المبادرة الانسانية التي قام بها لبنان تجاه الشعب السوري المنكوب على اثر الزلزال الذي ضرب تركيا وكانت له ارتدادات قاسية على عدد من المناطق السورية اوقعت الاف القتلى والجرحى ودمرت الاف المنازل وشردت كثيرين، هذه المبادرة انقسم حولها اللبنانيون، مثل العادة، بين مؤيد ومشجع، وبين متحفظ وصولا الى حد الرفض. واذا كانت ردود الفعل السلبية مستغربة حيال مأساة انسانية مؤلمة، فان بعض المعترضين ذهب الى حد استحضار التاريخ الحديث لتبرير موقفه السلبي، ما احدث ردود فعل سلبية عند مؤيدي الخطوة اللبنانية الانسانية والداعين لها فصارت مواقع التواصل الاجتماعي والنشرات الالكترونية، مساحة واسعة لجدال ونقاش وتعليقات لم تخل من العبارات اللاذعة والشتـــائم والتهديدات التي بــــاتت، ويا للاسف، " ثقافة" التواصل الاجتماعي والنشرات الصفراء التي لا رادع لها. في المقابل، شكلت مبادرة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالاتصال بنظيره السوري حسين عرنوس، ثم بارسال وفد وزاري رفيع المستوى رسمي الى دمشق برئاسة وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب، خطوة ايجابية اعتبرت كسرا لقطيعة استمرت طويلا بين الحكومة اللبنانية والحكومة السورية على اثر اندلاع الاصوات في سوريا في العام 2011. ولعل الحملة التي استهدفت الرئيس ميقاتي من بعض الابواق التي تتعاطى بسلبية مع كل خطوة حكومية، اظهرت كم ان ثمة سياسيين يعيشون في " قوقعة" من الشماتة غير المبررة ازاء ما حل بالشعبين السوري والتركي نتيجة الزلزال والهزات الارضية المتتالية من دمار وخراب وقتلى وجرحى ومشردين. وذهب البعض الى حد التساؤل مما اذا كان الزلزال المدمر يمكن ان يؤدي الى متغيرات في ما خص العلاقة مع سوريا مع وجود ضغوط داخلية لتحقيق هذا التغيير في العلاقات بين البلدين المتأثرة بالموقف الدولي السلبي من سوريا.
لقد بدت مبررة الدعوات التي صدرت للمطالبة برفع العقوبات عن سوريا واعادة وصل ما انقطع بينها وبين دول العالم انطلاقا من المعايير الانسانية خصوصا لدى المقارنة بين الدعم الدولي الذي قدم لتركيا في مقابل التجاهل المتعمد من المجتمع الدولي للكارثة التي حلت في سوريا، باستثناء بعض المبادرات الانسانية التي سجلت في هذا الاطار، في وقت تحدث فيه كثيرون بضرورة التمييز بين النظام السوري الذي يعارضونه والانسان السوري الذي يواجه كارثة غير مسبوقة في التاريخ السوري الحديث، ذلك ان الدمار لا يميز بين معارض للنظام او مؤيد له، والاضرار تستثني هذا الفريق لتصيب آخر. اما لبنانيا فثمة من ربط بين المبادرة الرسمية للمساعدة في رفع الانقاض وانقاذ الموجودين تحت الردم، بانه " مسارعة للتطبيع مع النظام السوري"، وذلك في ردة فعل متسرعة من هؤلاء لان المسارعة الى المساهمة في عمليات الانقاذ لا يمكن اعتبارها "تطبيعا"، علما ان عبارة " التطبيع" لا تستقيم في مفاهيم الدول، لان لبنان يقيم علاقات ديبلوماسية مع سوريا ويتبادل البلدان السفراء والبعثات الديبلوماسية وبينهما معاهدة اخوة وتنسيق لم يسقطها مجلس النواب بعد، وهناك المجلس الاعلى اللبناني السوري الذي لا يزال قائما بكل مؤسساته، وبالتالي فان عبارة " التطبيع" تستخدم بين دولتين في حالة عداء، كما كانت الحال بين عدد من الدول العربية واسرائيل قبل ان ينطلق " ماراتون" التطبيع عابرا من دولة خليجية وعربية الى اخرى. لذلك يبدو استعمال عبارة " التطبيع" في غير مكانه. كذلك ربط بعض المعترضين بين المبادرة الحكومية الانسانية والاستحقاق الرئاسي مع ما في هذا الربط من " اجتهاد" لا يصح مع الحالة الحاضرة في لبنان وواقع الانتخابات الرئاسية لان الوضع الراهن مختلف عما كان عليه في السابق وسوريا باتت تنأى بنفسها عن المسائل الداخلية اذ لديها ما يكفيها من الهموم الداخلية التي تجعلها غير راغبة مطلقا في الغوص في المستنقع اللبناني كما كانت تفعل في السابق، علما ان كل من يزور دمشق يعود بجواب واضح من المسؤولين السوريين على ارفع مستوى عندما يسألون عن موقفهم من اصوات لبنانية معنية، ومنها راهنا الاستحقاق الرئاسي، اذ يأتيهم الجواب واضحا وجازما: "اسألوا السيد حسن"!
دمشق رحبت بالمبادرة اللبنانية
في اي حال مهما كانت ردود الفعل اللبنانية على المبادرة الحكومية تجاه سوريا، سواء كانت مرحبة او معترضة، فان دمشق تلقفتها بارتياح وايجابية لانها " ساهمت" في كسر الحصار المضروب على سوريا التي رأى المسؤولون فيها بانها " خطوة مقدرة" لاسيما وان لبنان يعاني من ازمة اقتصادية حادة. وتقول مصادر قريبة من دمشق ان الموقف الايجابي السوري تجاه لبنان ليس وليد الساعة ذلك ان ابواب دمشق كانت مشرعة دائما للبنانيين، وتحديدا للحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 ولكن كانت المشكلة تكمن دائما بالحسابات اللبنانية التي لا تريد تجاوز الاجماع العربي على مقاطعة سوريا، والغربي الساعي الى اسقاط نظامها. ورغم التنسيق الامني المستمر عبر اللواء عباس ابراهيم المدير العام للامن العام، ورغم زيارات الوزراء التي كانت تحصل بين فترة واخرى، الا ان دمشق ترى بان زيارة وفد رسمي بتكليف من رئيس الحكومة امر يختلف تماما عن زيارات كانت تغطيها مرجعيات سياسية ( زار وزراؤها العاصمة السورية). الا ان مصدرا سياسيا سوريا استبعد ان يكون الزلزال مقدمة لاعادة تطبيع العلاقات على اكثر من صعيد، معتبرا ان ميقاتي لن يتخذ في ظل هذه الظروف خطوة في هذا الاطار، الا ان الواقع السياسي في لبنان لم يعد كما كان ابان الحرب السورية، وان هذه الخطوة لا بد ان تأتي قريبا. ولكن زيارة الوفد الوزاري رطبت العلاقات ومهدت لشيء ما قد يتطور قريبا، حيث تفضل دمشق ان يحصل هذا التطور تحديدا من قبل سلطة مكتملة المعالم لبنانيا وليس في ظل فراغ في سدة الرئاسة.