في رسالة الفصح التي وجهها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي يوم " سبت النور"، اشار االبطريرك بالاجواء " الايجابية" التي سادت الخلوة التي كان ترأسها يوم " اربعاء ايوب" في بيت عنيا في حريصا في حضور 53 نائبا مسيحيا، وغياب 11 منهم لاسباب مختلفة، معتبرا انها شكلت مرحلة جديدة يمكن ان تحمل في طياتها مؤشرات ايجابية، مركزا على ان " امام ضمير النواب الوطني والنيابي ما يثقله من مسؤوليات اهمها انتخاب رئيس للجمهورية ينعم بالثقة الداخلية والخارجية، والا ظل المجلس النيابي معطلا عن التشريع والمحاسبة والمساءلة فيما هم يشغلون منصبا فارغا من محتواه". وقال البطريرك للنواب، ومنهم من كان التقاهم الاربعاء الذي سبق عيد الفصح لدى الطوائف الغربية، " اذا لم تفعلوا ظلت الدولة من دون حكومة كاملة الصلاحيات، وظل القضاء متوقفا وخاضعا للنفوذ السياسي، وكارثة تفجير مرفأ بيروت طي النسيان والسلاح الشرعي في حالة انفلات". والواقع ان الذين استمعوا الى رسالة البطريرك الفصحية، تساءلوا عن سبب تكرار سيد بكركي دعواته الى النواب وكأن ما حصل في الخلوة لم يحقق اي نتيجة عملية على رغم انها كانت خلوة " روحانية" طغى عليها التأمل والصلاة والرياضة الروحية. فهل حققت الخلوة ما كان يصبو اليه البطريرك الراعي عندما دعا اليها؟
مما لا شك فيه ان السقف المنخفض الذي انطلق منه سيد بكركي عندما قرر جمع النواب المسيحيين بعد تعذر جمع رؤساء الكتل المسيحية الاساسية ظل على حاله ولم يحقق اي " ارتفاع" على رغم ان الظروف الاستثنائية كانت تفرض على القادة المسيحيين ان يلتقوا للاتفاق على الرئيس العتيد طالما ان القادة المسلمين وضعوا الكرة في ملعبهم وحملوهم مسؤولية تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية. لكن الاسباب التي حالت في السابق دون لقاء القادة المسيحيين ظلت هي نفسها وخيمت على اجواء " خلوة بيت عنيا" التي وان التقى النواب المسيحيون فيها وتسايروا و" وكزدروا" مع بعضهم البعض خلال الاستراحة، والتقطوا صورا تذكارية، الا انهم في الواقع تفرقوا بعد انتهاء الخلوة وكأن شيئا لم يكن وبعضهم غادر حريصا بعد انتهاء الغذاء من دون ان يودع البطريرك! لقد بدا واضحا من الخلوة وما نتج عنها وكان مقررا سلفا، ان اصحاب الدعوة لم يرتقوا في طموحاتهم الى تحقيق خرق في المشهد المسيحي المأزوم والمشرذم تمهيدا لتوحيد الجهود لمواجهة استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية تكون الكلمة الفصل فيه لهذا الفريق. كذلك بدا ان المشاركين برئاسة البطريرك لم يعملوا للخروج من محيط حريصا الى الافق الاقليمي الاوسع لمواكبة المتغيرات المتسارعة الحاصلة والتي تتجاوز الملف اللبناني عموما والشأن المسيحي خصوصا. ولعل عدم صدور بيان عن الخلوة لابقــــاء الطابع " الروحاني" مسيطرا عليها ما اكد المعطيات التي تكونت بعدها بان النواب الحاضرين اتوا الى حريصا لتلبية دعوة البطريرك للحضور وليس لاي شيء آخر وان الساعات التي امضوها في بيت عنيا لم تقدم ولم تؤخر في مواقف الحاضرين من الاستحقاق الرئاسي، الامر الذي يدفع الى عدم التعويل على هذا اللقاء كي يكون محطة مفصلية في ما خص الدور المسيحي في صنع المستقبل السياسي في لبنان، لاسيما وان هذا الدور تراجع كثيرا خلال الاعوام الماضية ما احدث تململا في صفوف ابناء الطوائف المسيحية الذين شعروا ان الدور الشيعي بات هو الاقوى على الساحة الداخلية، بعدما تشرذم الدور السني على اثر تعليق الرئيس سعد الحريري العمل النيابي وعدم مشاركته وتياره " المستقبل" في الانتخابات النيابية التي جــــرت في ايــار ( مايو) 2022. ولعل اكثر ما يعانيه الحضور المسيحي راهنا هو حالة الانقسام بين فريق مسيحي شريك للسعودية، وفريق مسيحي شريك لايران او ما يعرف بــ " خط الممانعة" ومن المتعذر جمع الفريقين على رغم نداءات البطريرك الماروني للالتقاء ولو على الاستحقاق الرئاسي فحسب.
الاحباط لدى المسيحيين تكرس في بيت عنيا
لقد انبرى فريق من الموارنة للدفاع عن خطوة البطريرك بعد " النكسة" التي اصيبت بها متذرعا بانه ليس مطلوبا من بكركي ان تلعب دورا سياسيا يتجاوز دورها الروحي والكنسي وبالتالي فان خطوة الراعي صبت في هذا الاتجاه كي لا تتحول الخلوة الى مكان للتفاوض على اسم او اسماء مرشحة للرئاسة، وبالتالي فان ما فعله البطريرك هو اقصى ما يمكن ان يقوم به رأس الطائفة المارونية بعدما تعذر عليه جمع القياديين الموارنة تحت عباءته لان كل فرد منهم له " اجندته" الخاصة وهو التزم مواقف لن يكون من السهل عليه التراجع عنها. الا ان دفاع هذا الفريق عما حصل في بيت عنيا لا يستقيم في نظر فريق آخر يرى ان البطريرك الراعي يعمل في السياسة العميقة فهو يوفد مطرانا من قبله على القيادات المسيحية الاساسية، ويستقبل سفراء يحدثوه عن الاستحقاق وعن اسماء مرشحين وضعت في لائحة بطريركية، ويرسل اقتراحات باسماء الى هذا الطرف وذاك، وبالتالي فان البطريرك " منغمس" في العمق مع الملف الرئاسي وهو يقاربه من منظار سياسي ووطني، وليس من مرتكز ديني او روحاني صرف، ومن غير المقبول ان تكون بكركي صندوق بريد وليس لها الدور الاساس في المساهمة باختيار رئيس الدولة الماروني. الا ان الواقع الذي " تحكم" بشكل او بآخر في خلوة بيت عنيا هو ان لا رغبة لاي طرف من المشاركين بتقديم تنازلات الى الاخر، او التسليم بحق هذا القيادي او ذاك، او هذه الشخصية المارونية او تلك، بدخول قصر بعبدا، لان الرغبة التي تجمع بين الحاضرين هو المحافظة على الزعامات التقليدية وان اختلفت في ما بينها، وعدم القبول باي شخصية من " خارج النادي" بتبوأ المركز المسيحي الاول في البلاد. وهذا يعني عمليا ان الخلافات ستبقى قائمة بين القيادات المسيحية ما لم يحصل " قبول" من هذا الطرف بالاخر، واستطرادا فان اي خلوة، في حريصا او بكركي، لن تسفر عن اي نتيجة وستبقى الازمة الرئاسية تدور في الحلقة المفرغة اياها.
البعض قال خلوة حريصا فرصة ضاعت، واخرون قالوا انها اسست لمشهد مسيحي جديد، والبعض الثالث رأى فيها مناسبة لم يعرف استثمارها.... وبعيدا عن ا ختيار هذا التقييم او ذاك، الا ان الواقع ان احباطا سادت المسيحيين بعد انتهاء خلوة حريصا لانهم كانوا يعولون عليها لبدء نواة حوار يمكن ان يؤدي الى انفراجات سياسية واسعة، وهذا الاحباط هو جزء من سلسلة احباطات، وهو فصل آخر من فصول التشرذم المسيحي الذي لم يتعلم من دروس الماضي، على رغم مرارتها!.