تفاصيل الخبر

٢٠٢٠: سنة المصائب و...التأملات 

31/12/2020
٢٠٢٠: سنة المصائب و...التأملات 

٢٠٢٠: سنة المصائب و...التأملات 

[caption id="attachment_84510" align="alignleft" width="321"] الاقتصادي البريطاني الذي طبع النظام الرأسمالي في القرن الماضي "جون مينارد كاينز" (١٨٨٧-١٩٤٦).[/caption]

 كل الناس تتحدث عن مساوئ ومصائب سنة ٢٠٢٠. من انفجار مرفأ بيروت المدمر بشرياً ومادياً ونفسياً إلى ضحايا جائحة كورونا في كل العالم صحياً واقتصادياً واجتماعياً، لم تكن ٢٠٢٠ سنة عادية. ولكن هذه الفترة من مسار البشرية لم تأت منفصلة عما قبلها ولن تكون مستقلة عما سيليها. فالفيروس لم يهبط بالبراشوت بل جاء من منطقة صينية لم تراع فيها المعايير الصحية والعلمية. كما أن اقتصادات العالم لم تعانِ فقط بسبب انتشار "الكوفيد ١٩" بل كان معظمها  غارقاً في الديون قبل ذلك ولديه نقاط ضعف هيكلية كان لا بد أن تتظهر مع أول أزمة كبيرة. ماذا بعد ٢٠٢٠ وكيف سيتعامل العالم مع المستقبل بعد دروس ٢٠٢٠ المؤلمة جداً ولكن الملهمة في الوقت نفسه وعلى أكثر من صعيد؟

 

درس "كورونا" الأول: الاقتصاد "الكينزي" يحتضر 

 منذ عقود والخلاف الجدلي قائم حول فوائد النمو الاقتصادي المتسارع على الإنسانية. بمقارنة بسيطة مع الماضي تمكن النمو الاقتصادي من تطوير حياة الناس وتخفيف المرض والفقر والجوع وتحسين التعليم ودعم ميزانيات البحث والتطوير وتوسعة دائرة الاكتشافات في مختلف المجالات. ولكن في الوقت نفسه أمعن النمو الاقتصادي ومفاعيله في الأسواق المالية في تكبير الهوة بين الناس فزادت المساحة بين الأغنياء والفقراء وأصبح التفاوت الطبقي آفة إجتماعية تغذي كل أنواع القلاقل. من المفيد التذكر أن محرك النمو الاقتصادي الرئيس كان ولا يزال هو الدين. الاستدانة سمحت للحكومات والشركات والأفراد بزيادة حجم الاستثمار والإنفاق والاستهلاك والنتيجة الطبيعية كانت مزيداً من النمو.

ولكن كل هذا أصبح اليوم تحت مجهر المساءلة. فمجموع الدين العالمي سيصل مع نهاية ٢٠٢٠ إلى ٢٧٥ ألف مليار دولار بزيادة ٨ بالمئة عن ٢٠١٩. هذا المعدل هو أكثر من ثلاثة أضعاف ونصف مجموع الناتج المحلي العالمي الذي انخفض حوالي ٤ بالمئة هذا العام. هذه النسبة تؤكد أمرين: الأول أنه أصبح من شبه المستحيل أن ترفع البنوك المركزية العالمية نسبة الفوائد لعدة سنوات لأن ذلك سيطلق العنان لمستوى الدين فيصبح عصياً على الضبط. والأمر الثاني أن كل هذه الديون المتراكمة لن تسدد في المدى المنظور وعلى الحكومات والبنوك أن تتعايش معها بالتي هي أحسن. و"التي هي أحسن" تعني هنا المزيد من الضرائب والتضخم. ما فعله الوباء عام ٢٠٢٠ هو التشكيك في أن نموذج النمو الاقتصادي بواسطة الاستدانة يمكن أن يستمر في القرن الواحد والعشرين خاصة أن العالم عانى من أزمتين اقتصاديتين حادتين واحدة عام ٢٠٠٨ والأخرى هذه السنة. هذا النموذج الذي استنبطه الاقتصادي البريطاني "جون مينارد كاينز" في ثلاثينات القرن الماضي واتبعته كل الأنظمة الرأسمالية، أدخله فيروس كورونا سنة ٢٠٢٠ إلى العناية الفائقة ويبدو أن حجم الديون الضخم لن يخرجه منها حياً. 

الدرس الثاني للوباء: خطيئة المفاضلة بين الصحة والاقتصاد

 

[caption id="attachment_84511" align="alignleft" width="387"] البروفيسور الفرنسي " ديدييه راوول": زرع الشك حول الفيروس وها هو اليوم يشكك في اللقاحات.[/caption]

أجبر الانتشار السريع للـ"كوفيد ١٩" الحكومات على اللجوء إلى الإقفال العام لتمكين المستشفيات من استيعاب الأعداد المتزايدة من مرضى الوباء. من "ووهان" إلى "نيويورك" لم يكن هناك حل للحد من تفشي الـ"كورونا" إلا الإقفال، بأشكاله المختلفة. الإعلام شجع على الإقفال عندما لمس ضعف الالتزام بالإجراءات الصحية. كذلك أوصت معظم اللجان الطبية الاستشارية لدى الحكومات بالإقفال لتخفيف العبء على الجسم الطبي واستنبطت المعايير الإحصائية لذلك. الهيئات الاقتصادية اعترضت والقطاعات التجارية عانت ولا تزال وتحولت المشكلة إلى معايرة ميزان الخسارة بين الأرواح والأموال بينما المسألة ليست كذلك. فتضارب الآراء الطبية وتناقضها في تقييم الأدوية وتأخر الحسم العلمي في توصيف الإجراءات الوقائية المناسبة والجهل التام في البداية في كيفية معالجة المرضى أربك الحكومات وجعلها تلجأ إلى القرار الأكثر تحفظاً والأقل شعبية. ولتعويض الخسائر الاقتصادية فتحت المصارف المركزية مطابع العملة وكسرت الحكومات كل المحرمات المتعلقة بنسب الاستدانة. النتيجة هي أن الوباء أصبح مميتاً صحياً واقتصادياً، والسبب الأول هو التخبط الرسمي والضياع الطبي وليس عدم الالتزام الاجتماعي.

دعم الحكومات للناس: إلى متى؟

 لم تعجب الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" حزمة المساعدات المالية الأخيرة التي أقرها الكونغرس واعتبرها "قليلة". طالب "ترامب" بزيادة المبالغ التي سيحصل عليها كل أميركي من ٦٠٠ دولار إلى ٢٠٠٠ دولار ووافق مجلس النواب بأكثريته الديموقراطية على الاقتراح . المفاجأة أن زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ السيناتور "ميتش مكونيل" أي حليف "ترامب" هو الذي عطل الزيادة تماشياً مع حرص الحزب الجمهوري على عدم إقحام الحكومة في إدارة الاقتصاد وتركها لدينامية السوق. العبرة في كل ذلك أن غالبية الأميركيين تنازع من أجل تسديد دفعات الايجار المستحق عليها وغيرها من النفقات المتراكمة، ومن دون المساعدة الحكومية المباشرة لن يتمكن الكثيرون في الولايات المتحدة من العاملين والعاطلين عن العمل من التعامل مع مستحقاتهم المتزايدة. ولكن يبقى السؤال الملح: هل يمكن للحكومات أن توقف المساعدات المباشرة للناس عندما ينتهي الوباء وهل أصبح الدعم الحكومي نوعاً من الإدمان الاجتماعي؟ 

 إذا كانت هناك ميزة واحدة لعام ٢٠٢٠ فهي أنه أعطى الجميع فرصة للتأمل والمراجعة. فقد فتح الباب أمام إعادة النظر في نموذج النمو عبر الديون وفي دور الحكومات في تحفيز الاقتصاد وتقرير طريقة عيش الناس صحياً واجتماعياً. سينتهي وباء الـ"كورونا "مع ٢٠٢١ كما إنتهى منذ مئة عام وباء الإنفلونزا الإسبانية خلال سنة ونصف السنة ومن دون لقاحات، بعد أن حصد عشرات ملايين الضحايا. ولكن الأهم من مفاعيل الوباء في المجال الطبي والصحي هو تحديد أي مسار اقتصادي سيختاره العالم في ما تبقى من القرن.