببت به الحرب الاهلية والتدخل الخارجي، خصوصاً من فرنسا وأوروبا وبعض الدول العربية والشرق أوسطية ومنها اسرائيل وتركيا، بدعم أميركي واضح، مع الوعود العرقوبية التي ساقتها هذه الدول الى لبنان ودول الجوار عن <ان الحرب في سوريا ستنتهي خلال ثلاثة أو ستة أشهر ويسقط النظام السوري مع رئيسه>، وينمو نفوذ منظمات إرهابية عالمية باتت تهدد دول الغرب والشرق معاً بأمنها القومي وتزرع الإرهاب الفظيع مع ثقافة الذبح والتفجير والتدمير في كل مكان، فيما الدول المضيفة للنازحين وفي طليعتها لبنان تنوء تحت ثقل النزوح واللجوء، والدول التي غذت الحرب في سوريا والعراق ودعمتها ولا تزال تدعمها بالسلاح والمقاتلين والمال والتأييد السياسي بدورها خائفة من الإرهاب ومن انتقال الإرهابيين للعمل في أراضيها.
الرئيس الفرنسي السابق <نيكولا ساركوزي> الذي كان غائباً عن باريس بعد وصول البطريرك الراعي إليها بعث الى البطريرك الماروني بتمنٍ للقائه في باريس قبيل عودته الى لبنان يوم الأربعاء، أي بعد يوم من مغادرة الراعي لفرنسا، كونه مرتبطاً بمواعيد مسبقة في لبنان ومضطراً لمغادرة باريس يوم الثلاثاء الماضي في 28 نيسان/ أبريل بعيد اجتماعه في <الاليزيه> مع رئيس فرنسا الحالي <فرانسوا هولاند>.
طبعاً، الذين يعرفون طبيعة الصراع الانتخابي الدائر في فرنسا بين اليمنيين واليساريين والوسط يدركون انه ربما كانت طبيعة هذا الصراع قد فرضت على <ساركوزي> طلب مقابلة بطريرك الموارنة لأن الاحداث وتطوراتها في سوريا والعراق ومصر وليبيا، وخصوصاً ما واجه مسيحيي الشرق من متاعب وتداعيات هذه الحرب من تهجير وقتل وتدمير كنائس وأديرة وذبح ومجازر، وما أصاب الدول التي استضافت النازحين من مآسٍ اجتماعية وديموغرافية وأمنية، فضلاً عما أصابت هذه الحرب والتدخل الخارجي فيها ودعمها، أكدت صوابية التحليل، لا بل التحذير الذي أطلقه البطريرك الماروني الراعي قبل أربع سنوات من باريس ومن قصر <الاليزيه> بالذات، مما عرّضه نتيجة التسريب الفرنسي المشوّه لكلامه ولموقفه التحذيري لدول الغرب من مغبة التدخل في الحرب السورية الى حملة سياسية وإعلامية في بلده لبنان من لبنانيين موارنة ومسيحيين ومسلمين يناصبون النظام السوري العداء متهمين البطريرك زوراً بمحاولة الدفاع عن النظام والرئيس في سوريا بمواقفه...
استفاقة النائمين متأخرة
موقف بكركي والبطريرك الراعي لم يتبدّل، وهواجسه التي أعرب عنها في قصر <الاليزيه> تثبت للقاصي والداني انها كانت في محلها، <ولو أصغى إليه الفرنسيون والأوروبيون يومئذٍ قبل أربع سنوات ونيّف، لما كان حصل ما حصل أو ما هو متوقع أن يحصل ويتفاقم في دول الشرق من محاولة لاقتلاع المسيحيين من أوطانهم الأصلية بالعنف والإرهاب ومن تهديد يعاني منه الأوروبيون والعالم كله من تنامي الإرهاب واتساع نفوذه ومقدراته ومن تدفق النازحين السوريين والعراقيين الى لبنان ودول الجوار ودول الغرب في آن، مما دفع البطريرك الماروني وغيره في العالم الى رفع الصوت عالياً، لا بل الصرخة من جراء ما عاناه ويعانيه المسيحيون من حرب إبادة جماعية واقتلاع لهم من جذورهم. ولعلّ الصرخة الأعنف للبطريرك الماروني كانت تلك التي أطلقها في باريس من قلب منظمة الأونيسكو العالمية في ندوة للديبلوماسيين المعتمدين لدى هذه المنظمة، نظمها بنجاح رئيس بعثة لبنان الى هذه المنظمة السفير خليل كرم، وأعقبتها صرخة مماثلة في قصر <الاليزيه> يوم الثلاثاء الماضي خلال اللقاء الذي جمعه مع الرئيس <فرانسوا هولاند> وكبار معاونيه، بعد زيارة تاريخية لأرمينيا حيث شهد البطريرك الماروني مع زعماء العالم المدنيين والروحيين للمجازر الجماعية، لا بل لحرب الإبادة الأرمنية التي نفذها <الداعشيون> القدامى، أي رجال حكم الامبراطورية العثمانية ضد الأرمن، وضد شعوب الشرق والغرب التي استعمروها بقوة السلاح والعنف وبدعم غربي واضح يومئذٍ يشبه الدعم الذي يلقاه <داعشيو> هذه الأيام، والاهتمام الديبلوماسي من الأونيسكو بخطاب البطريرك، والنداء الذي أطلقه الى العالم باسم مسيحيي الشرق كان لافتاً بامتياز.
هل التاريخ يعيد نفسه؟!
أجل، مع اعتراف أكثرية السياسيين والإعلاميين والمراقبين في فرنسا بأن بطريرك الموارنة الكاردينال الراعي كان على حق فيما قاله وأعلنه أمام الرئيس الفرنسي <ساركوزي> وأعوانه قبل أربع سنوات، وان الهواجس التي أعرب عنها الراعي باسم اللبنانيين وباسم مسيحيي الشرق في ذلك الحين كانت في محلها، فإن المسؤولين الفرنسيين الذين وقعوا مع نظرائهم الأوروبيين والأميركيين في وحل الإرهاب والحروب الأهلية في سوريا والعراق ومصر وليبيا، باتوا اليوم يسألون عن الحل، وعما إذا في تصوّر اللبنانيين وفي طليعتهم البطريرك الماروني الذي التقاهم بالدور في الأيام الأخيرة من زيارته لفرنسا في باريس من <الاليزيه> الى <الكي دورسيه> الى <الماتينيون>، لأن ما فعلوه وضعهم كما وضع لبنان ودول المنطقة في المأزق الحرج تجاه الإرهاب والإرهابيين المحليين والآتين الى الشرق من الدول الأوروبية والعربية، ونتائج <الحرب العالمية> في سوريا والعراق التي لم تحقق أي هدف سياسي مما أعلن قبل أربع سنوات.
طبعاً، الحل لم يكن في جعبة البطريرك الآتي الى فرنسا حاملاً هموم بلده لبنان، وهموم النازحين اللاجئين إليه، وهم شغور رئاسة الدولة الذي دخل الشهر الأخير من السنة.
إذا كانت فرنسا تسأل عن الحل، وسائر البلدان الأوروبية أيضاً، وربما أميركا، فهل يملك بطريرك الموارنة الحل المنشود؟
نقل الراعي الى القيادة الفرنسية مطلبه المعلن والرامي الى تخفيف مصادر الدعم المالي واللوجستي والسياسي الذي يتلقاه الإرهابيون العاملون في سوريا والعراق ومصر، ومصادر هذا الدعم باتت معروفة، مع مطلب مضاعفة المساعدات للبنان لكي يتمكن من تحمّل الأعباء الملقاة عليه من جراء كثرة أعداد النازحين.. وأما شغور رئاسة الجمهورية اللبنانية الذي يشكو منه الفرنسيون كما اللبنانيون وفي طليعتهم البطريرك، فقد التقى الراعي مع <هولاند> في الاعتقاد بأن حل هذه المعضلة هو من مسؤولية زعماء وسياسيي لبنان، لأن الأطراف الخارجية تؤدي النصح، ولكن لا تستطيع الحلول محل اللبنانيين في الاتفاق على شخص الرئيس العتيد وانتخابه، لأن هذا الأمر من مسؤولية الجانب اللبناني. ماذا باستطاعة فرنسا أن تفعل؟ هل صحيح أن فرنسا أقصى ما يمكن أن تفعله تجاه حرب الإبادة والتهجير الجماعي لمسيحيي المشرق ان تمنح بعضهم إقامات وأذونات عمل وجوازات سفر في وجه أميركا وإسرائيل؟
البطريرك الماورني أطلق نداءً تاريخياً على منبر الأونيسكو في باريس يوم السبت الماضي باسم <بطاركة الشرق ومسيحييه> عشية زيارته لقصر <الاليزيه> واجتماعه مع الرئيس <فرانسوا هولاند>. وما سمعه هذا الأخير من البطريرك الراعي لم يختلف عما سمعه المسؤولون الفرنسيون الكبار الآخرون، والفارق هذه المرة هو اعتراف الفرنسيين بأن بطريرك الموارنة كان على حق قبل أربع سنوات... فهل يكررون الغلطة؟!