على رغم الظروف السياسية المغلقة على كل تطور جديد لاسيما ما خص الاستحقاق الرئاسي واحتمال انعقاد مجلس الوزراء وتحدي اجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في شهر ايار ( مايو) المقبل، يبقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة محور الحدث اليومي وان تعددت الاسباب والدوافع. فبعد ان كان الحاكم يستهدف نتيجة ارتفاع الدولار قياسا الى الليرة اللبنانية، ثم توجه اليه الاتهامات من كل حدب وصوب، من داخل لبنان وخارجه، فان الايام القليلة الماضية حملت للحاكم اشاعتين متناقضتين سببتا ارتفاعا خياليا بسعر الدولار وصل الى حد 86 الف ليرة لبنانية للدولار الواحد، قبل ان يتراجع على اثر اتضاح عدم صحة الاشاعتين وان كانتا من مصدرين مختلفين، لكن ثمة من يرى بان مصدر الاشاعتين واحد. تقول الاشاعة الاولى ان الولايات المتحدة الاميركية غير راضية عن اداء الحاكم سلامة، وانها في صدد اتخاذ عقوبات بحقه " لتورطه في تغطية انشطة حزب الله المالية"، لا بل اكثر فان الاخبار التي روجتها محطة " الحدث" التابعة لمجموعة " العربية" التلفزيونية تحدثت نقلا عن مصادر اميركية ان واشنطن "باتت متأكدة من علاقة سلامة مع حزب الله"، وان الخزانة الاميركية "كشفت علاقة تربط ممولين لحزب الله بالمصرف المركزي". ولعل الطريقة التي رافقت بث هذه الاخبار عبر " الحدث" من خلال عناوين سريعة تعتمد عادة اسلوب الاثارة في نشر الخبر، زادت من علامات الاستفهام التي طرحت حول اسباب هذا البث اليلي الذي احدث ذعرا لدى الذين تلقوا الاخبار المتتالية عن "عقوبات" اميركية عاجلة ضد سلامة. وفي حين اعتصم الحاكم بالصمت، شأنه في ذلك شأن كل مرة يستهدف فيها لحملات واشاعات وانتقادات، فان الخبر الذي تفاعل ليلا سرعان ما تبددت مفاعيله في الصباح عندما استفاق اللبنانيون على خبر من مصادر اميركية تنفي ما ورد في " الحدث" جملة وتفصيلا.
ثم اتى بيان عن الخارجية الاميركية بعد الظهر يؤكد " ان الشائعات التي تتحدث عن فرض عقوبات على الحاكم سلامة لا اساس لها من الصحة"، ثم اضاف الناطق باسم الخارجية الاميركية ان المسؤولين الاميركيين اطلعوا على تلك الشائعات " وبينما لا نناقش عادة اي عقوبات محتملة، يمكنني ان اؤكد ان هذه الشائعات لا تستند الى حقائق". ثم اشارت مصادر اميركية الى ان اصدار هذا النوع من القرارات " هو امر مستبعد تماما على الاقل في هذه المرحلة وبعيدا عم اذا كان الاتهام صحيحا او خاطئا". واشارت المصادر نفسها الى ان المسؤولين الاميركيين يرون ان معالجة قضية حاكم مصرف لبنان " لا يمكن التعامل معها بمعزل عن معالجة الوضع اللبناني المتأزم الذي يأتي في اولويته انتخاب رئيس جديد للبلاد واعادة تكوين السلطة السياسية ووضع اصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية لوقف الاضمحلال الحاصل للنظام المالي والمصرفي وتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي عند انتهاء ولاية الحاكم الحالي. واكد هؤلاء المسؤولين ان موقفهم هذا لا يبدل الاتهامات الموجهة الى حزب الله لجهة " استخدام النظام المصرفي اللبناني لتبييض الاموال، واستحداث نظام مالي ومصرفي خاص بالحزب بمعزل عن النظام المصرفي اللبناني، غير ان هذا الواقع لا يعني ان حاكم المصرف المركزي يتعاون مع حزب الله لتمكينه من اقامة نظامه المالي المستقل". واستبعدت المصادر نفسها ان تعمد الحكومة الاميركية الى اصدار هذا النوع من العقوبات لان من شأنها ان تدمر صدقية وشرعية اي مؤسسة مصرفية لبنانية في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن الحفاظ على حد ادنى من استمرارية مؤسسات الحكم قبيل انضاج اي تسوية جديدة".
واعتبرت مصادر متابعة ان بث اشاعة العقوبات معطوفا على تداول شريط عبر المواقع الالكترونية عن علاقة ما تجمع بين الحاكم والسيد حسن مقلد صاحب شركة " سيتكس" للتداول المالي والذي فرضت عليه وعلى نجليه الادارة الاميركية عقوبات على اساس تعاونه مع حزب الله، جعل الحديث عن احتمال " معاقبة" رياض سلامة وكأنه حقيقة قائمة لاسيما وان "خصوم" سلامة داخل لبنان وخارجه سارعوا الى " استثمار" العقوبات على مقلد للتوسع في اطلاق الاتهامات بحق سلامة خصوصا ان كل ذلك ترافق مع توقيف عدد من الصرافين غير الشرعيين الذين ينتمون الى بيئة ليست بعيدة عن حزب الله، ما يجعل تلك الاجراءات وكأنها موجهة ضد الحزب التي تقول الشائعات انه يحظى "بتغطية" من سلامة في كل ما يخص العمليات المصرفية والمالية التي يقوم بها والتي مكنت الحزب – وفق اتهامات الخصوم السياسيين- من الصمود في وجه اجراءات الحصار التي تقوم بها الادارة الاميركية، علما ان هذا " الصمود" كان ولا يزال من ادبيات قياديي الحزب وفي مقدمهم امينه العام السيد حسن نصر الله، اضافة الى ان الحزب يدقع بالدولار الاميركي رواتب وتعويضات لقيادييه وكوادره لاسيما كوادر النخبة منهم الذي يتهمهم الغرب بالقيام باعمال " ارهابية" وبالتدخل في سوريا والعراق واليمن، اضافة الى تسهيل ادخال بضائع وسلع مهربة من سوريا الى الداخل اللبناني وبيعها والاستفادة من ثمنها لتأمين موارد للمقاومة وحلفائها.
تمديد او لا تمديد؟
اما الشائعة الثانية فقد انطلقت من واقع ان وزير المال يوسف الخليل المح مباشرة او مداورة، في تصريح صحفي عن امكانية التمديد للحاكم سلامة التي تنتهي ولايته في اوائل شهر تموز( يوليو) المقبل لتعذر تعيين خلف له اذا ما استمر الشغور الرئاسي ولم تشكل حكومة جديدة تعين خلفا لسلامة. صحيح ان الوزير الخليل اوضح ما كان يقصده في اشارته هذه والمرتكز على الاقتراحات التي توالت في الاسبوعين الماضيين عن وجود اقتراح قانون بالتمديد سنتين لموظفي الفئة الاولى الذين تنتهي ولايتهم في الاشهر المقبلة، لكن كلام وزير المال، وهو وزير الوصاية على مصرف لبنان، اخذ منحى آخر، علما ان سلامة كان اعلن في حديث الى تلفزيون " الشرق" الذي يبث من خارج لبنان انه غير راغب للتمديد وانه سيطوي اوراقه بعد انتهاء مدة ولايته في الحاكمية ويذهب للراحة في منزله، الا ان توضيحات الوزير الخليل وكلام سلامة الذي صدر قبل تصريح وزير المال ببضعة ايام، لم تسقط من حسابات البعض وجود امكانية للتمديد خصوصا ان معلومات جرى تسريبها عن ان " الثنائي الشيعي" فاتح سلامة بالموضوع لكنه لم يعط جوابا نهائيا بعد، علما ان الجواب الاولي جاء فيه ان سلامة ينوي الانتقال، بعد انتهاء ولايته، الى دولة الامارات العربية المتحدة من خلال "خروج آمن" له من دون ان يواجه السياسيين والمسؤولين بما يعرفه عنهم منذ 30 سنة امضاها في الحاكمية تمكن خلالها من حيازة الكثير من الاسرار التي تقلق اهل السياسة في لبنان. وتقول المعلومات ان الذين طرحوا فرضية التمديد لسلامة انطلقت من عدم رغبة " الثنائي الشيعي" بان يتولى النائب الاول للحاكم المحامي وسيم منصوري الذي ينتمي الى الطائفة الشيعية، تولي هذا المركز لاسباب عدة ابرزها ان حزب الله وحركة "امل" لا يريدان استفزاز المسيحيين، وتصوير " الشيعة" على انهم يطمحون الى " الاستيلاء" على هذا المنصب، خصوصا بعد اصرار " الثنائي" على تولي" حقيبة المالية"، التي كرست للطائفة الشيعية بفعل الامر الواقع، وكذلك لانهما يرفضان ان تتحمل الطائفة الشيعية وزر استمرار انهيار الليرة اللبنانية وتبعاتها على الواقع المالي والاقتصادي، الذي ينبىء بانه آيل الى مزيد من السقوط الحر في حال استمرار الشغور في سدة الرئاسة لامد طويل. اضافة الى ذلك، يعتبر فريقا" الثنائي الشيعي" ان بت التمديد قبل انتهاء ولاية سلامة سيمنحهما هامشا اضافيا للتحرك بملف الرئاسة، لان الفراغ في الحاكمية سيكون امرا ضاغطا على الفراغ الرئاسي، وبذلك يفقد الحزب والحركة هامش المناورة. ولا يستبعد ان يكونا في حينه ملزمين بالرضوخ لمطلب تبني اسم وسطي على وقع " الضربات" النقدية والاقتصادية التي لن ترحم احدا.
الى جانب الثنائي يتشارك هذه الهواجس جميع اركان السلطة، لان دور سلامة تخطى اخيار حيز الحاكمية وصولا الى ما يشبه " رئيس حكومة الظل"، فهو من يقرر ويبت استيراد المحروقات والادوية، وهو من يوافق على فتح اعتمادات الفيول، وهو من يدفع الرواتب لموظفي القطاع العام بالنيابة عن الحكومة الفعلية، ويتدخل في السوق بين الحين والاخر من اجل لجم سعر الصرف والتخفيف من حدة غضب الناس على المنظومة كلها.
في اي حال، الحاكم سلامة يؤكد انه ينتظر انتهاء ولايته ليغادر مصرف لبنان، فمن الذي يقف اذن وراء الاشاعات التي تستهدفه حينا بالعقوبات الاميركية، واحيانا بالتمديد؟ تقول مصادر متابعة لهذا الملف ان الجهة التي تقف وراء تسريب مثل هذه الاخبار هي نفسها الجهة- او الجهات- التي تناهض بقاء سلامة في منصبه وتحمله كل التدهور الذي اصاب الواقع الاقتصادي في البلاد منذ العام 2019 والذي لم يكن وليد تلك السنة، بل نتيجة تراكم السنوات منذ ما بعد اتفاق الطائف وحتى اليوم. الا ان هذه الجهات تدرك ان مثل هذه التسريبات لن تؤدي الى مزيد من التدهور في وضع العملة الوطنية والى زعزعة ما تبقى من وضع اقتصادي وعلاقات مع المصارف المراسلة، لاسيما وان الحملات على الحاكم تتزامن مع حملات على المصارف ودعاوى قضائية في حق اصحابها والمسؤولين فيها، ولعل ما حصل من حرائق وتحطيم امام عدد من المصارف امام منزل رئيس جمعية المصارف سليم صفير خير دليل الى نتائج مثل هذه الاخبار المدسوسة التي تزيد الامور تعقيدا. فالى متى سوف تستمر عملية النحر الذاتية وما هي القدرة بعد لتحمل المزيد من جلد ما تبقى من وطن يذبح يوميا بايدي جلاديه انفسهم ممن تصرفوا بمقدراته وتقاسموا خيراته غنائم حرب خاضوها في ما بينهم في الماضي، ليجتمعوا من جديد عند قسمة الجبنة؟