بقلم خالد عوض
الذكاء الاصطناعي يغزو العالم. الشركات المتخصصة في كل ما هو "اصطناعي" زادت قيمتها السوقية عدة أضعاف خلال الأيام الماضية ودخلت شركة "انفيديا" المصنعة للشرائح ومعالجات الرسومات نادي الشركات التي تزيد قيمتها السوقية عن ألف مليار دولار. "Chat GPT" حصد أكثر من ١٠٠ مليون مستخدم خلال ثلاثة شهور وأكثر من ملياري شخص زاروا موقعه في نفس الفترة. الرئيس الأميركي "جو بايدن" استدعى شركات الذكاء الاصطناعي طالباً مساعدتها لوضع قوانين الحماية والرقابة التي تمنع من تفلت هذه التكنولوجيا الثورية وعدم تحولها إلى أداة شر. العالم في مرحلة شبيهة بتلك التي سبقت الكمبيوتر والانترنت ومحركات البحث والتواصل الاجتماعي مع فارق بسيط: أصبح هناك شريك جديد للإنسان في صناعة المستقبل، بل ربما تكون لهذا الشريك الحصة الأكبر في كل جوانب حياة الغد.
القطار غادر الحاضر
مع دخول الآلة الحاسبة عام ١٩٦٧ إلى سوق العمل طارت عشرات آلاف الوظائف المرتبطة بالحسابات اليدوية ودب الهلع في القطاع التربوي خوفاً من استبدال معلمي الجبر والرياضيات ومن تراجع القدرة الحسابية عند التلاميذ. التوجس من مجيء تكنولوجيا جديدة أو وسيلة عمل متطورة تؤدي إلى الاستغناء عن مئات آلاف بل ملايين الوظائف هو ردة فعل انسانية طبيعية. ولكن مع كل موجة تطور كالتي نشهدها اليوم يتم خلق وظائف جديدة وابتكار وسائل عمل مختلفة وطرق تفكير خارجة تماماً عن المألوف.
الذكاء الاصطناعي يدخل العالم اليوم من كل الأبواب ولذلك فإن ردة الفعل السلبية مبررة، بل متواضعة نسبة إلى مستوى التغيير الآتي. في "هوليوود" الذكاء الاصطناعي سيلغي كل أنواع الوظائف، من القصة إلى الكتابة وصولاً إلى وضع السيناريو والإخراج وحتى التمثيل والتسويق. ولكن القيمين على صناعة السينما يؤكدون أن الذكاء الاصطناعي سيأخذ الفن السابع إلى عالم جديد سيكون فيه التشويق أكثر مما هو اليوم وسيخلق وظائف جديدة في هندسة بيانات الأفلام وفي علوم البيانات الخاصة بتفاعلات المشاهدين. كما في "هوليوود" كذلك في الطب هناك تخوف عند الكثير من الأطباء من تراجع الحاجة إليهم لأن الناس ستثق تدريجياً بالنصائح الطبية التي يدلي بها "Chat GPT" أو "BARD" أو غيرهما وستستغني عن الطبيب العام وحتى من بعض الأخصائيين. المحامون بدورهم قلقون من التغيير الكبير الآتي إلى مهنتهم لأن ما سيقدر عليه الذكاء الاصطناعي في المستقبل يعجز عنه جهابذة القانون. مهما تفاقمت المعارضة للتكنولوجيا الجديدة الآتية إلى كل القطاعات من دون استثناء فإن قطار الذكاء الاصطناعي انطلق نحو المستقبل وبأقصى سرعة.
مجتمع اصطناعي
بالإضافة إلى المقاومة التقليدية للذكاء الاصطناعي هناك خوف حقيقي من خطر تحكم هذه التكنولوجيا بمسار الأمور في المستقبل. حتى الآن كان الإنسان هو الذي يسير كل أنواع التكنولوجيا التي اخترعها، ولكن مع الذكاء الاصطناعي نحن أمام معضلة لم تكن موجودة وهي قدرة التكنولوجيا أن تتحكم بنفسها وبأن تصنع هي أنماطاً جديدة من التكنولوجيا. الذكاء سيخلق الذكاء والتكنولوجيا ستبتكر تكنولوجيا. ستكون أيضاً قادرة على إدارة الأنسان الآلي وتحويله إلى عنصر اجتماعي كامل المواصفات بإمكانه المحادثة والمسايرة والملاطفة وإبداء الرأي في أي موضوع. وخلال سنوات سنضطر إلى قبول وجود ناس اصطناعيين بيننا متمكنين من عدد لا يحصى من اللغات وعندهم، إذا طلب منهم، الفكاهة والنكتة وكل ما تطلبه الجلسة معهم من حس اجتماعي.
ذكاء قاتل
وكما باستطاعة الذكاء الاصطناعي التوالد يمكنه أيضا خلق الهجمات السبرانية والفيروسات الالكترونية وكشف الأسرار التجارية للشركات والتعدي على حقوق الملكية الفكرية. وهناك تخوف كبير من قدرته اللامتناهية على تطوير أسلحة مستقلة بإمكانها القيام بكل أنواع الجرائم وتأجيج الحروب من دون أي تدخل إنساني. الجانب الأسود من هذه التكنولوجيا هو أكثر ما يخيف الحكومات اليوم لأنها أدركت مدى خطورة القدرات الجرمية التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي ولا تعرف كيف توفق بين الاستفادة من جوانبه الإيجابية الكبيرة وفي نفس الوقت ردعه عن الانحراف إلى الشر. ورغم كل الجهود المبذولة لوضع معايير ومواصفات لتطوير هذه التكنولوجيا وأطر واضحة لاستخدام تطبيقاتها إلا أن انفلاتها أمر لا مفر منه تماماً كما حصل مع عدة اختراعات سابقة بل أسهل بكثير مع الذكاء الاصطناعي.
إبقاء الذكاء إنسانياً
منذ أيام حصلت شركة "نورالينك" على موافقة إدارة الدواء والغذاء في الولايات المتحدة للاختبار على الانسان. الشركة مملوكة من "ايلون ماسك"، مؤسس شركة "تسلا" للسيارات الكهربائية و "سبايس أكس" للمركبات الفضائية، وهدفها تطوير شرائح تزرع في دماغ الإنسان بإمكانها التواصل مع الكمبيوتر والهاتف الذكي كما تضاعف قدرة الناس على استلام وتحليل المعلومات وإنتاج الأفكار والحلول. نظرية "ماسك" بسيطة: بدل أن يكون الذكاء الاصطناعي في آلة أو كمبيوتر من الأفضل زرعه في دماغ الإنسان وبذلك يحافظ الإنسان على عواطفه وإنسانيته وفي نفس الوقت تتضاعف قدراته الابتكارية وانتاجيته.
قد يكون الذكاء الاصطناعي مجرد موجة جديدة من النقلات التكنولوجية النوعية في الحضارة الانسانية وقد يكون التخوف من اخطاره طبيعياً تماماً كما خشينا الكمبيوتر والانترنت والهواتف الذكية والتواصل الاجتماعي، ثم اصبحنا مدمنين عليها ولا نستطيع الاستغناء عنها. الفارق هذه المرة أن الذكاء الاصطناعي سيكون قادراً على الاستغناء عنا.