بقلم خالد عوض
زوبعة في فنجان؟ الحديث عن نهاية الدولار كالعملة الأولى في العالم والاحتياطي المفضل للبنوك المركزية العالمية أصبح موضة في التحاليل المالية الجدية منها والهزلية التي تنتشر كالهشيم في منصات التواصل الاجتماعي. صحيح أن العملة الخضراء تتعرض لضغوط لم تعرف مثل حجمها منذ عقود، إلا أن هناك عدة أسباب تجعل نهاية الدولار كالعملة الأولى في العالم بعيدة، بل بعيدة جداً.
البترودولار باق... حتى أشعار آخر
دخول الصين سياسياً على المسرح الدولي من بوابة الشرق الأوسط أثار سلسلة تساؤلات حول مستقبل "البترودولار". خلال زيارته للمملكة العربية السعودية بداية العام لم يخف الرئيس الصيني"شي جين بينغ" رغبته بأن يشتري جزءاً من النفط السعودي الذي تستورده بلاده يومياً بعملة بلده "اليوان" ولو كان هذا الجزء عشرة بالمئة من الكمية الكبيرة السنوية التي يمكن أن تتخطى هذا العام ٦٠٠ مليون برميل أي ما يقارب ٥٠ مليار دولار، ولكن الرد السعودي لم يكن كما اشتهاه " جين بينغ" رغم تفهمه الكامل له. حتى الآن لا تزال السعودية متمسكة بالبترودولار لأسباب كثيرة أهمها أنه يؤمن الاستقرار المالي لها فالريال مربوط بالعملة الأميركية. كما أنها تعرف أهميته بالنسبة للولايات المتحدة وهي ليست بوارد هز علاقتها الاستراتيجية بها رغم كل ما يقال عن ذلك. انفتاح السعودية شرقاً لا يعني الاستغناء عن الدولار ولا حتى جزئياً. وطالما أن البترودولار باق يعني أن هناك تجارة بترول تزيد عن ٣ آلاف مليار دولار سنويا بالعملة الخضراء وهذا يعطيها زخماً استثنائياً على باقي العملات. حتى في مسألة "الغازودولار" أي بيع الغاز بالعملة الاميركية، تتربع الولايات المتحدة قائمة مصدري الغاز في العالم تليها قطر والدولتان لا يمكن أن تستبدلا الدولار في صادراتهما الغازية.
عملة كل السلع
الدولار هو عملة أقوى اقتصاد في العالم وهذا لن يتغير قريباً. وبما أنه مرتبط باقتصاد يناهز ١٥ بالمئة من الاقتصاد العالمي وفي بلد لا زال يعتبر أهم منصة للإبداع والتعليم والابحاث وأرض الفرص والمبادرات الفردية، من المنطقي اعتباره الملاذ الأول للاحتياطيات العالمية، بالإضافة إلى كل ذلك الدولار هو عملة دولة ذات نظام ديموقراطي حر قائم على مؤسسات متينة ومستقرة تتدفق منها وإليها وفيها الاستثمارات بسلاسة وبحماية قضائية كاملة، كما أنها تتمتع بأقوى قوة عسكرية في العالم. هذا يجعل العملة الأميركية عملة موثوقة تفضلها التداولات التجارية في العالم حتى أصبحت المرجع الرئيس لتسعير السلع المختلفة. التجارة العالمية والتعاملات المصرفية تعودت على الدولار ومن الصعب أن تستبدله بسهولة. حتى الصين التي تحاول كسب حصة أكبر لعملتها في الأسواق تبيع سنوياً للولايات المتحدة بضائع بقيمة ٥٠٠ مليار دولار وهذا يمثل ما يقارب ١٨ بالمئة من صادراتها، وتقبضها كلها بالدولار. استبدال العملة الأميركية والكلام عن ازاحة الدولار عن عرشه يبدو سابقاً لأوانه بالنسبة للمؤسسات المالية العالمية والدول التي تسعى لتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة وإلى حجز حصة متنامية لها في السوق الأميركية التي لا تزال أكبر سوق استهلاكية في العالم.
أم الدولار ليست بخير
لا بد من الاقرار أن العالم تعب من الدولار والعقوبات المالية التي تستخدم سياسياً باسمه، وأنه أصبح سلاحاً وليس فقط عملة تداول، كما أن حجم الدين العام الأميركي الذي سيتخطى ٣٢ ألف مليار دولار هذا العام وتتعدى حالياً نسبته من الناتج المحلي ١٢٥ بالمئة وذلك لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة أصبح مقلقاً. كما أن الخلافات المتواصلة بين الرئيس(جو بايدن) والكونغرس حول تجاوز سقف الدين المسموح به يهدد العالم كله إذ أنه يمكن أن يؤدي إلى تخلف الولايات المتحدة عن تسديد ديونها. فهي إذا لم تستدن لا يسعها تسديد اقساط وخدمة دينها وهذا يخيف كل حاملي سندات الخزينة الأمريكية من دول وشركات وأفراد. بالاضافة الى كل ذلك فإن الحكومة الأميركية لا زالت تنفق في الداخل من دون أي اعتبار لمستوى دينها الضخم ولا تزال تزيد من حجم قطاعها العام وتراكم العجز فوق العجز متجاوزة كل المعدلات السليمة لذلك. باختصار صحة أقوى اقتصاد في العالم ليست بخير وبالتالي هناك خوف مبرر أن حجم الدين والانفاق في الولايات المتحدة يزعزع الثقة بالدولار. وعندما نضيف الانقسام السياسي الحاد الذي يفصم المجتمع ويهدد الكيان الأميركي ككل تزداد المخاوف حول استدامة الدولار كعملة العالم الأولى.
البديل مفقود
لو فرضنا أن العالم يريد التخلص من الدولار كما "يبشر" الكثير من أعداء الولايات المتحدة بل حتى العديد من المحللين الماليين الأميركيين فأي عملة سيختار؟ العملة الصينية تابعة لبلد اوتوقراطي حيث يسير الرئيس القوانين ويغيرها كما يشاء. والقيود المفروضة على الأستثمارات خاصة في مسائل الملكية الفكرية لا تعكس صورة مطمئنة للمستثمرين. بالاضافة إلى ذلك فإن كان الدين العام الصيني محدوداً يبقى حجم ديون الشركات والافراد في الصين مهولاً بالنسبة لأي بلد آخر وقنبلة موقوتة بانتظار الانفجار. "اليورو" بدوره تابع للقارة العجوز التي تعاني ما تعانيه من مشاكل وديون. وزاد الطين بلة تورطها في الحرب الروسية الأوكرانية التي تفرز كل يوم خلافات عميقة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي تنذر بانقسامات آتية. أما العملات الرقمية فلا زالت مبهمة في الكثير من جوانبها ولا يمكن أن تصبح عملة تداول أولى قبل وضع الأطر والقوانين التي تحكمها. أما "الين" والجنيه البريطاني والدولار الكندي، فكلها عملات مرتبطة باقتصاداتها وحجم صادراتها ولا يمكن أن تزيح الدولار رغم تحسن نسبته في مستوى التداولات العالمية مؤخراً.
بالرغم من كل الانتقادات لتسلط الدولار وعطش العالم لتغييره لا زال يحول دون ذلك الكثير. صحيح أن الدولار فقد نسبة من حصته من الاحتياطات المالية العالمية العام الماضي، فقد تراجعت إلى حوالي ٥٨ بالمئة، ولكن حصة اليوان الصينية تراجعت هي أيضا الى أقل من ٣ بالمئة سنة ٢٠٢٢.
طالما أن السلع وأولها النفط والغاز تباع وتشترى بالدولار وفي غياب بديل موثوق ومجرب يبقى الدولار سيد العملات مهما كثرت الشتائم ضده.