كثر هم الذين يلتقون برئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي هذه الايام، لكن قلة من هؤلاء يفتح لهم " ابو ماهر" قلبه ويحدثهم عن معاناته في السراي بعد مضي ثلاثة اشهر على الشغور الرئاسي وبداية الشهر الرابع وسط معطيات بان امد الفراغ قد يطول وبالتالي حكومة تصريف الاعمال ستستمر بمهامها ومعها " الصراع" اليومي بين رئيسها والمعارضة ولاسيما رئيس " تكتل لبنان القوي" النائب جبران باسيل الذي يخصص بيانات التكتل و" التيار الوطني الحر" لمهاجمة ميقاتي وتحميله مسؤولية ما آلت اليه البلاد، فضلا عن تكرار تسميته بـــ" المغتصب"، الامر الذي يدفع بميقاتي الى الرد من خلال مكتبه الاعلامي حينا، وبالمباشر منه احيانا اخرى. ومن يجالس ميقاتي هذه الايام في جلسات مصارحة يشعر كم هو متضايق ويعيش حالة من القلق على مصير البلاد بالتزامن مع شعوره بالمسؤولية الملقاة على عاتقه التي يتمنى لو لم يتحملها لانها تحولت الى كرة نار. في اوقات كثيرة كاد اليأس ان يتسلل الى نفسية ميقاتي نتيجة الضغوط الاقتصادية والمالية والحياتية التي يرزح تحتها لبنان والعجز عن تقديم حلول مستدامة للازمات التي تتناسل يوما بعد يوم وتتراكم بعضها فوق البعض الاخر من دون توافر القدرة على اي من هذه الازمات لان خزينة الدولة بدأت تفرغ ومصرف لبنان غير قادر على مد يد العون بكثافة وشمولية، بل à la carte وفق الاولويات الملحة. لكن مع ذلك لا يريد ميقاتي ان يتسلل اليأس والقنوط او ان يتراجع. يقول لزواره انه تحمل المسؤولية طائعا "يوم كثر الذين تراجعوا واحجموا رافضين التصدي لهذه المهمة لاسيما وان حجم التركة الموروثة وضخامة المطلوب وضعف الامكانات، لذلك لن ابدي اي تأفف او اجاهر عن ضيق".
ولعل اكثر ما يجعل ميقاتي جاهزا ومتحفزا ان الرهان الذي ردده كثيرون بانه لن يكمل الطريق وسينسحب من ارض " المعركة" بسرعة، خسروا عمليا هذا الرهان لان رئيس حكومة تصريف الاعمال واجه المشككين والمعارضين لاسيما منهم اولئك الذين باتوا يعتمدون الاعتراض نهجا والعرقلة خيارا لفرض مشيئتهم، واول مواجهة واصعبها، كانت الدعوة الى جلسات مجلس الوزراء التي اصرّ ميقاتي على الدعوة الى عقدها مرارا لاسيما وانه غير مقتنع بــ " بدعة" المراسيم الجوالة، ولا بالالية التي اعتمدت في حكومة الرئيس تمام سلام خلال الشغور الرئاسي الذي طال عامين وبضعة اشهر خصوصا ان "صديقه الرئيس سلام كان اخبره عن " المرارة" التي كان يعيشها من بعض الوزراء سواء خلال انعقاد جلسات مجلس الوزراء، او في التعاطي مع الملفات اليومية. لقد بقي في ذهن ميقاتي ما كان يرويه الرئيس سلام من اخبار عن حجم المعاناة التي عانى منها و"الوقاحة" التي كان يتصرف بها بعض الوزراء مع رئيس الحكومة، وهو بالتالي لم يضع في حسابه اي امكانية لتكرار تجربة الرئيس سلام وعذاباته، وهو قال للذين كانوا " ينصحونه" بتكرار ما حصل في ايام سلام تفاديا للمواجهة مع النائب باسيل الذي كان بدأ حملته ضد ميقاتي قبل انتهاء عهد الرئيس عون باسابيع، واستمرت الحملات على تصاعد منذ نهاية الولاية الرئاسية حتى الساعة. ويعتقد ميقاتي وعن حق، انه بعد الجلسة الثالثة للحكومة، كسب الرهان لانه لقي مساندة من وزراء كانوا محسوبين على "تكتل لبنان القوي" مثل الوزراء جورج بوشيكيان وامين سلام ووليد نصار على رغم تمايز الاخير عن غيره من الوزراء نظرا للعلاقة الشخصية التي تربطه بالرئيسين عون وميقاتي كونهما سمياه بالتكافل والتضامن في حكومة العهد الاخيرة.
كذلك لقي "مهادنة" وتسامحا من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي ميّز بين انعقاد جلسات مجلس الوزراء بالمطلق وبين انعقاده عند الضرورة لتسيير شؤون البلاد.
لا مقارنة مع ظروف حكومة سلام
يرفض الرئيس ميقاتي امام محدثيه، المقارنة بين ظروف انعقاد جلسات مجلس الوزراء في ايام حكومة الرئيس سلام وايامه هو لان " الحاجة القصوى" التي تفرض حاليا انعقاد مجلس الوزراء مختلفة عما كان عليه الوضع في حكومة سلام لاسيما وان الاوضاع آنذاك لم تكن على هذا المستوى من السوء والتروي والانهيار، بل كانت الاوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية والامنية، والسياسية الى حد ما مستتبة بدرجة كبيرة على عكس ما هي اليوم، وبالتالي كان يمكن للرئيس سلام ان يؤجل جلسات مجلس الوزراء لاسابيع، فالوضع كان يحتمل مثل هكذا تأجيل، في حين ان الظروف الراهنة تفرض انعقاد مجلس الوزراء على مدار الساعة نظرا لخطورتها على مختلف المستويات، فالوضع الصحي مزري، والواقع التربوي الى انهيار بسبب اضراب المعلمين واساتذة الجامعة اللبنانية، والاوضاع المصرفية مهتزة بقوة وغيرها، وكل ذلك يحتاج الى معالجة سريعة وفاعلة لا يملك مفتاحها الا مجلس الوزراء ولا تصح هنا " المراسيم الجوالة". لقد دعم الرئيس نبيه بري الرئيس ميقاتي بمواقفه و"شجعه" على المضي في هذا النهج، فيما على ضفة حزب الله، لم يكن الدعم كاملا على رغم ان الحكومة ممثلة بوزيرين شيعيين تحتاج الحقائب التي يشغلانها الى قرارات تتخذ في مجلس الوزراء وليس " الموافقة الاستثنائية" المحصورة برئيسي الجمهورية والحكومة في ظل حكومات تصريف الاعمال، حتى ان حزب الله، الذي شاء بموقفه ان يرضي حليفه جبران باسيل، شعر في النهاية بثقل المسؤولية تجاه مناصريه ولا بد من تسيير شؤونهم الصحية والغذائية والتموينية، وهذه كلها تحتاج الى قرارات لمجلس الوزراء ولا يمكن للرئيس ميقاتي ان يتخذها منفردا.
وعليه فان الدعوات الى مجلس الوزراء سوف تكون متكررة ومتقاربة وقد تصبح اسبوعية ببنود متعددة، علما ان ميقاتي ليس في قاموسه التشفي ولا الاعتداد بغلبة فريق على آخر، علما انه يحرص في كل جلسة من الجلسات التي دعا اليها وانعقدت، الى توجيه الدعوة الى الوزراء المقاطعين للانضمام الى جلسات مجلس الوزراء، علما انه يردد في كل جلسة انه ليس في وارد "مصادرة" صلاحيات احد في موازاة حرصه على ممارسة صلاحياته الدستورية كرئيس للسلطة التنفيذية لا ينوي التهرب من مسؤولياته او التنكر لها، بل يعتزم الاستمرار في السير في "حقل الالغام" المزروعة امامه وحوله وخلفه، لذلك فهو يسير بتأن مستعملا ميزان " الجوهرجي" في مقاربة الملفات المعقدة التي تبرز امامه يوميا وكان آخرها معالجة تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وكانت له ارتداداته المدمرة ايضا في سوريا اذ لم يتردد رئيس الحكومة في فتح موانىء لبنان لقوافل الاغاثة الى سوريا، واتصل بنظيره السوري وارسل وفدا وزاريا برئاسة وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب التقى الرئيس السوري بشار الاسد ومسؤولين سوريين آخرين لنقل التعازي ومشاعر التضامن والمواساة...
وهكذا سوف يستمر ميقاتي في مسيرته وهو المنهك والمستاء مما آلت اليه الاوضاع، لكنه في المقابل مصمم على اعتماد النهج الذي يراه ضروريا لمنع انهيار الدولة وتلاشيها وتفكك مفاصلها الى ان يكتب للبنان رئيس جمهورية جديد مع حكومة جديدة يسلمها "الامانة" .... ويترجل!