التقى اكثر من مسؤول دولي مع مسؤولين لبنانيين على اعتبار الصيغة التي وافق عليها لبنان بلسان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لترسيم الحدود البحرية الجنوبية بانها " اتفاق تاريخي"، وتبارى البعض في الاشادة بهذا الانجاز، في وقت تعالت اصوات رفضته واتهمت المسؤولين الذين وقعوا عليه بــ " الخيانة العظمى" وغيرها من العبارات التي لا تأتلف مع ما روج له الجانب الرسمي اللبناني، ومعه الجانب الاميركي فيما انضم الرئيس الفرنسي" ايمانويل ماكرون" الى المرحبين بــ " حرارة" بالنتيجة التي وصلت اليها المفاوضات التي تولاها الوسيط الأميركي" اموس هوكشتاين" وساعدت فرنسا في وصولها الى خواتيمها. ومن الطبيعي ان يكون الوسيط" هوكشتاين" اكثر " السعداء" في ما آلت اليه المفاوضات التي تولاها بين لبنان واسرائيل، وهو حرص من خلال طلات اعلامية متكررة الاسبوع الماضي على التأكيد على سلسلة مسائل ابرزها تأكيده بان لبنان لم يخسر في الترسيم بل كسب اقتصاديا وكذلك اسرائيل " ربحت" خطا حدويا آمنا، فضلا عن ان لبنان بات لديه ما يكفي من مساحة في المياه تمنحه القدرة على تطوير حقل غاز حصري له من شأنه ان يوفر الاستثمار الاجنبي الذي سيتدفق لاول مرة الى لبنان اضافة الى امكانات الغاز التي ستتدفق الى محطات توليجد الكهرباء. ولم يخف هوكشتاين في هذه الاطلالات الاعلامية المتتالية سعادته بانه " نجح" حيث كان فشل قبل سنوات حين عمل على هذا الملف واستفاد من تجربته واستثمر هذه الفائدة في الجولة الثانية من المفاوضات. وفيما اعلن الوسيط الاميركي ان شركة " توتال" الفرنسية و " ايني" الايطالية ستعلنان في غضون اسابيع الاستعداد للبدء بالتنقيب، بدا حريصا على القول ان لبنان واسرائيل وجدا من خلال المفاوضات آلية للتوصل الى اتفاق " وهذا ما فعلناه وتمكنا من تحقيق تقدم اوصل الى الاتفاق".
و"هوكشتاين" ليس وحده من تولى الترويج لاتفاق الترسيم، ذلك ان نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي تولى باسم المسؤولين اللبنانيين التفاوض مع الوسيط الاميركي واصل الليل بالنهار لتحقيق الانجاز غير المسبوق، اكثر هو الاخر من اطلالاته الاعلامية للحديث عما حصل خلال المفاوضات متوقعا ان تكون المرحلة الاخيرة في نهاية الاسبوع الاخير من شهر تشرين الاول ( اكتوبر) الحالي والتي ستشهد تبادل الرسائل الموقعة من لبنان واسرائيل وفق الالية التي وصفت لهذه الغاية. وعزا المواقف الاسرائيلية التي رفضت ما تم التوصل اليه، وابرزها موقف رئيس الوزراء السابق" بنيامين نتنياهو"، الى المزايدات الداخلية قبل ايام من الانتخابات الاسرائيلية بهدف الحصول على المزيد من الاصوات للفوز فيها على منافسه رئيس الوزراء الحالي "يائير لابيد". وكشف بو صعب ان" نتيناهو" عندما كان رئيسا للوزراء تفاوض مع لبنان وكان يعرف النقاط التي يرفضها الجانب اللبناني والتي لا يمكنه التخلي عنها تحت اي ظروف، والذي اختلف اليوم ان هناك فرصة امام الاسرائيلي لانتاج الغاز الى اوروبا بعد بدء مفعول الاتفاق وهذه فرصة اقتصادية مهمة لتل ابيب ومكسبا اقتصاديا اضافيا. وعندما سئل بو صعب عن الدراسة التي اجرتها شركة " توتال" وقوله سابقا ان في حقل قانا 1،7 تريليون متر مكعب من الغاز في مقابل 1،2 تريليون في حقل كاريش على عكس ما قالته وزيرة الطاقة الاسرائيلية "كارين الحرار"، اكد كبير المفاوضين اللبنانيين ان لا احد بامكانه تحديد الكمية قبل ان تبدأ عملية التنقيب بشكل فعلي، الا ان الدراسة التي اجرتها شركة " توتال" من خلال تقنية المسح الثلاثي الابعاد، اظهرت النتائج التي تم الاعلان عنها سابقا. وعن ازمة الطاقة التي تشهدها اوروبا نتيجة الحرب الروسية على اوكرانيا التي بدأت في شباط ( فبراير) والدور الذي لعبته في حلحلة ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، لان عين الاوروبيين على غاز " كاريش"، اكد بو صعب ان حاجة القارة العجوز بالفعل لاي مصدر بديل للغاز الروسي سهلت اتمام الاتفاق. وقال " نعم ما يحدث في اوروبا منح لبنان فرصة كبيرة لانجاز هذا الاتفاق وللحصول على كامل حقوقه وفي المقابل الطرف الاسرائيلي يدرك انه استفاد من خلال هذا الاتفاق بعد ا ن بات قادرا على انتاج الغاز بمجرد ان منح لبنان حقه في انتاج غازه". ولفت الى ان هوكشتاين عمل بالتوازي مع ترسيم الحدود على اتفاق مواز لحل ازمة الكهرباء.
ملاحظات معترضين على الاتفاق
الا انه، وفي مقابل الاشادات بما توصلت اليه المفاوضات، ثمة من رأى في النص الرسمي الذي وزع للورقة التي اعدها" هوكشتاين "وابلغها الى الجانبين اللبناني والاسرائيلي، " ندوب" تحدث عنها اكثر من خبير ومحلل بينهم الباحث والاستاذ في الجامعة الاميركية قاسم غريب الذي رأى في بعض البنود الواردة في الرسالة ما يضعف قوة الموقف اللبناني ومنها الاتي:
- تِبعاً للفقرتين "و" و"هـ" من القِسم الثاني من الاتّفاق، رُهِن بِدء العمل بتطوير حقل قانا المُحتمل مِن قِبل المُشغّل توتال بموافقة اسرائيل. وهذا باب واسع من أبواب التعطيل في المُستقبل. وقد نجد أنفسنا أمام نسخة جديدة من حقل "أفروديت" القبرصي الذي تأجّل بدء العمل فيه سنوات لاعتراض العدوّ على ذلك رغم العلاقات الودّية التي تربط اسرائيل بقبرص.
- حُصِر بتّ الخلافات في أيّ نزاع في المستقبل بالولايات المتّحدة من دون غيرها (القسم الرابع – فقرة أ). كيف للبنان أن يأمن للولايات المتّحدة ببتّ خلافاته مع اسرائيل؟ وهل كانت الولايات المتّحدة إلّا طرفاً في أيّ نزاع عربي مع اسرائيل؟ فهي والعدوّ كانا دائماً وجهين لعملة واحِدة.
- يحرم الاتّفاق الشركات اللبنانية من أن تكون صاحبة حقوق في البلوك 9 بينما لم يُمنع الأمر ذاته على شركات العدوّ في البلوكات المقابلة جنوب الخطّ 23 (القسم الثاني - فقرة ج). لا يُمكن لهذا البند أن يُفهم إلّا إذا وُضع في سياق حِرمان لبنان من المشاركة الفاعلة في تطوير حقوله وتعظيم منفعته الاقتصاديّة من هذه الحقول. ماذا يعني ذلك في سياق انسحاب شركة نوفاتيك كصاحبة 20% من الحقوق من اتّفاقيّتي التنقيب والإنتاج العائدتين للبلوكات 4 و9 و إعلان وزير الطاقة وليد فيّاض، بناءً على توصية هيئة إدارة قطاع البترول، تكليف الهيئة بإدارة حصّة الدولة في هذين البلوكين؟ هذا يعني أنّ الدولة ستتنازل، من ضمن اتّفاق معد سلفاً، لشركة «توتال» على الأرجح، أو لغيرها، عن حصّتها بسعر بخس هذه المرّة أيضاً بعد أن لزّمت البلوك 9 كلّه للكونسورتيوم بسعر بخس أساساً مقارنة مع البلوك رقم 4، رغم الأرجحيّة للبلوك 9 من ناحية احتمالات الاكتشافات التجارية.
- يتحدّث الاتّفاق بوضوح عن حقوق للبنان و"حقوق" لاسرائيل في حقل قانا المُحتمل وعن "حصّة" للبنان. ولا يُفهم في الاتّفاق، بأيّ طريقة واضحة، بأنّ كامل حقل قانا المُحتمل هو للبنان وبأنّ العدوّ يُعوّض من جيب المُشغّل ("توتال") عن "حِصّته". حتّى أنّ الاتّفاق أوجَبَ على المشغّل تطوير حقل قانا المُحتمل وفقاً "لممارسات الصناعة النفطيّة الجيّدة"، وما كان له أن يتناول ذلك لو لم يكن للحفاظ على "حقوق" اسرائيل في الحقل المُحتمل (القسم الثاني - الفقرتان "ب" و"هـ"). حتّى أنّ بدء التطوير في الحقل من قِبل المُشغّل، محكوم بموافقة العدوّ كما أوردنا آنفاً.
- يتحدّث الاتّفاق عن نهائيّة الحدود البحريّة مع العدوّ وعن اعتراف لبنان الدائم غير القابل للتغيير بهذه الحدود (مُقدّمة الاتّفاق والقسم الأوّل فقرة "د" والقسم الثالث – فقرة "ج"). فلنفترض جدلاً بأنّ هذا من موجبات الاتّفاق. على أنّ الاتّفاق يؤكّد على موافقة الطرفين على أنّ الخطّ المُتّفق عليه ليس فقط دائماً بل هو مُنصِف. فإذا كانت خطايانا التاريخيّة وسوء إدارتنا للملفّ منذ سنة 2007 أوديا بِنا إلى القبول بالخطّ 23، لِم علينا ابتلاع مقولة بأنّ الخطّ مُنصف؟ كيف يكون الاتّفاق منصِفاً ولم يُعطنا أكثر من 20% من المساحة بين خطّي" هوف" الذي يحتسب تأثيراً كاملاً لصخرة تخليت والخطّ اللبناني 29 الذي لا يحتسب أيّ تأثير لتلك الصخرة وما قرار محكمة العدل الدوليّة في الخلاف الحدودي بين كينيا والصومال إلّا تأكيد على متانة الخطّ 29 مقارنةً بخطّ "هوف".
- حتّى في ما خصّ ضمانات التنقيب والتطوير، حصر الاتّفاق ذلك باعتزام الولايات المتّحدة بذل كلّ الجهود في سبيل ذلك (القسم الثالث - فقرة د). ضمانتنا الوحيدة، تِبعاً للاتّفاق، تعهّد من الولايات المتّحدة... ما هي الآليّة لذلك؟ ماذا لو قرّرت شركة "توتال"، لأيّ سبب من الأسباب، الانسحاب من اتّفاقيّة التنقيب والإنتاج في البلوك 9؟ كيف تُصرف الضمانات الأميركيّة في هذه الحالة؟.