بقلم صبحي منذر ياغي
كان للقضية الفلسطينية تردداتها الاقوى على الساحة اللبنانية، منذ ان اتخذ الفلسطينيون هذه الساحة منطلقاً لعملياتهم ضد اسرائيل، وقدم اللبنانيون نتيجة ايمانهم بهذه القضية تضحيات كبرى في الارواح والممتلكات، وكانت الممارسات الفلسطينية سبباً لمواجهات دامية بين الجيش اللبناني والمنظمات الفدائية، والتي بدأت تنشأ في ظل أجواء النكسة التي أصيبت بها الدول العربية نتيجة حرب حزيران/ يونيو 1967، حيث لاقى العمل الفدائي تأييداً جماهيرياً واسعاً على مساحة الوطن العربي، وخاصة في لبنان.
العمليات التي بدأ الفلسطينيون بالقيام بها ضد اسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان وفرت ذرائع لاسرائيل لشن غاراتها الوحشية على القرى والبلدات الآمنة في لبنان. وكانت أبرز العمليات الانتقامية لاسرائيل في 28 كانون الاول/ ديسمبر 1968 عندما حطت طائرة عسكرية اسرائيلية بفريق من <الكوماندوس> على ارض مطار بيروت الدولي، وقام رجال <الكوماندوس> بتفجير ثلاث عشرة طائرة مدنية من الاسطول الجوي اللبناني التابع لشركة <طيران الشرق الاوسط>، وشركة <ليا>، كرد انتقامي على عملية فدائية فلسطينية قام بها عناصر من <الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين>، في 26 كانون الاول/ ديسمبر استهدفت طائرة مدنية اسرائيلية تابعة لشركة الطيران الاسرائيلية <العال> في اليونان.
في الوقت نفسه، اندلعت اشتباكات مسلحة بين الجيش اللبناني وفدائيين فلسطينيين في مناطق في جنوب لبنان. ولم يتوقف الفلسطينيون عن استخدام لبنان منطلقاً لعملياتهم، كما انهم لم يتوقفوا عن تحرشاتهم بالجيش اللبناني بإيعاز من السلطات السورية التي كانت على خلافات دائمة مع الحكم اللبناني. وبدأوا، منذ العام 1968 يتسللون من سوريا الى منطقة العرقوب في الجنوب اللبناني عبر جبل الشيخ، ويصطدمون مع قوات الجيش المنتشرة هناك. ورغم اجتماعات التنسيق التي عقدت بين قيادة الجيش وممثلين من المنظمات الفلسطينية، لكن الأمور كانت تزداد سوءاً، وكان الفدائيون يضربون عرض الحائط كل الاتفاقات والمواثيق.
سلاح سوري للفلسطينيين
ويؤكد احد السياسيين اللبنانيين ان الامدادات والاسلحة والذخائر كانت تأتي من سوريا بشكل منظم الى منطقة العرقوب وعدد من القواعد الفلسطينية في جنوب لبنان، حتى ان جنوداً نظاميين سوريين شاركوا احدى المرات في مهاجمة مركز الجمارك في منطقة المصنع وقتل ستة من الموظفين.
ويؤكد ضابط أمني متقاعد في الجيش (رفض ذكر اسمه - من الذين عملوا في جهاز المكتب الثاني اللبناني في تلك الفترة) ان الفدائيين كانوا يتعمدون نقل الاشتباكات والصدامات الى داخل المدن اللبنانية بقصد كسب عطف الجماهير التي كانت مأخوذة في تلك الفترة بالقضية الفلسطينية، وبشعارات العروبة والنضال التي كان يجسدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وكانت الانظمة العربية تساهم في تأليب المجتمع اللبناني على الجيش، بتصويره كأداة لضرب المقاومة لفلسطينية، وبأنه يؤدي خدمة لاسرائيل والامبريالية الاميركية والانظمة الرجعية و...غيرها من شعارات ما زلنا لليوم نسمعها، وهي شعارات صارت بالية، وأثبتت عقمها وعدم جدواها وصدقها... واضاف: المؤسف ان بعض الزعماء اللبنانيين كانوا يقفون الى جانب الفدائيين ضد الجيش اللبناني، ومنهم من كان يقوم بتهريب السلاح والذخائر لبعض التنظيمات الفلسطينية كما حصل مع احد النواب السابقين - وهو ما زال على قيد الحياة - عندما عثر حاجز للجيش عند منطقة المديرج في ضهر البيدر في صندوق سيارة النائب على أسلحة وذخائر كان يقوم بنقلها للفدائيين. لقد تآمروا على وطنهم وعلى أمنه، تحت شعار دعم القضية الفلسطينية، وما زال الحال لليوم يتكرر ولم يتعلم بعض اللبنانيين من أخطائهم وماضيهم.
وكانت حركة <فتح> قد بدأت تنشط في لبنان منذ ولادتها في العام 1965، وصارت تسعى لإقامة بناها التحتية واستقطاب الانصار والمؤيدين من الشارع اللبناني، وانشأت حركة <مساندة فتح>. واعتبر الدكتور النائب فريد الخازن انه في أواخر الستينات كان أوان التوسع قد حان، وكذلك أوان تعديل طبيعة الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري في لبنان. من هنا كان القرار بإعداد تظاهرة كبرى في بيروت (في نيسان/ ابريل 1969)، للمطالبة بدعم الثورة ومنح حرية العمل الفدائي للفلسطينيين انطلاقاً من لبنان، ولهذا الهدف شكلت <لجنة نصرة فتح> التي كانت مهمتها التخطيط للتظاهرة. وحضر اجتماعات الإعداد للتظاهرة ممثلون عن الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة لبنان الاشتراكي وحزب البعث العراقي والحزب التقدمي الاشتراكي وعدد من اليساريين ومساندي <فتح>، بالإضافة الى ممثلي المنظمات الطالبية خصوصاً من جامعة بيروت العربية.
المناسبة السوداء
واعتبر الكاتب حازم صاغية ان تظاهرة 23 نيسان/ ابريل 1969 طالبت بحرية العمل الفدائي الفلسطيني في لبنان. التظاهرة تعرضت لإطلاق نار من أجهزة السلطة ولسقوط قتلى وجرحى، لكنها مهدت لانفجار العنف على نطاق وطني واسع، ما أدى الى استقالة الرئيس رشيد كرامي وتوقيع <اتفاق القاهرة> برعاية جمال عبد الناصر الذي حرم السلطة اللبنانية من ممارسة شرعيتها في أجزاء معتبرة من لبنان.
وتابع الضابط المتقاعد: المناسبة السوداء هذه ربما شكلت البداية الفعلية لما بات يُعرف في 1975 بالحرب اللبنانية. وهي تصلح أساساً لنقد سلوك السلطة اللبنانية التي سارعت إلى إطلاق النار، فضلاً عن سلوكها الأعمق في الانحياز إلى فئة أهلية من اللبنانيين دون سائر الفئات. مع ذلك تبقى حصة النقد الأكبر من نصيب أهل التظاهرة، أي الأحزاب الوطنية والتقدمية. فهؤلاء لم يردعهم أن حق المقاومة الفلسطينية بالعمل من لبنان، تيمناً بحق <الفيتكونغ> في العمل من فيتنام الشمالية، ينتقص من حق الدولة اللبنانية في ممارسة سيادتها. ولا ردعهم الطابع التعاقدي للاجتماع اللبناني، بما يملي اتخاذ القرارات المصيرية والكبرى بالتوافق لا بالقوة والغلبة أو زعم امتلاك الصواب الإيديولوجي.
وبالفعل ما إن حصل ما حصل في 23 نيسان/ ابريل بموازاة توسع رقعة المقاومة الفلسطينية المسلحة، حتى بادرت الفئات المسيحية إلى التسلح، وما لبثت التشكيلات اللبنانية المتناحرة أن اصطدمت بالحديد والنار في 1973 أولاً، ثم في 1975، وصولاً بقدر من التقطع إلى 1990. وكان يبدو للعقلاء يومئذٍ أنه حتى لو نجحنا في تحرير فلسطين من خلال <هانوي> اللبنانية، على ما كان يقال، فإن الثمن سيكون دمار لبنان، أي أننا، في أحسن الأحوال، سنربح بلداً عربياً ونخسر بلداً آخر!
من البندقية الفلسطينية ... الى بندقية حزب الله
وبرأي صاغية انه كان في الإمكان توظيف الطاقة والجهد اللذين أُنفقا على حق المقاومة الفلسطينية في القتال انطلاقاً من لبنان في الاهتمام بأحوال المدنيين الفلسطينيين وحقوقهم في مخيماتهم، ورفع كابوس الإرهاب والامتهان الرسميين عنهم. وكان يمكن لمهمة كهذه أن تندرج في سياق من النضال المدني الأعرض لتحديث لبنان وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، بحيث ترتقي إلى المصاف الذي بلغه التطور المالي والاقتصادي للبلد في أواسط السبعينات. لكن هذا لم يكن مطلوباً يومئذٍ، ونعرف، مثلاً لا حصراً، أن منظمة <الصاعقة> التي أسسها النظام السوري كانت تلعب من موقع تمددها في العرقوب دور الفصيل المتقدم في الصدام مع الجيش اللبناني.
لقد افتتح 23 نيسان/ أبريل 1969 أربعاً وأربعين سنة مُرة، وفي هذه الأثناء انتقلت <بندقية المقاومة> من <الصاعقة> وأخواتها إلى حزب الله واخوانه. ولا نزال في المربع الأول، ولا تزال إسرائيل تقوى وتتعزز!
كلود بويز: دوافع إنسانية
والفضل لريمون إده
ومن المحطات اللافتة في تلك التظاهرة، مشاركة عدد من السيدات اللبنانيات في هذه المسيرة ومنهن أمل جورج نقاش، والسيدة كلود بويز كنعان شقيقة الوزير السابق فارس بويز التي تحدثت لـ<الافكار> عن تلك الحقبة معتبرة ان مشاركتها في تظاهرة نيسان/ أبريل 1969 كانت بدوافع انسانية ووطنية . ففي تلك الفترة، كان لبنان بأسره يعيش حالة من الانصهار الوطني، وكلنا نتذكر كيف حمل طلاب اليسوعية الزعيم كمال جنبلاط على الاكتاف خلال زيارته للجامعة. فالتظاهرة كانت دعماً للقضايا العربية وأبرزها القضية الفلسطينية، ومشاركتي ربما لإثبات مارونيتي العربية المنفتحة على عالمها العربي ودفاعها عن قضاياه.
وعن مشاركتها كامرأة في التظاهرة ترى بويز: ان ذلك يعود للتربية التي تلقيتها في حزب الكتلة الوطنية، فالعميد ريمون إده هو من وضع قانون انتخاب النساء عام 1957، وكان المدافع الاول عن حقوق المرأة وعن حق المرأة في الارث.... وتستدرك بويز وتقول: <أنا سبق وتظاهرت ايضاً ضد غسان تويني وتعريب المناهج ودعماً لحقوق المرأة وحرية التعبير ... ومشاركتي في مسيرة دعم القضية كانت عام 1969 قبل دخول لبنان في إطار الحرب الاهلية وقبل التفلت الفلسطيني المسلح...اما اليوم، فإذا قررت التظاهر، أتظاهر فقط دعماً لوزير الصحة وائل أبو فاعور وتأييداً لنشاطه ودوره.
وبرأي معن بشور ان يوم 23 نيسان/ أبريل 1969 لم يكن يوماً عادياً في حياة لبنان الحديث كما لم يكن يوماً عادياً كذلك في حياة القضية الفلسطينية في العقود الاخيرة. يومئذٍ وصلت الى الوطنيين اللبنانيين أنباء عن محاصرة الجيش اللبناني لمجموعات من الفدائيين الفلسطينيين في القطاع الأوسط (قضاء بنت جبيل)، وحينئذٍ كان الجرح اللبناني عميقاً بعد العدوان الصهيوني على مطار بيروت الدولي في 28 كانون الاول/ ديسمبر 1968 حيث نزلت قوات من <الكوماندوس> الاسرائيلي الى أرض المطار وأحرقت الاسطول الجوي التجاري اللبناني (طائرات <الميدل ايست>) ولم تواجهها اي مقاومة.. ويومئذٍ ايضاً كان الجرح العربي بليغاً بعد نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967.
وأضاف بشور: يومئذٍ أي في 23 نيسان/ أبريل 1969، اجتمع الوطنيون اللبنانيون من كل لبنان في ساحة البربير (وقد بات اسمها بعد تلك التظاهرة ساحة 23 نيسان) واستعدوا للانطلاق بتظاهرة في الشارع العريق بالتظاهرات (خط البسطة إلى السراي الحكومي)، دعماً للعمل الفدائي الفلسطيني. فجأة انهمر رصاص السلطة على المتظاهرين وسقط منهم الشهيدان أحمد ولي الدين وصفوان دندشي من طرابلس والعديد من الجرحى بينهم النقابي البارز محمد قاسم، واستقالت حكومة الرئيس الشهيد رشيد كرامي. وقد أدت استقالة الرئيس رشيد كرامي الى أزمة حكم وفراغ حكومي استمر منذ نيسان/ ابريل 1969 حتى تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، ولم تنتهِ إلا بعد اتفاق القاهرة الموقّع من قائد الجيش اللبناني آنذاك العماد الراحل إميل بستاني ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية الرئيس الراحل ياسر عرفات وبرعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
واعتبر بشور ان تلك المسيرة الدامية كانت منطلقاً لانبعاث حركة شعبية ووطنية لبنانية عابرة للمناطق والطوائف اخذت تلعب دوراً متعاظماً في حياة لبنان والمنطقة، كما شكلت تلك التطورات سبباً في هزيمة ما عرف آنذاك بحكم <المكتب الثاني> مفسحة في المجال لانتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية.
صدامات عسكرية
أدت التظاهرة الكبرى في 23 نيسان/ أبريل 1969 الى اضطرابات في بيروت وحصول مواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن الداخلي. كذلك ادت الى سقوط عدد من القتلى والجرحى، وحصلت اضطرابات مماثلة في صيدا وفي طرابلس وعدد من مناطق البقاع. فما كان من رئيس الحكومة رشيد كرامي الا ان قدم استقالته احتجاجاً، وغرقت البلاد في أزمة وزارية دامت سبعة اشهر، ووقعت صدامات في مخيم برج البراجنة، وحصلت صدامات عسكرية مع منظمة <الصاعقة> المدعومة من النظام السوري في 5 و6 ايار/ مايو، وفي 28 آب/ أغسطس 1969 اندلع قتال عنيف بين الجيش وسكان مخيم نهر البارد (قرب طرابلس).... واستمرت المناوشات في لبنان، واستمر الفلسطينيون يتخذون من الاراضي اللبنانية مسرحاً لأنشطتهم العسكرية. واستفاد الفلسطينيون من دعم جماهيري كبير في لبنان أمنته الاحزاب اليسارية والقومية والشيوعية، وسيطرت الفصائل الفلسطينية المسلحة بالكامل على عدد من المخيمات الفلسطينية التي صارت ملجأ للهاربين من وجه العدالة ومنطلقاً لأعمال شغب واعتداءات على الجيش وقوى الأمن. وفي سياق المعارك الضارية، تمكن الفلسطينيون والفصائل اللبنانية المتحالفة معهم من تثبيت مواقعهم في بعض قطاعات المنطقة الواقعة بين راشيا وعكار وأقاموا فيها مراكز ومعسكرات للتدريب، وعمدوا الى توزيع السلاح الفردي على مناصريهم من اللبنانيين. في تلك الفترة التي تلت التظاهرة تزايد عدد الفدائيين المتسللين الى لبنان، اذ يؤكد تقرير سري أعده الأمن العام اللبناني في 21/6/1969 ان عدد الفدائيين الناشطين في لبنان في تلك الفترة وصل الى اربعة آلاف ناشط ومعظمهم ينتمون الى حركة <فتح> ومنظمة <الصاعقة> المدعومة من النظام السوري.
اتفاق القاهرة
وبناء على نصيحة من الرئيس فؤاد شهاب، قام الرئيس شارل حلو بتوسيط الرئيس جمال عبد الناصر لحل الازمة اللبنانية - الفلسطينية. وفي 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1969، اجتمع في القاهرة الوفد اللبناني برئاسة قائد الجيش اميل البستاني، ووفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، وعن الجانب المصري وزير الخارجية محمود رياض، ووزير الحربية محمد فوزي، وتم توقيع <اتفاق القاهرة>.
فتش عن المخابرات
لذا اعتبر البعض من المتابعين لتلك الفترة ان مسيرة 1969 جرى الإعداد لها بعناية في اروقة المخابرات المصرية والفلسطينية لتكون بوابة لتوقيع اتفاق لبناني - فلسطيني يمنح الحرية للعمل الفدائي من لبنان، ويفتح بوابة هذا العمل من الاراضي اللبنانية باتجاه اسرائيل، وتحقق ذلك فعلاً من خلال (اتفاق القاهرة) الذي كان مذلاً بحق النواب اللبنانيين الذين أجبروا على التوقيع عليه دون السماح لهم بالإطلاع على مضمونه. وحده ريمون اده الذي أبى وتمنّع عن توقيع اتفاق غامض، عندما عاتبه كمال جنبلاط قائلاً: <شو صاير عليك حتى ما وقّعت؟>، رد العميد إده: <وانت شو صاير عليك حتى وقعت؟>!