تفاصيل الخبر

4.3 مليون لبناني إلى العلاج النفسي!

08/11/2019
4.3 مليون لبناني إلى العلاج النفسي!

4.3 مليون لبناني إلى العلاج النفسي!

بقلم كوزيت كرم الأندري

 

بصرف النظر عن نتائج الحراك الشعبي الأخير، السلبية منها والإيجابية، لا شك في أن ما يجمعنا كلبنانيين اليوم، بمختلف أطيافنا، أمرٌ واحدٌ أوحد: جميعنا في حاجة ماسة إلى علاجٍ نفسيٍ حقيقيّ. فهيّا بنا، أعزائي، إلى عيادات الطب النفسي التي تشرّع أبوابها لأمراضنا. إنها تنتظرنا جميعاً، فرداً فرداً، <كلنا يعني كلنا>.

هي تنتظر أباطرة السلطة لتذكّرهم بوصف أرسطو للإنسان على أنه <حيوان سياسي>، وبأنه لا بد من الاحتفاظ بالجزء الثاني من التعريف إذ إن الأول وحده لا يكفي لإدارة شؤون البلاد...

تنتظر أصحاب الأقلام والشاشات المفروشة للإيجار في منظومة إعلام العار، لتطهّرهم من المفاهيم المهنية الملتوية والممارسات الفتنويّة المستفِزّة.

تنتظر الفنانين (المنخرطين في الحراك قولاً أو فعلاً) لتجرّدهم من ازدواجية مواقفهم. فهم يدعمون حق الشعب اللبناني بالاحتجاج من جهة، ويساندون أنظمة عربية دكتاتورية تقمع حق التظاهر من جهة أخرى.

تنتظر قادة الحراك من مقدّمي برامج وأخبار وممثلين، ممّن صدّقوا أنهم يملكون فكر شارل مالك وجاذبية كميل شمعون، لتذكّرهم بأن <الثورة يصنعها الفقراء ليسرقها ويستغلها الأوغاد>. لا بد لهؤلاء أن يخضعوا لعلاج نفسي يعيدهم إلى أحجامهم الطبيعية، بعدما ظنّوا أنهم من سلالة نيلسون مانديلا وسيمون دو بوفوار.

تنتظر رجال الدين لتستعرض وإياهم تلك الجرائم التي ارتُكبت باسم الآلهة حول العالم، علّهم يعيدون الله إلى مكانه الطبيعي ويعتزلون المتاجرة بالكتب السماوية.

تنتظر الحزبيين لتقنعهم بأن زعماءهم يناصرون اليوم من وما عادوه بالأمس، ويعادون اليوم من وما سيناصرونه غداً، علّهم يتوقفون عن الاستماتة في الدفاع العشوائي عن رؤساء أحزابهم.

هي تنتظر الرّعاع المتطفّلين على الحراك الشعبي، بأراغيلهم وموائدهم وموسيقاهم وراقصاتهم، لتفهمهم بأن الفرح فعل مقاومة نعم، أما التفاهة والإسفاف فلا.

تنتظر الأوباش المشاركين في التظاهرة، أصحاب الشعارات الملتصقة بالأعضاء التناسلية، لإخصاء الحقارة من نفسيّاتهم. فإن كان الفنان الإيطالي السخرويّ مانزوني وضع فضلاته الجسدية في معلبات وعرضها في أحد متاحف روما كعمل إبداعي، لا شك في أن <الفضلات> التي انبعثت من أفواه هؤلاء تملأ متاحف الدنيا!

عياداتنا للطب النفسي بانتظار البلطجيين لعلاجهم من وحشيتهم وهمجيتهم إذ أكدوا لنا أنه من الضروري، قبل أي إنقاذ سياسي أو إقتصادي، إنقاذ الإنسان من مخالب الإنسان.

وهي تنتظر النساء، لا سيما أولئك اللواتي يجاهرن بالنزعة النسويّة وبنبذ الذكورية، لختانهن من فجورهن الذي لا يدلّ سوى على <الذكورية> التي ينتقدن!

تنتظر الآباء المشدوقين بأطفالهم المتباطحين على الميكروفونات في شوارع الحراك، لتفهمهم بأن الديماغوجية وتوارث الحقد جريمتان تربويّتان يرتكبهما الأهل أنفسهم، وأن أداة الجريمة هي الجهل.

تنتظر الأطفال لتعيد لهم صفاء طفولتهم، بعدما لقّنهم آباؤهم خطابات ببّغائية <عبيطة> جعلت رائحة الطائفية المقيتة تفحّ من جبينهم.

وهي تنتظر الشعب المسكين الذي أنزله قهره إلى الشارع، لتخضعه إلى علاج معرفي - سلوكي يعزّز مناعته ضد الانسياق وراء المتآمرين، وضد الترداد اللاعقلاني لمطالب غير منطقية وغير قابلة للتحقيق (أجزم، بالمناسبة، أن أغلبيّة هؤلاء <الثوّار> لا يعرفون ما تعنيه عملياً عبارة <إسقاط النظام>...)

عيادات الطب النفسي تنتظر، أكثر من تنتظر، دُعاة التغيير الجديّين الذي لم يقتنعوا بعد بأن زمن الأحلام الجماعية ولّى، وزمن النشوات الوطنية ولّى، وبأن مأساتنا هي الخروج من الجاهلية إلى الحداثة من دون المرور بالحضارة. لذا، فإنّ تاريخنا لن ينفكّ يعيد نفسه بحيث لا غالب ولا مغلوب، بل تسويات متتالية لا يخسر فيها الضعيف كل شيء ولا يربح فيها القوي كل شيء.

عيادات الطب النفسي تنتظرني أنا، أنا قبل الجميع، كي تُعيدني إلى طفولتي لأغرف منها وأختزن المواد الأولية التي تسمح لي بالبقاء على قيد الحلم، في بلدٍ تحبس فيه الأحلام أنفاسها...

وهي تنتظر، آه كم تنتظر، هذا الوطن المنهك الجاثي باكياً على ركبتيه...