الانهيار الذي يعيشه لبنان في الداخل والذي اطاح بدور الكثير من اداراته ومؤسساته العامة، مرجح ان ينتقل وبقوة الى الحضور الديبلوماسي اللبناني في الخارج اذا ما وجد اقتراح وزارة الخارجية والمغتربين باغلاق عدد من البعثات الديبلوماسية في الخارج، طريقه الى التنفيذ وذلك في اطار اجراءات عصر النفقات الذي قرر وزير الخارجية عبد الله بو حبيب اعتمادها في ظل تراجع ميزانية الوزارة وعدم قدرتها على تلبية حاجات البعثات ورواتب السفراء والديبلوماسيين والموظفين المحليين. واذا كان اعتبار الحكومة مستقيلة بعد الانتخابات النيابية وعدم طرح الموضوع على مجلس الوزراء في عهد الرئيس ميشال عون، الا ان هذا الملف عاد ليفتح من جديد مع تضاؤل القدرات المالية للدولة وامكانية انعقاد جلسات مجلس الوزراء في ظل حكومة تصريف الاعمال بعدما صنف وضع السفارات اللبنانية في الخارج تحت بند المواضيع الملحة والطارئة التي يمكن لمجلس الوزراء البت فيها ولو كان يصرف الاعمال. ويقول مصدر ديبلوماسي لبناني ان هذا الخيار الذي يصفه بــ " المر" شكل اخر الدواء الكي بعدما بات من المتعذر على الحكومة تأمين الاعتمادات اللازمة لاستمرار بعثاتها الخارجية في العمل، وبعدما تبين ان حماسة اللبنانيين القادرين في الخارج على تغطية نفقات البعثات الديبلوماسية ليست كلها على مستوى واحد من التجاوب لان ثمة سفارات لقيت دعما من الجاليات اللبنانية في الدول المعتمدة فيها، فيما كان التجاوب محدودا جدا واحيانا معدوما لدى جاليات دول اخرى. ويؤكد المصدر ان التجاوب مع نداء وزير الخارجية عبد الله بو حبيب في هذا الاتجاه كان متفاوتا لان بعض الجاليات رأى ان الفساد الذي ضرب مؤسسات الدولة ووصل احيانا الى بعض بعثاتها الخارجية، لا يشجع على القيام باي مبادرة في هذا الاتجاه، وثمة احزاب لبنانية راسلت مناصريها في هذه الدول للضغط في اتجاه عدم القيام باي نشاط يصب في مصلحة تمويل السفارات في الخارج تحسبا من ان تذهب مساهماتهم الى جيوب غير المستفيدين....
اقتراح الاقفال ومفاعيله
في تفاصيل الاقتراح المقدم من وزير الخارجية يتضح انه يتضمن إغلاق قنصليتين في أوروبا الغربية (ميلانو ومرسيليا)، وثلاث سفارات في أوروبا الشرقية (أوكرانيا، بلغاريا وتشيكيا)، وخمس في أميركا اللاتينية (التشيلي، الأوروغواي، الإكوادور، الباراغواي وكوبا)، وقنصلية في ريو دي جانيرو (البرازيل)، وسفارتين في آسيا (ماليزيا وكازاخستان)، وأربع سفارات في دول عربية (البحرين، اليمن، السودان وليبيا).وفي معايير الاختيار، اعتمدت الخارجية وفق ما جاء في نص اقتراحها، على: أهمّية العلاقات السياسية والتقارير الواردة من البعثات، مشاركة الدولة المضيفة في قوات الـقوات الدولية العاملة في الجنوب ( اليونيفيل) عدد أبناء الجالية التابعين لصلاحية البعثة، الجدوى الاقتصادية للبعثات، وحجم التبادل التجاري بين البلدين. وقد وضعت اللائحة بعد دراسة تقييم للنفقات وللمردود المالي والسياسي للبعثات. وفي النصّ، فقرة عن الوفر الأولي المتوقّع من عمليات الإقفال بعد مرور خمس سنوات، يقدّر بحوالي 15.5 مليون دولار. علماً أن مجموع واردات البعثات الـ17 عن السنوات الثلاث (2018 و2019 و2020) يبلغ حوالي 1.8 مليون دولار، فيما بلغ مجموع نفقاتها عن الفترة نفسها 15.1 مليون دولار، بالتالي فإن قيمة العجز تبلغ 13.3 مليون دولار. اللافت، حسب اقتراح وزارة الخارجية أن بعض الجاليات اللبنانية ومنها في البحرين وبلغاريا، أبدت رغبتها بتأمين النفقات التشغيلية للبعثة تداركاً لخطوة الإقفال، ما يدفع باتجاه إعادة النظر بتعليق العمل فيها. وما إن يعطي مجلس الوزراء موافقته ستعيّن الخارجية سفيراً غير مقيم يغطي منطقة صلاحية البعثة المعلّق عملها من حيثُ يعمل، إضافة إلى إمكانية تعيين قناصل فخريين لتأمين الاحتياجات القنصلية المطلوبة.يتضح مما سبق أن اقتراح الخارجية ارتكز على معيار أساسي يتعلق باحتساب النفقات والواردات، تحت ضغط واقعٍ مالي جعلها تُحافظ على ديمومة بعثاتها واستمرارية عملها بأقصى طاقة ممكنة عن طريق التمويل الذاتي، وليس من دولارات مصرف لبنان المُحجِم عن تأمين النفقات التشغيلية للبعثات باستثناء رواتب الديبلوماسيين حصراً. في حين أن على مجلس الوزراء النظر إلى المشهد بكلّيته، وعدم ترك أمر المُعالجة لقدراتِ الوزارة الخاصّة، ما يستدعي حين يُطرح الملف على طاولة مجلس الوزراء عدم حصر النقاش في البعد المالي، وإعادة النظر في عددِ البعثات أو هويتها.
مداخلات وضغوط واستنساب
ولفت مصدر متابع الى ان اقفال نصف سفارات لبنان ( 3 من اصل 6) في كل اوروبا الشرقية حيث " تنجو" من هذا التدبير فقط سفارات بولوينا ورومانيا والمجر، اما في آسيا فالاقتراح يشير الى اغلاق السفارة في كازاخستان الدولة الاسلامية الوحيدة في منطقة القوفاز التي توجد فيها سفارة لبنانية وسوف يؤدي اقفالها- اذا حصل- الى حصر العمل الديبلوماسي في كل منطقة القوقاز في سفارة لبنان في ارمينيا، وهو امر يعتبره المصدر " غير منطقي"، تماما مثل طرح اغلاق خمس سفارات وقنصلية عامة في اميركا اللاتينية حيث للاغتراب اللبناني وجود واسع وتاريخي. وفي رأي المصدر انه من غير المنطقي اعتماد معيار " الفارق" بين النفقات والايرادات لانه يمكن ان تحقق سفارة ما وفرا عاليا في مقابل عجز في سفارة اخرى ما يحدث توازنا بين السفارتين. اما بالنسبة الى خيار تعيين قناصل فخريين في الدول التي ستغلق سفاراتها، فان ثمة من يرى ان تجربة القناصل الفخريين لم تكن تجربة ناجحة في العديد من الدول الذين اعتمدوا فيها، لانه غالبا ما اعتبروا هذا المنصب " وجاهة" واستغلوه لتسهيل مصالحهم التجارية وعلاقاتهم الاقتصادية ولم يعطوا الاهتمام للوظيفة التي اسندت اليهم وان كانوا لا يتقاضون تعويضاتهم من موازنة الدولة اللبنانية.
وبرزت مشكلة اخرى في ما خص طلب الوزير بو حبيب عصر النفقات في السفارات، اذ وردت معلومات عن لجوء بعض السفراء في اعتماد الاستنسابية في الاستغناء عن الموظفين في السفارات والقنصليات ما احدث تشنجا وتوترا بين السفراء والموظفين لانه لم تضع معايير واحدة في اختيار المطلوب الاستغناء عن خدماتهم، وبدأت ترد الى وزارة الخارجية من نافذين وسياسيين للابقاء على هذا الموظف وصرف آخر، كما عمل عدد من السفراء الى " تصفية حساباتهم" مع موظفين لا يخضعون لمشيئتهم او ينتمون الى احزاب او طوائف مختلفة عن طائفة او حزبية السفير، وهذا ما احدث تململا في الاوساط السياسية اللبنانية. وفي هذا السياق سجلت المصادر المتابعة اعتراض الرئيس نبيه بري على اقتراح اقفال السفارات اللبنانية في 3 دول افريقية منها ليبريا وغانا " بسبب العدد الكبير لابناء الجالية اللبنانية في هذه البلدان وغالبيتهم من المتمولين الشيعة". كذلك اعترض رئيس " التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل على اقتراح اقفال خمس سفارات في اميركا اللاتينية هي التشيلي والاوروغواي والاكوادور والباراغوي وكوبا " بسبب وجود عدد ضخم من ابناء الجاليات اللبنانية التي لها وجود تاريخي في هذه البلدان".
ويؤكد متابعون انه ما لم يتم وضع آلية واضحة بالمعايير لاقفال السفارات، فان مزاجية بعض السفراء ستؤدي الى عرقلة عملية الاقفال وضياع الهدف " التوفيري" منها!.