بقلم علي الحسيني
بالأمس لم يُعبّر اللبنانيون عن هوايتهم المُفضّلة في تناقل الصور ومقاطع <الفيديو> المصوّرة لأي عمليّة إنتحار أو مصيبة ما كما جرت العادة. وحدها الشابة نيكول عسّاف التي وضعت حدّاً لحياتها احتفظت بالمشهد الأخير من عمر طوت آخر فصوله بقفزة هي الأخيرة في حياتها.
قافلة من المنتحرين
نصري عكّاوي، آمنة اسماعيل، ستيفاني جاك الزغبي وغيرهم كثيرون قرروا وضع حد لحياتهم بطريقة مأساوية، إما رمياً بالرصاص او بإلقاء أنفسهم من أماكن عالية. آخر هؤلاء الطالبة في كلية الهندسة في الجامعة الاميركية نيكول عساف التي ألقت بنفسها منتصف الاسبوع الماضي من سطح مبنى قيد الإنشاء لتسقط جثة هامدة ولتبدأ بعد ذلك رحلة الأقاويل والاستنتاجات حول طبيعة الانتحار وخلفياته، فمنهم من عزى الأمر الى خلافات مع حبيبها، ومنهم من رأى في نمط العيش الذي تحياه سبباً أساسياً جعلها تقدم على الانتحار تحديداً بعد شيوع أنباء تتعلق بطبيعة علاقتها المتأرجحة نوعاً ما بوالدها الذي تزوج بعد وفاة والدتها، خصوصاً وانها كانت تعيش في منزل عمتها داخل المبنى نفسه الذي يسكنه والدها مع زوجته.
من هي نيكول عساف؟
هي طالبة هندسة مدنية في الجامعة الأميركية ومن مواليد العام 1993 وجدت الاسبوع الماضي جثة قرب حائط الطابق الأرضي من فندق <ميدتاون> في شارع الحمرا. وكانت معلومات أولية قد أشارت الى ان سبب الوفاة قد يكون سقوطها من مكان مرتفع، ولكن بعد التحقيقات تأكد سقوط نيكول من إحدى الطبقات المرتفعة التابعة لإحدى الورش الملاصقة للفندق المذكور من دون تأكيد إنكان سبب السقوط هو الانتحار أو انأحداً قد دفعها.
كما استبعدت التحليلات والتحريّات ان تكون نيكول قد سقطت من الفندق كون اسمها غير مدون في سجلات نزلائه او حتى زائريه، إضافة إلى ان كاميرا المراقبة في الفندق لم تظهر دخولها إليه. ومن هنا كان لا بد لنا من التوجه الى المكان للوقوف وجهاً لوجه مع الحقيقة التي دفعت شابة متفوّقة في دراستها ومميزة بين أهلها وأصحابها الى ان تُقدِم على هذه الخطوة قبل ان تكمل حلمها، خصوصاً وانها وحيدة أهلها.
عناصر من الشرطة تحرس المكان بشكل متواصل، ممنوع على أهل الصحافة الاقتراب من الموقع او التحدث الى العناصر ولا حتى تصوير المكان. واجهنا العناصر بأن بعض الشاشات عرضت شريطاً مصوراً من موقع الجريمة، فبادرونا بالقول: <خلص، قلنا ممنوع يعني ممنوع>!... <يلا إذا بتريدوا انسحبوا من المكان وبس تخلص التحقيقات بالقضية فيكن تعملوا شو ما بدكن>. لكن الإصرارعلى تبيان الحقيقة يدفعنا للدخول في عمق القضية بشكل أكبر ومعمّق إن من خلال المعلومات التي استقصيناها من عمّال المبنى نفسه ومن أحد عمال الفندق او من خلال الصور الحصرية للمبنى والفندق والتي تمكّنا من الحصول عليها بطريقة او بأخرى.
عامل بناء يروي الحكاية بالتفصيل
يروي أحد عمال الورشة (محمد س.) حقيقة ما حصل على الشكل الآتي: كانت الساعة الثامنة صباحاً تقريباً عندما سمعنا ارتطام شيء ما بالأرض، ظناً للوهلة الاولى ان حجر بناء او اي شيء آخر قد يكون سقط من المبنى، لكن المفاجأة كانت أن فتاة مرمية على الارض تنزف دماً من جهة الرأس لكن من دون اي آثار لكسور في جسدها ما عدا حذاءها الذي كان مرمياً بعيداً عنها بمسافة قصيرة. بعد ذلك حضرت القوى الامنية بعدما أبلغ احد السكان بالحادث، فحضرت على الفور وباشرت بالتحقيقات مع الجميع.
ويضيف قائلاً:
- علمت ان حارس المبنى وهو سوري مثلي قد تم استجوابه لمدة يوم كامل ثم تم إخلاء سبيله بعدما ادلى بإفادته أمام المحققين. لكن سمعنا لاحقاً كما كل الناس هنا ان الفتاة انتحرت نظراً لقساوة الظروف التي كانت تعيشها وبأنها كانت قد أخبرت إحدى صديقاتها عن رغبتها في وضع حد لحياتها عن طريق الانتحار.
ولعامل الفندق روايته الخاصة
أحد عمال الفندق الذي قيل ان نيكول قد انتحرت من احد طوابقه نفى جملة وتفصيلاً ان تكون الشابة من نزلاء الفندق حتى انه يقول: <لم نرها سابقاً ولم نلمحها في المحيط>، وأكد ان المعلومات التي وصل اليها المحققون في القضية ومن خلال ما سمعه من البعض تفيد بأنها وصلت الى نتيجة مؤكدة مفادها ان نيكول سقطت من الورشة الملاصقة للفندق وبأنها لم تدخل إليه وهذا ما أكدته كاميرات المراقبة. وينقل العامل بحسب ما سمعه من عناصر الحراسة أن التحقيقات لم تصل الى حتمية الانتحار بل هناك توسع في التحقيق لمعرفة ما اذا كانت هناك أسباب أخرى دفعت الى سقوطها من المبنى، وان التحقيقات مع العمال ما زالت مستمرة وإن بشكل متقطع.
<الافكار> تتواصل مع الأهل
يرفض والد نيكول سمير عساف الحديث عن الفاجعة التي حلت به، فالخبر نزل عليه كالصاعقة. لغاية اللحظة لم يفق من هول الصدمة وهو غير مصدق ان وحيدته رحلت بهذه الطريقة. جيران نيكول في منطقة عين المريسة يخبرون عن حبها للحياة وعن الحيوية التي تتمتع بها. ينفون الشائعات التي تتحدث عن علاقة سيئة بوالدها، وفي رأيهم ان هذا مجرد كلام ملأ صفحات الجرائد. بدوره يؤكد خالها ان القضية ما زالت قيد متابعة من قبل القضاء المختص والتحريات تتعامل مع الحدث بمنتهى المسؤولية <وقد نصحونا بعدم التحدث عن الموضوع ريثما ينتهي التحقيق>. ويشير ايضاً الى ان العائلة ستوكل القضية الى محامٍ لمتابعتها في حال لم نقتنع بنتائج التحقيقات خصوصاً في ظل الأخبار التي تنشر هنا وهناك وجميعها لا يخضع للمعايير الصحافية ولا الأخلاقية، وما يتردد عن علاقة عاطفية كانت تجمعها بشخص ما، فهل أصبح الحب محرّماً هو الآخر في هذا البلد؟
وللموت روايات أخرى لا نتبناها
تقول إحدى صديقات نيكول والتي رفضت الكشف عن اسمها ان نيكول كانت على علاقة سابقة بشاب يدعى (ف أ ش) وهو من أصحاب الشبهات السابقة، وعلى الرغم من انفصالها عنه وابتعادها عن كل المتاهات التي أدخلها بها فقد بقيت وفية لحبها له، علماً ان هذا الشخص قد استغلها مادياً وحصل منها على مبالغ تخطت الثلاثة آلاف دولار خلال مدة لا تتجاوز الاربعة الأشهر، كما عمد الى التأثير عليها واستدراجها الى ممارسة عادات مضرّة بصحتها بشكل أدى الى تدهور إضافي في حياتها، وهذا ما بدا عليها خلال الفترة الاخيرة وتحديداً قبل أيام قليلة من انتحارها.
وتتابع صديقتها: علمت من الاصدقاء انها أبلغت عمتها برغبتها بالتنزه قرب المنزل الا ان تأخرها بالعودة أثار قلق عمتها ووالدها اللذين بدآ البحث عنها الى ان اتصل بهما مخفر <حبيش> وطلب من والدها الحضور الى مكان الفاجعة.
أما صديقة طفولتها رفقا السمراني، فقد قالت: <آخر لقاء جمعنا كان منذ حوالى شهر ونصف الشهر تقريباً، كانت تعمل وتخطط لرسم مستقبلها وتنطلق في حياتها المهنية، فهي طالبة هندسة مدنية متفوقة في الجامعة الأميركية ولم أرها يوماً حزينة ولم تكن الضحكة تفارق وجهها رغم الحشرية التي كانت تسكنها ورغبتها في معرفة والدتها التي فارقتها باكراً>.
وتقول رفقا لصديقتها التي رحلت من دون ان تودعها: سأشتاق لضحكتك أكثر مما تتخيلين ولكل الأوقات الجميلة التي أمضيناها سوياً، لـعجقتك وجنونك.. نيكول يا صديقة الطفولة سأشتاق لكل شيء فيك...>.
وفي رواية ثالثة لأحد أقربائها يقول: <خبر وفاتها صعق العائلة وأحرق قلوبنا، هذا أسوأ ما قد يحصل معنا، فنيكول كانت غالية جداً على قلوبنا هي فتاة بريئة ومتفوقة دائماً في تحصيلها العلمي وصاحبة قلب طيب، إلا انها كانت تعتقد وتردد دائماً ان والدها لا يحبها ولا يرغب بها، لكن الواقع عكس ذلك فهي فتاته الوحيدة والمدللة إلا ان هذا لم يمنع من ان تكون العلاقة مع زوجة والدها سيئة جداً، ولا تخلو من المشاكل في معظم الأحيان>. وأضاف: لم نعرف سبب الوفاة حتى الآن ونحن ننتظر بحزن نتائج التحقيقات. لكن ماذا يسعني ان اقول؟! نيكول تعذبت في حياتها كثيراً منذ الصغر رغم امتلاكها كل ما قد تحلم به أي فتاة من مال وأراضٍ كثيرة ومع هذا كله فقد ظلمت الحياة نيكول إثر فقدانها والدتها وجدتها وزواج والدها من امرأة أخرى. وبرأيه ان نيكول قد تكون إحدى ضحايا الشبكات في جامعتها.
مصدر أمني لـ<الأفكار>: الكل يخضع للتحقيقات
وقال مصدر أمني لـ<الأفكار> ان قوى الأمن الداخلي تستمع إلى إفادات أقارب وزملاء نيكول، ولم نعرف بعد ما اذا كان شخص ما قد دفعها من المبنى أم هي رمت نفسها بهدف الانتحار. وقال المصدر ان الافادات الاولية تشير إلى ان نيكول كانت تمر بأزمة نفسية صعبة في الفترة الماضية، علماً أن والدتها متوفية منذ فترة لكن تفريغ كاميرات المراقبة وتحليلها من شأنه أن يظهر ما إذا صعد أحد معها إلى الورشة، وبالتالي يكون هناك شريك في الجريمة ام اذا توجهت إلى المبنى وحدها وهنا تثبت عملية الانتحار طبعاً في جملة تحقيقات اضافية.
تقرير الطبيب الشرعي
<الافكار> تمكّنت من الحصول على المعلومات الواردة في تقرير الطبيب الشرعي بحسب الجامعة الاميركية والذي جاء فيه :<تبين ان هبوط بالقلب واشتراكات نجمت عن ارتطام الجسد بالأرض من دون ملاحظة اي آثار او علامات على جسدها تشير الى تعارك او عملية دفع من الوراء>. وفي معلومات إضافية خاصة ان كاميرات المراقبة وبعد تفريغ المُخزّن أظهرت لحظة مرور نيكول وحدها باتجاه الورشة وربما غافلت العمال او ربما سألت أحدهم عن إمكانية صعودها بهدف معاينة شقة ما لشرائها ومن ثم غافلتهم وألقت بنفسها من أحد الطوابق.
الانتحار في لبنان الى ارتفاع
غالباً ما يستنكر أحدنا بالصوت العالي أو في سرّه نبأ انتحار شخص ما. فالانتحار المحرّم دينياً وغير المقبول اجتماعياً والمستهجن انسانياً لم تردعه كل الاسباب المذكورة آنفاً وبقيت الارقام العالمية تشير الى ارتفاع هذه الظاهرة، إذ ذكر التقرير الصادر أخيراً عن منظمة الصحة العالمية أن عدد المنتحرين سنوياً في العالم قارب الـ 800 ألف شخص عدا عن محاولات الانتحار التي يفشل أصحابها في وضع حد لحياتهم. والعام الفائت كرّست المنظمة يوم العاشر من أيلول/ سبتمبر الماضي يوماً عالمياً لمنع الانتحار بالاشتراك مع <الرابطة الدولية لمنع الانتحار> وأصدرت لهذه المناسبة تقريراً شمل 172 دولة في العالم ومنها 17 دولة من أصل 22 دولة عربية، لكن الصدمة تمثلت بالأرقام التي ذكرها التقرير عن لبنان، اذ أفاد عن وجود منتحر كل ثلاثة أيام، ومع ذلك فإنها لا تحظى بإبلاغ الأهل عنها لعدم قبول الانتحار كحالة اجتماعية.
الاضطرابات النفسية تتزايد
وهنا ترى الاختصاصية النفسية في مجال الدعم النفسي والاجتماعي في الجامعة الاميركية والاستشارية مع عدد من الجمعيات علا عطايا أن الانتحار هو حالة قصوى من حالات الضيق التي بدأنا نلمس تزايدها عند الشرائح الاجتماعية والأمر لم يعد محصوراً بفئات عمرية معينة، فالاضطرابات النفسية تتزايد ومثلها تعاطي المهدئات مثل الحبوب المنومة، إدمان الكحول، وطبعاً المخدرات ويضاف اليها عوامل الضغط اليومي التي يجب ان تقابل بقيم التربية وحماية المجتمع ووجود الاصدقاء والتمسك بالايمان، وهذا ما نلاحظ تراجعه كقيم في أيامنا هذه، مما يدفعنا الى ضرورة التنبّه الى تنمية حس الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة وتوعية المجتمع لأهمية التماسك القيمي الاخلاقي. أما دور الدولة ومؤسساتها فيجب أن يتجلى في مجال الوقاية ولاسيما تأمين الرؤية الواضحة لمستقبل الشباب وأيضاً في بث شعور الامان لدى المواطنين.
وتشير عطايا إلى أن عدم إبلاغ الاهل عن انتحار أحد أفراد العائلة يعود الى الخجل غير المبرر، بالإضافة الى عدم اعتراف شركات التأمين بدفع البدل المالي عن هذه الحالات، وهذه كارثة أخلاقية بحد ذاتها. وهنا يجب معالجة المراحل التي تسبق الوصول الى مرحلة الضيق والانتحار، لأن الموضوع مركب ومعقد، مقترحة إدخال مادة المهارات الحياتية في المناهج التربوية لأهميتها في التعرف الى الذات وكيفية التواصل الفعال مع الآخرين والتربية على اتخاذ القرارات وسبل مواجهة الضغوط، ومادة المهارات الحياتية مادة أساسية في مناهج التعليم في العديد من دول الغرب.
خذ الحكمة من فقراء الرصيف
ننهي تحقيقنا وفي قرارة ذاتنا اننا تمكّنا في مكان ما من إلقاء الضوء على اكثر من مسألة حساسة لها علاقة بقضية انتحار نيكول وغيرها من الذين سبقوها والذين قد يلحقون بها على الطريق نفسه مع رجائنا بعدم حصول هكذا أمور، ولكن أمر آخر في غاية الاهمية استوقفنا على مقربة من مكان الورشة التي شهدت آخر اللحظات من عمر نيكول، هو متسول يجلس على الرصيف يستعطف المارة، يتوجه إلينا بسؤال قد لا نجد له إجابة ولو بعد حين. يسأل المتسول: أليست جميع الاديان تحرم قتل النفس؟ الجواب: بالطبع نعم، ليعود ويطرح سؤالاً ثانياً: ماذا عن الذين يعتنقون هذه الاديان ويؤمنون بها لكنهم يقومون بنحر الآخر لمجرد اختلافه معهم بالرأي؟