هي السيدة الفاضلة التي كانت تأتي يومياً الى دار العجزة الاسلامية في بيروت قادمة من القرعون في البقاع الغربي لزيارة زوجها المصاب بمرض <الزهايمر> (النسيان) والذي لم يبقَ في ذاكرته إلا اسم نورا دون أن يحدد من هي ولم يكن يتعرف عليها عند وصولها... كانت تقضي النهار جالسة قرب سريره وهو شاخص الأنظار الى السقف بينما هي تروي له حكايات العمر وتبلغه سلام أولادهما الأربعة الشابين والصبيتين منهم المهندس والطبيب والصيدلانية وثلاثة منهم مغتربون في أميركا ثم تحكي له ذكريات الماضي وهو غائب عن كل ما يجري حوله...
كانت تطعمه الوجبات الثلاث وتصطحبه الى الحمام وتسير معه في الممر وتعود به الى السرير تغطيه وتردد أدعيتها له بالشفاء. كما كانت تقدم الطعام لبعض المرضى في الغرفة المجاورة لغرفة زوجها، ثم تعود أدراجها الى <القرعون> بلدتها التي تقطعها السيارة بساعة ونصف الساعة (حوالى 100 كلم2).
كانت الزيارة يومية بدون انقطاع على مدى سنة ونصف السنة ويوم واحد وكانت تقوم بها مهما كانت الظروف الأمنية أو المناخية شتاء، صيفاً، خريفاً وربيعاً كما ذكرت. في طريق العودة، تنهمر دموعها بعفوية وتبكي بصمت طوال الطريق متذكرة يومها الطويل ومتحسرة على زوجها الذي أمضت معه سنوات العمر مكرمة مرفهة... تتذكر كيف كان موظفاً نشيطاً في المركز التربوي للبحوث والانماء وهو ضليع في اللغة العربية وكان مرجعية في قواعدها. شاعر ومحب للحياة والغناء والطرب الى أن بدأت أعراض مرضه بالنسيان تظهر أول العام 2006... فكان ينسى أين وضع أوراقه الخاصة ومنها سندات الملكية أو المفاتيح أو بعض المواضيع أو الأسماء. هرعت نورا بزوجها الى الاختصاصيين في هذا المرض وأعطي علاجاً لا يشفي وانما يؤخر تطور المرض. كانت تناوله يومياً حبّة الـ<Aricept> ودواء السكري الذي أصيب به أيضاً الى أن وصل به الحال الى نسيان كل شيء وهذا ما دفع الزوجة التي تعيش وحيدة معه الى ادخاله الى المستشفى بناء لنصيحة الطبيب... وحجزت له غرفة خاصة ولازمته طوال إقامته...
كانت تذكر بدهشة كيف انه رغم النسيان الكامل لكل الأحداث والأشخاص كان ينشد أغنية أم كلثوم <على بلد المحبوب ودّيني> من أولها الى آخرها من دون أخطاء أو تردد على أنغام العود والتي كان يعزفها له أحد ممرضي المستشفى يومياً وتجلس نورا مع بعض المرضى في القسم يستمعون له مغنياً عفوياً زائغ النظرات.
قلت لها: <فعلاً هذا شيء غريب إذ ينسى المريض كل شيء في حياته من زوجته وأولاده وأين هو ومن هو ولكنه يتذكر كلمات وألحان أغنية أو أكثر>.
ورويت لها حالة مشابهة لسيدة أصيبت بهذا المرض وذهبت مع ابنتها لزيارتها وكانت جالسة على الكرسي دون حراك أو التفاتة منها الى أحد.. سألتها ابنتها: <هل تأتي ابنتك هيام لزيارتك؟> فأجابت: <من هيام؟؟> وهيام هي التي كانت جالسة قربها وهي ابنتها. ثم سألتها: <هل تتذكرين محمود ابن الجيران>.. نظرت إليّ بعيون شاردة ولم تنطق بكلمة، ثم قالت لها الابنة: سمّعينا أغنية <يا وابور قللي رايح على فين> لعبد الوهاب، فانطلقت الأم تغني الأغنية بالكامل نصاً ولحناً دون أي أخطاء، وبأداء مميز.
أعود الى السيدة الوفية نورا التي لم تكن تكتفي بزيارة زوجها الذي لم يعد يذكر شيئاً من حياته، بل كانت تكتب له مشاعرها وحزنها يومياً على وريقات قبل أن تنام وتأتيه في صباح اليوم التالي من بعيد من البقاع الغربي لتقرأ له كلمات الحب والذكريات مصحوبة بالأدعية له بالشفاء.
مقارنة مع المرضى الباقين وعددهم في دار العجزة يناهز الـ600، فإن نسبة الأهل الذين يزورون مرضاهم لا تزيد عن 8 بالمئة. أما مرضى <الالزهايمر> فالنسبة تهبط الى 3 بالمئة. بعض الاهلين يتذرعون بأن مريضهم لا يتعرف عليهم ولا يعرف الماضي ولا الحاضر... ولكنه لا يخرج عن كونه الوالد أو الوالدة أو الأخ أو العم وهم بالتأكيد يعرفونه ومن حقه عليهم الاهتمام به أو تفقده على أقل تقدير. ورسالتي للجميع هي شعار جمعية <الزهايمر>: <لن ننساهم حتى لو نسونا>.
وفي اليوم الأول بعد السنة ونصف السنة من الاقامة في المستشفى وعند وصول نورا في السابعة صباحاً كالعادة أسلم الزوج الروح وانتهت في ذلك الصباح فترة معاناة مؤلمة عاشتها طوال السنة ونصف السنة، لتبدأ بعدها معاناة الوحدة والترمل التي تواجهها بصبر وإيمان مع الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: <إنا لله وإنا إليه راجعون>.