الاحداث السياسية التي تلاحقت مع بداية الاسبوع حجبت الانظار، ولو موقتا عن الاستحقاق الرئاسي مع دخول البلاد الشهر الثاني للشغور الرئاسي من دون ان تلوح في الافق اي اشارة ايجابية يمكن ان تحيي الامل بامكانية انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لذلك بدت احداث بداية الاسبوع وكأنها اتت لتملاء فراغا سياسيا ولتشكل مادة خلافية جديدة تضاف الى المواد الخلافية الاخرى التي لا حلول ممكنة لها، اقله في الوقت الحاضر. واذا كانت الشرارة الاولى انطلقت من دعوة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الى عقد جلسة لمجلس الوزراء تحت شعار " قرارات الضرورة"، فان انعقادها لم يسبب فقط شرخا وخلافا داخل الحكومة مع مقاطعة 8 وزراء يمثلون فريق الرئيس العماد ميشال عون ورئيس " التيار الوطني الحر" جبران باسيل، بل فجرت خلافا صامتا بين " التيار" و حزب الله نتج عن مشاركة وزراء " الثنائي الشيعي" في الجلسة مما سهل على وزير الصناعة جورج بوشيكيان ان يكون " الوزير الملك" الذي امن نصاب الثلثين الذي بدا الرئيس ميقاتي قبل ساعات من موعد الجلسة جازما بانعقادها رغم بيان المقاطعة الذي صدر عن 9 وزراء كان بينهم بوشيكيان الذي خرج عن قرار وزراء عون- باسيل وشارك في الجلسة رغم مقاطعة الوزراء الاخرين.
اذن، المنطلق كان جلسة مجلس الوزراء، وما تفرع عنها بعضها كان متوقعا، والبعض الاخر غير متوقع.... لكنه حصل. وحده الرئيس ميقاتي كان جازما بان الجلسة ستعقد وهو خفض البنود التي كانت على جدول الاعمال الذي وزع على الوزراء من 65 بندا الى 35 وقال للذين ابلغوه بالبيان الذي صدر بتوقيع 9 وزراء وتضمن مقاطعتهم الجلسة لانها في مفهومهم، غير دستورية وغير ميثاقية، ان الجلسة ستعقد وسيكتمل نصابها لكنه لم يفصح عن ظروف اكتمال النصاب لاسيما وان الوزراء الذين وقعوا هم تسعة: عبد الله بو حبيب، موريس سليم، وليد فياض، وليد نصار، هكتور حجار، جورج بوشيكيان، عصام شرف الدين، هنري خوري، امين سلام. وفي الموعد المحدد، حضر الوزير بوشيكيان ليكمل النصاب، وذلك خلافا لقرار حزب " الطاشناق" الذي طلب اليه عدم المشاركة في الجلسة، مما سبب لاحقا بصدور قرار بفصله من كتلة نواب الارمن بالتزامن مع حملة قوية استهدفته من مناصرين ارمن ومن " التيار الوطني الحر"، لكن بوشيكيان لم يكن وحده الذي حضر الى السراي ليكمل النصاب، بل حضر ايضا احد موقعي بيان المقاطعة الوزير هكتور حجار، لكن حضوره الى السراي ودخوله الى قاعة الجلسة اتى تحت عنوان رفض الاجتماع ومحاولة منع عقده تارة بالصراخ على عدم شرعية الجلسة او دستوريتها، وتارة اخرى بالتهجم المباشر على الرئيس ميقاتي ثم بالتلاسن ومحاولة الاقتراب منه مرارا الى ان فصل بينهما وزير الثقافة محمد بسام مرتضى ووزراء غيره من دون ان يهدأ الوزير حجار بل استمر بالصراخ بهدف افتعال " مشكل" لتعطيل جلسة مجلس الوزراء، لكن لم يتمكن حجار من تحقيق مبتغاه والهدف الذي ارسل من اجله، فانعقدت الجلسة وسط صراخ وزير الشؤون الاجتماعية واقرت البنود الاساسية لاسيما تلك المتعلقة بالاستشفاء وادوية الامراض المستعصية، " والدياليز" وغيرها، اضافة الى تموين الجيش وقرارات اخرى لها طابع العجلة، لتنتهي بدعوة من ميقاتي الى الوزراء المقاطعين للحضور الى السرايا للتشاور في اجتماع غير رسمي في الالية التي يفترض ان تعتمد في عمل مجلس الوزراء لاسيما وان ميقاتي مضطر للدعوة الى جلسات اخرى منها واحدة قبل نهاية السنية للبت في الترقيات العسكرية والتمديد للعاملين في الادارات الرسمية وغيرها من البنود الملحة. لم يحضر الاجتماع سوى الوزير حجار ووزير السياحة وليد نصار الذي ميز نفسه في تعداد اسباب غيابه عن الجلسة " وان كان ورد اسمه في بيان الوزراء التسعة وهو كان يرغب في حذفه واصدار بيان مستقل يشرح فيه الاسباب، لكن البيان صدر فيما الاسم ابقي ولم يحذف! والذين تابعوا مسار اجتماع الوزراء، خرجوا بانطباع ان لا فائدة ترتجى قبل الاتفاق على آلية محددة للعمل عند الحاجة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء... وهذا الامر صعب المنال اذا ما استمرت المواقف المتشنجة على حدتها.
اذن انعقدت الجلسة ونجح الرئيس ميقاتي في تسديد ضربة جزاء في مرمى المعترضين بقيادة النائب باسيل الذي لم يتجاوب مع اعتبار انعقاد الجلسة تم على اساس شعار " الضرورات تبرر المحظورات" فصعد حملته ضد ميقاتي وضد الجلسة معتبرا انها غير دستورية وغير ميثاقية وتؤكد الرغبة في مصادرة دور رئيس الجمهورية وتهميشه فعلا لا قولا. الا ان ميقاتي لم يعر اهتماما لكلام باسيل واكد على ان مجلس الوزراء قد ينعقد ثانية وثالثة وكلما دعت الحاجة، لاسيما وان الدعم الذي تلقاه من " الثنائي الشيعي" كان واضحا جدا. وكذلك من الوزراء السنة ( باستثناء الوزير امين سلام، والدروز وستة وزراء مسيحيين هم الى بوشيكيان، نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، وزير الشباب والرياضة جورج كلاس ( المقرب من الرئيس بري) وزيرا " المردة" جوني القرم وزياد المكاري، وزيرة التنمية الادارية نجلا رياشي، اي نصف اعضاء الوزراء المسيحيين في الحكومة والبالغ عددهم 12 وزيرا.
" صواريخ" باسيلية في كل اتجاه
واذا كان الرئيس ميقاتي خرج من المنازلة المباشرة مع باسيل منتصرا واكثر تصميما على جمع مجلس الوزراء كلما دعت الحاجة، فان ردة فعل النائب باسيل كانت قاسية جدا في اتجاه ميقاتي وبري وحزب الله، علما ان مواقفه معروفة تجاه رئيس الحكومة، وليست المرة الاولى التي يعترض فيها بقوة على أدائه، لكن " الغضب" الذي ساد " التيار الوطني الحر" ورئيسه بعد انعقاد الجلسة برز في المؤتمر الصحافي الذي عقده باسيل ورفع فيه سقف التحديات خصوصا في العلاقة مع حزب الله وان لم يسمه مباشرة في كل حديثه ، لكنه كان يقصده في كل كلمة قالها وملاحظة وجهها خصوصا ان وسائل اعلام " التيار" والجيش الالكتروني فيه قد استبقوا مؤتمر باسيل بهجمات صاروخية استهدفت هذه المرة" الثنائية- الشيعية- السنية" باركانها الثلاثة: نبيه بري، ونجيب ميقاتي، السيد حسن نصر الله. صحيح ان باسيل ركز في مؤتمره على الدور السلبي للرئيس ميقاتي، لكنه في المقابل المح الى خيارات تصعيدية في مواجهة " الذين يريدون النيل منا، واضعا الدفاع عن " الدور" بالنسبة الى " التيار" في مرتبة استراتيجية مماثلة لاهمية الدفاع عن السلاح بالنسبة الى المقاومة، وهو قال مخاطبا الحزب من دون ان يسميه : " اذا كان التيار وقف معكم في موضوع تعتبرونه الاساس وهو سلاح المقاومة، فان وجودنا السياسي في الحكم وشراكتنا هما سلاحنا، وكما تعتبرون ان سلاحكم اساسي لوجودكم، فان وجودنا الحر والمتوازن بالشراكة الوطنية هو بحجم السلاح". بدا باسيل في مؤتمره الصحافي عاتبا بقوة على حليفه الذي لم يقفِ معه في محطات كثيرة سواء في الانتخابات النيابية او في مقاربة الخلافات مع الرئيس بري الذي غمز من قناته مرارا من دون ان يسميه ايضا، محذرا من اضطرار المسيحيين الى التعاطي معها كأمر واقع في حال لم تقر. لقد اكثر باسيل من توجيه الانتقادات والملاحظات القوية لحليفه حزب الله و" فش" بذلك خلقه ليخرج ما اعتمل في صدره طوال سنوات حكم الرئيس عون الذي شكا هو الاخر من مواقف بري ومن " صمت" الحزب وعدم تفاعله الايجابي مع الرئاسة الاولى لمواجهة ما تضعه الرئاسة الثانية في طريقها. وينقل من التقى باسيل خلال الاونة الاخيرة وصولا الى ما بعد جلسة مجلس الوزراء عنه قوله انه في كل معركة مع بري كان الحزب يقف الى جانب بري، وكانت هناك دائما حجة او مبررات قبل ان يسقط الاجتماع الاخير للحكومة الاقنعة، وان الحزب انتقل، في نظر باسيل، من لعب دور المتفرج على الاعتداءات على التيار، تحت ذرائع مختلفة الى المشاركة في الاعتداء. ولا يمكن في هذا السياق، اغفال موضوع الاستحقاق الرئاسي حيث تتباعد وجهات نظر باسيل عن موقف الحزب الدعم لسليمان فرنجية من دون مراعاة رأي حليفه " التيار". ويستذكر باسيل ان من بين المفارقات المتناقضة، انه في انتخابات رئاسة المجلس يقول الحزب بوجوب احترام الجميع، لرأي المكون الشيعي، وفي تكليف رئيس الحكومة السني يرى الحزب ان على الجميع احترام رأي المكونات السنة، اما في انتخابات رئاسة الجمهورية فتصبح المعركة سياسية ولا حاجة للوقوف على خاطر المكون " المسيحي او مراعاته!.
" الحزب" لا يريد تطوير الخلاف
وحيال الاتفاقات الكثيرة حول اداء حزب الله خلال ولاية الرئيس عون والتي لا يخفيها عون نفسه امام زواره، يبرز رأي آخر لفريق حزب الله وان بشكل غير رسمي او علني تقيدا بالتعليمات التي صدرت عن امينه العام السيد حسن نصر الله بعدم الدخول في اي سجال مع " التيار" من رئيسه الى آخر مسؤول حزبي فيه. يوحي هذا الرأي بان تململ الحزب من باسيل له أسباب عدة، ليسَ أولها عدم تشكيل حكومة قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولا آخرها موقف باسيل من المشاركة في جلسة مجلس الوزراء رغم جهود الحزب لحصر جدول الأعمال ببنود ضرورية لقطع الطريق على أي محاولة لكسره. والأكيد أن ثمة مآخذ لباسيل على الحزب أبعد من جلسة وزارية أدخلت التحالف في مرحلة صعبة، لكن ليسَ مستحيلاً إبعاد خطر الطلاق السياسي عنه باعتبار أنه سيكون خسارة للطرفين، باعترافهما. ورغم رد الفعل العوني على موقف الحزب، والذي تخطى المألوف والمقبول في توصيفه لهذا الموقف، كانَ واضحاً وجود قرار لدى حزب الله بعدم الانجرار إلى أي اشتباك سياسي أو إعلامي انطلاقاً من "حق العونيين في تنفيس غضبهم". ورغمَ الصخب الذي أحدثه باسيل في مؤتمره الصحافي و"التهديد" بأن "لموضوع لن يمر ولا أحد يتعاطى معنا بأقل من ذلك، وما حصل ليس أقل من سطو على موقع رئاسة الجمهورية عن سابق إصرار وتصميم"، اعتبرت مصادر سياسية بارزة أن ما قاله رئيس التيار "يبقى تحت سقف التعبئة الذي تعوّد حزب الله عليه"، مشيرة إلى أن "الأبواب ليست موصدة بالكامل رغم كل فتائل التوتير التي كنا بغنى عنها". وفي وقت انشغلت القوى السياسية بـ "توابع" الهزة التي أصابت العلاقة ومناقشة الاحتمالات، لم تغِب علامات الاستفهام حول الأسباب الرئيسية التي دفعت حزب الله إلى توجيه رسالة "في العمق"لباسيل ويكتفي المطلعون باختصار الموقف بأن "الحزب هو المتهم الأول اليوم بتعطيل الاستحقاق الرئاسي، ولا يمكنه أن يقاطع جلسات الحكومة فيُحمّل أيضاً مسؤولية تعطيل جلسات مجلس الوزراء مع توافر كل الظروف التي تؤشّر إلى أن الفراغ طويل جداً". واستطراداً سيحُمّل الخصوم الحزب مسؤولية أي ضرر يلحق بالجهات التي تناول جدول الأعمال قضايا تهمها، لا سيما في ما يتعلق بالمستشفيات والمرضى وموضوع الأدوية، وسيجري التصويب عليه من الباب السياسي. فضلاً عن أن "الحزب تقصّد القول لباسيل إن عليه التخلّي عن اللاءات العبثية، لجهة رفضه الحوار حول رئاسة الجمهورية ورفضه السابق تشكيل الحكومة أو إعطاء الثقة لحكومة تأكد أن له فيها ما لا يقل عن ثمانية وزراء ويرفض النقاش في ملف الرئاسة إلا من منظاره بمعزل عن اعتبارات حزب الله لأن السياق الذي يسير فيه سيؤدي بالبلد إلى مشكلة كبيرة". ويقول قريبون من حزب الله ان المرحلة تحتاج إلى "حوار حقيقي ونقاش عميق في الملف تحت سقف عدم الانفصال"، لكن ذلك "يحتاج بعض الوقت إلى حين أن تهدأ الأمور، فيسكن الغضب المكبوت عند الحزب على باسيل ويفرِغ الأخير كل حنقه"، على أن المناخ الذي بدا تصعيدياً من جانب حزب الله بتبني جلسة الحكومة، فهو لا يعبر بدقة عن وجهة الحزب الذي يصر على العودة إلى الحوار مع باسيل والتيار الوطني الحر للتفاهم على أمور كثيرة ليس أقلها الملف الرئاسي. ويقول المطلعون إن الحزب لم يسبق له أن بادر إلى موقف أو خطوة من استحقاقات عامة قبل النقاش والتشاور مع التيار الوطني. وأنه في حالة عدم التفاهم بين الطرفين على موقف من قضية معينة، فإن الحزب لا يلزم التيار برأيه وهو لا يريد للتيار أن يلزمه بموقفه المسبق. في إشارة إلى أن الحزب يقر بوجود تمايزات بينه وبين التيار في مقاربة ملفات داخلية، وهو ما ظهر جلياً في الموقف من تكليف ميقاتي تشكيل الحكومة. لكن ذلك لا يعني أنه يجب رهن كل العلاقة بين الحزب والتيار بقصة أو حدث محدد، خصوصاً أن الحزب لا يرى في مسألة انعقاد الحكومة أزمة وطنية بالحجم الذي يصوره "التيار الوطني الحر."
في أي حال، المواجهة بين " التيار" وحزب الله لن تقع بتأكيد من الطرفين، قد يحصل تباعد واكثر من العتب لكنه اقل من فراق، وسيبادر الامين العام السيد نصر الله الى " احتواء الوضع" داعيا الى الهدوء وعدم الانجرار الى السجالات للمباشرة لاحقا بعد ان تهدأ الخواطر بــ " صيانة" تفاهم مار مخايل الذي اصيب بنكسة كبرى على اساس ان رأب الصدع له الاولوية لاستمرار التفاهم...اما على صعيد " اساس المشكل" أي جلسات مجلس الوزراء، فثمة من يرى ان ما بعد جلسة الحكومة لن يكون فيها، وان باسيل سيرد على جبهات عدة وسيجعل من عقد الجلسة فرصة لتأكيد ان احدا لا يمكنه تجاوز " التيار" كمكون مسيحي رئيسي. وهو ما بدأ بالفعل اذ ان الاجواء التي اعقبت الجلسة تشير الى ان عقد أي جلسة مقبلة للحكومة لن يكون امرا سهلا بعد الان ايا تكن الاعتبارات الملحة التي قد توجب عقدها خصوصا بعدما رفع الامر الى مرتبة " السطو على موقع رئاسة الجمهورية عن سابق إصرار وتصميم"، وهو ما لا يمكن لأي طرف مسيحي "ابتلاعه"، وإضافة إلى بدء البحث في آلية للطعن في قرارات الحكومة ، فإن الردّ الأساس سيكون في المجلس النيابي، عقر دار خصمه الرئيسي نبيه بري، مع انضمام التيار إلى قوس المعارضة المسيحية لتشريع الضرورة بما يعطّل فعلياً عمل المجلس، ويؤكد أن التيار رقم صعب قادر على تعطيل العمل الحكومي والنيابي متى أراد ذلك. أضف إلى ذلك، فقد كان باسيل واضحاً في إشارته إلى الخروج من خيار الورقة البيضاء في انتخابات رئاسة الجمهورية، والتلويح بـ"التصلّب" في الموضوع الرئاسي، ما يشير إلى احتمال أن يعلن، في خطوة معينة، رفضه النهائي لترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الأمر الذي سينعكس مزيداً من التعقيد في علاقته مع حزب الله ومع بقية الأطراف. وفي هذا السياق، يتوقع أن يكون للتيار الوطني الحر موقف جديد، بالتشاور مع البطريرك الماروني بشارة الراعي ربطاً باللقاءات التي أجراها باسيل مع الفرنسيين والقطريين ومسؤولين أميركيين في الأسابيع الماضية.