بقلم خالد عوض
سوقت المقاومة في لبنان عدة شعارات عبر ترسيخها معادلات عسكرية ميدانية تعكس صمودها، وفي أحيان انتصاراتها، أمام العدو الإسرائيلي خلال الثلاثين سنة الماضية وخاصة منذ إنسحاب الإسرائيليين من لبنان في ٢٥ ايار (مايو) ٢٠٠٠. في منتصف التسعينات ثبت حزب الله بمساعدة مباشرة من الرئيس الشهيد رفيق الحريري معادلة "توازن إيذاء المدنيين". كان ذلك بعد قصف الإسرائيليين بلدة قانا الجنوبية وقتل ضحايا مدنيين ابرياء اختبأوا في المطقة الخاصة بالقوات الدولية. رد حزب الله بقصف مدنيين اسرائيليين في الجليل. بعدها توالت المعادلات. أصبح هناك توازن الردع، أي الصواريخ مقابل الغارات الجوية، وتوازن الأسر والخطف بعد تحرير سمير القنطار عام ٢٠٠٦ عن طريق خطف جنود اسرائيليين، ثم حالة توازن الرعب أي رد الهجوم على أي منطقة في الجنوب اللبناني بإمكانية هجوم عبر الأنفاق على بلدات الجليل. بعد الإتفاق المبدئي على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أصبح هناك معادلة جديدة اسمها الغاز مقابل الغاز.
بين المعلوم والمجهول
الفارق في المعادلة الغازية الجديدة أنها لا تزال نظرية. فلبنان لم يتأكد بعد من كميات الغاز والنفط الموجودة في مياهه، على عكس إسرائيل التي تعرف بدقة كل مكامن الغاز في منطقتها الإقتصادية وهي أساسا تستخرج الغاز من حقول أخرى مثل "تمار" و"لفياثان" لإستخداماتها الداخلية التي تقدر بحوالي ١٢ مليار متر مكعب سنويا، وهي حاليا في طور تصدير القائض منه إلى أوروبا عبر مصر. وبغض النظر عن حجم التنازلات من الطرفين إلا أن المعادلة هي زمنيا لصالح إسرائيل لأنها تسمح لها فورا بإستخراج الغاز من حقل "كاريش" بينما أمام لبنان خمس سنوات على الأقل للإكتشاف والتنقيب والإستخراج، ولكن الترسيم كما حصل أي وفق الخط ٢٣ يؤكد حصول لبنان على البلوكات ٨ و١٠ بالكامل إلى جانب حقل قانا، وهذا يمكن أن يؤمن للبنان كامل احتياجاته الغازية لمعملي الزهراني ودير عمار لتأمين الكهرباء ٢٤ ساعة على ٢٤ إلى جانب توفير عائدات مالية إضافية يمكن أن يصل مجموعها إلى أكثر من ٣ مليار دولار خلال خمس سنوات.
شكرا "جو"
ليس خافيا أن ملف الترسيم بين لبنان وإسرائيل كان من المسائل التي تولاها البيت الأبيض مباشرة وتابعها الرئيس الأميركي "جو بايدن" شخصيا. هناك عدة اعتبارات جعلت الولايات المتحدة حريصة على إنهاء الإتفاق خلال الأسابيع الماضية. أولا أرادت إدارة "بايدن" تجنب أي حرب في المنطقة ليس فقط لعدم تعرض أمن إسرائيل ومصالحها الغازية للخطر، ولكن فتح أي جبهة في المنطقة سيكون متنفسا للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" الذي يعاني من ضغط عسكري كبير في المناطق التي ضمها أخيرا ومن إحتمال تفكك جيشه في عدة مناطق في شرق أوكرانيا. سيناريو حرب في جنوب لبنان سيتيح للرئس الروسي الموجود عسكريا في سوريا تحويل الأنظار عن خسائره في أوكرانيا وإستعادة المبادرة الإقليمية ليصبح "راعي سلام" بدل صورة "مجرم الحرب" التي يصر الغرب على الصاقها به. الإعتبار الثاني يخص إيران. فالنظام الإيراني يواجه إضطرابات داخلية تهدد ديمومته. من جهة لا تريد الولايات المتحدة اعطاءه أي فرصة لإعادة تجييش شعبه في حرب، ولو بواسطة حزب الله، مع "الشيطان" الإسرائيلي، ومن جهة ثانية فإن إيران أصبحت بحاجة ماسة لإعادة إحياء الإتفاق النووي المجمد تماما، وأي دعسة ناقصة في المياه اللبنانية لن تساعد في نفخ الروح فيه. الإعتبار الثالث هو حاجة أوروبا للغاز الإسرائيلي. الولايات المتحدة في معركة كسر عظم مع روسيا في أوكرانيا ورغم الإنتصارات العسكرية للجيش الأوكراني إلا أن نقطة الضعف في هذه الحرب هي قدرة أوروبا على تخطي الشتاء من دون الغاز الروسي. وكل قطرة غاز تساعد في إجتياز أوروبا للشهور الباردة الآتية هي اسفين في قدرة "بوتين" على الإستمرار في الحكم في روسيا.
من جديد شكرا "قطر"
لولا تدخل قطر في مفاوضات الترسيم لما أنجز الملف رغم كل الضغوطات الأميركية. فلبنان رفض إعطاء إسرائيل أي تعويض عن الغاز الذي يمكن أن يستخرج من الجزء الجنوبي من حقل "قانا" الذي يقع تحت الخط ٢٣، وشركة "توتال" لا يمكن أن تؤمن هذا التعويض من ارباحها وحدها خاصة بعد أن خرجت شركة "نوفاتك" الروسية من التحالف الذي يجمعها مع "توتال" الفرنسية و"ايني" الإيطالية. وبما أن هناك شراكة كبيرة بين "توتال" وشركة قطر للطاقة في حقل الشمال القطري تدخل الجانب القطري ليضمن الحيز المالي من الإتفاق بحيث يدخل شريكا إما مع "توتال" أو عن طريق إستحواذ الحصة الروسية بالكامل بالإضافة إلى جزء من حصتي "توتال" و"ايني" فيخفف من العبء المالي الذي التزمت به الشركة الفرنسية مع الجانب الإسرائيلي.
لا شك أن الترسيم بين لبنان وإسرائيل فتح آفاقا إقتصادية مهمة للبنان. تقريش الترسيم لبنانيا لن يكون بسرعة الإستخراج الإسرائيلي من حقل "كاريش" ومن هنا عدم التوازن: طرف سيغرف حالا من حقل الغاز بينما الطرف الآخر لن يحصل على أي شيء في القريب العاجل. ولكن الإتفاق ينبئ ببدء حقبة جديدة وهي وقف الحصار المالي الأميركي للبنان وتحييد منصات الغاز والنفط عن أي صراع عسكري مستقبلي بين لبنان وإسرائيل. هي معادلة جديدة برعاية أميركية مثل تفاهم "نيسان" أيام الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" ووزير خارجيته "وارن كريستوفر" عام ١٩٩٦، والقرار ١٧٠١ الذي رعاه الرئيس الأميركي "جورج بوش" ووزيرة خارجيته "كوندوليزا رايس" عام ٢٠٠٦. المعادلة هذه المرة هي بإمضاء "جو بايدن" ومبعوثه "آموس هوكشتاين".