يمتاز الشعب اللبناني عن بقية الشعوب العربية بمظاهر عدة وعلى رأسها حبه غير المحدود لاقتناء الاسلحة بمختلف انواعها وهذه الظاهرة ليست غريبة عن المجتمع اللبناني بل تعود الى ما قبل الاستقلال يوم كانت بندقية الصيد تُعتبر سلاحاً حربياً يتوجب مصادرته. واليوم تتكرر ظاهرة انتشار السلاح بين ايدي الناس وبأشكال متنوعة وتحديداً السلاح التركي الذي بات يشكل اعلى نسبة استعمال نظراً لسعره المتدني حيث يتراوح سعر القطعة ما بين مئتي دولار وألف دولار.
لبنان من بلد مصدر الى مستورد
بعدما كانت الاسواق اللبنانية السوداء تعتبر المصدر الاساسي الذي يمد الحركات <التغييرية> المسلحة في المنطقة وخصوصاً أكراد العراق وتركيا وبعض الخطوط التجارية في الاردن، بمختلف انواع الاسلحة الحربية، ولا سيما خلال حقبتي السبعينات والثمانينات، وبقيت على هذه الحال حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، اصبحت هذه الاسواق اليوم تستورد عبر قنوات التهريب حاجتها من الاسلحة من الاردن والعراق وتركيا بصورة اساسية، بفعل التغير الدراماتيكي في صورة المنطقة، ونتيجة لتحول الحدود التركية مع سوريا وجزء من العراق الى ساحة اقتتال ولتصبح هذه الحدود مصدراً اساسياً يزود الاسواق السوداء بمختلف انواع الاسلحة الحربية وذخائرها. وتدخل هذه المعادلة في صلب استراتيجيات القوى الكبرى التي تفرض الحروب وترسم ساحاتها وخطوطها بالإضافة الى حدودها.
بين حركة السلاح والسجال السياسي
حركة الاتجار بالاسلحة عرضاًً وطلباً وحتى <بورصة> اسعارها تواكب الوضع السياسي في البلاد مواكبة لصيقة فهي ترتفع وتنخفض تبعاً لحدة السجال السياسي وانخفاضه وهو ما يعكس خوف الناس من المخبّأ لهم. والطلب على الاسلحة والذخائر عند توتر الاوضاع السياسية في البلد يتحول طلباً عشوائياً، إذ تترجم قلة البضاعة المتوافرة في الاسواق ارتفاعاً جنونياً في أسعار القطع الموجودة. ومع ذلك يتوجه الكثير الى شراء السلاح فتصبح اسعار الموجود منه مشابهة لسوق مزاد علني يزايد المشترون فيه على بعضهم البعض في قيمة المدفوع بالقطع على ندرتها.
ورغم العلاقة المبهمة بين تجار السلاح في لبنان وبين السياسيين وتصريحاتهم النارية ثمة حكاية أخرى لمصادر السلاح وضخه بطرق ملتبسة في السوق السوداء، وهي حكاية مرتبطة بتبدل المناخات الدولية والاقليمية وتغيير موازين القوى في المنطقة ما يجعل مصادر الاسلحة الواردة الى السوق السوداء اللبنانية اليوم موزعة بين مجموعة من الدول المحيطة وفي طليعتها تركيا التي يستورد منه تجار السوق السوداء الاسلحة الحربية الحديثة وتحديداً الرشاشات والمسدسات وذخائر المسدسات من عيار 9 ملم و10,5 ملم إضافة الى اسلحة الصيد وذلك عن طريق سوريا فلبنان.
كيفية تهريب الاسلحة عبر الحدود التركية
جماعة من <البدو> يسكنون على مقربة من الحدود الفاصلة بين تركيا وسوريا منذ مئات السنين ويتوزعون بين الاراضي السورية والتركية لكنهم يعودون الى اصول وجذور واحدة بالرغم من اختلاف المصالح فيما بينهم والتي تحتم في بعض الاحيان ان يتخذوا مواقف مغايرة للأخرى وذلك وفقاً لمصالحهم التي تتوافق في معظم الاحيان مع مصالح الدولة التي يعيشون على اراضيها. يقول بعض هؤلاء انه ذات ليلة انطفأت الكهرباء في المنطقة بأكملها على الحدود التركية السورية وتحديداً في اقليم هاتاي (أنطاكيا سابقاً) وبعد نحو نصف ساعة دخلت باصات وعربات رباعية الدفع تسير على شكل قافلة وكانت وجهة سيرها إلى الاراضي السورية وشوهد مسلحون ملتحون يحملون شعارات سوداء. وحوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل عادت الكهرباء بعد أن عبرت إلى سورية القافلة التي قدر عددها بحوالى مئتي مقاتل وبحوزتهم كميات هائلة من الاسلحة المتنوعة.
اللبنانيون يتوارثون تجارة السلاح
تجارة السلاح ما تزال مزدهرة في السوق اللبنانية السوداء، رغم شح المصادر الاساسية التي كانت تستوردها من الخارج ابان الحرب الاهلية اللبنانية من العام 1975 ولغاية العام 1990 الى حين توقيع اتفاق الطائف. آنذاك بقيت سوق تجارة الاسلحة ناشطة ومزدهرة، واستمرت على هذا المنوال حتى أواخر العام 1995 اذ ظلت مستودعات التجار زاخرة بمختلف أنواع الاسلحة الحربية على أنواعها الخفيف منها والمتوسط والثقيل وأغلبية هذه الاسلحة كانت تعود للمنظمات والاحزاب اللبنانية التي آثرت ترك ساحات السلاح او بالأحرى بيعه للتجار بمجرد توقيع اتفاق الطائف وفي ذلك الوقت كانت صفقات بيع مخازن وكميات الاسلحة تعقد على الارصفة وفي المقاهي وداخل بيوت التجار الذين افادوا من واقع كثرة العرض المترافق مع وفرة في الطلب على الاسلحة المميزة بمختلف انواعها، حيث شرّعن اتفاق الطائف سلاح المقاومة ضد المحتل، وبالتالي راح كوادر <حزب الله> يرصدون كل عرض جدي للكميات المتوافرة عند التجار ويشترون منه ما ينتقونه من جديد السلاح، وهنا يُسجل للنائب وليد جنبلاط الذي صرّح ذات يوم انه اهدى المقاومة مجموعة كبيرة من الصواريخ والاعتدة العسكرية التي كان يمتلكها حزبه في زمن الحرب.
سلاح تركي للبيع.. من يشتري؟
ورغم انتهاء حالت المليشيات فإن تجارة السلاح في لبنان لم تنتهِ بل استمرت حتى يومنا هذا لدرجة انها تزايدت في الفترة الاخيرة مع اشتعال الحرب في سوريا وقبلها في ليبيا وتونس والعراق لتصل اليوم الى مستويات غير مسبوقة، وفي ظل الفلتان الضارب أطنابه على الحدود اللبنانية والمستشري في الداخل، وما يرافقه من قلق أمني يعيشه لبنان مع اشتداد الأزمات في البلدان المُحيطة به، إزدادت ظاهرة انتشار السلاح التركي بمختلف انواعه في السوق اللبناني. فعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد مسدس خرطوشه عبارة عن خردق مخصص لصيد العصافير من نوع <ريتاري> يُستورد إلى لبنان بطريقة غير شرعية شبيه بالمسدس الحقيقي عيَّار 9 ملم أو 7 ملم، يُخرط في لبنان وممكن أن يحوّل إلى 9 أو 7 ملم فيصبح مسدساً فعلياً قاتلاً وعملية الخرط تجري ضمن محلات مخصصة لتصليح الاسلحة داخل الضاحية الجنوبية، وعادةً تُستعمل للتخويف في أعمال السرقة والنشل، لكن بإمكان مستخدمها إطلاق النَّار منها، ورصاصتها تؤذي مثلها مثل رصاصة اي مسدس حربي.
ويبقى السلاح التركي الارخص
أحد مصنّعي هذه الأسلحة ومحوّليها تحدّث للـ<الافكار> حول مجموعة من الاسلحة التي يتم تسويقها في لبنان بعد تهريبها من تركيا فأوضح ان سلاح <خُلَّبي> يُستورد من تركيا ويُحوَّل إلى مسدس حقيقي يطلق رصاص 9 ملم، ولكن نظراً لمعدنه غير المُعدّ لإطلاق رصاص حقيقي فإنه يُتلف بعد استخدامه. بالتالي يمكن استعماله لإطلاق عدد قليل من الطلقات. كما توجد بنادق الخردق تُستورد من تركيا وتحوّل في لبنان أو تصنع في لبنان، والطلب يزداد على تصنيعها هنا بعد غلاء المستورَد منها.ويضيف: في حال صُنعت البندقية بالكامل في لبنان فإن سعرها سيكون حوالى 300 دولار أمَّا كلفة تحويلها فتبلغ 50 دولاراً أميركياً فقط. ويتراوح سعر المُسدس المُستورد بين 80 و100 دولار أميركي وتكلفة خرطه تتراوح بين 30 أو 40 دولاراً أميركياً. أما سعر المسدس المخروط فهو بحسب المنطقة بدءاً من 150 دولاراً أميركياً وقد يصل في بعض المناطق إلى 500 دولار أميركي.
ويختم بالقول: ان بعض الشخصيات اللبنانية تستورد اسلحة معينة من تركيا لان هناك انواعاً من الأسلحة في هذا البلد يتم تقليدها بشكل كامل عن منشئها الأصلي، فمثلاً هناك انواع مسدسات ورشاشات من عيار 9 ملم مثل <الغلوك> والـ<ويلتر> الالماني الذي من خصائصه انه يطلق طلقاً ورشقاً اوتوماتيكياً، وهو متوافر باللونين الابيض والاسود. ورشاش الـ<يو 909> وهو تحت ترخيص اميركي من عيار 7 ملم، وجميع هذه القطع يتم تصنيعها في تركيا وتُصدر الى لبنان حيث تباع بأسعار زهيدة تبدأ بمئتي دولار وصولاً الى خمسمئة دولار وإذا ما تمت مقارنة سعرها بسعر الاسلحة الالمانية او الفرنسية والاميركية فسيكتشف الشاري ان ما دفعه ثمن قطعتين او ثلاث لا يوازي ثمن مسدس اميركي واحد.
مطلوب تكملة للعميد جابر
ويقول العميد المتقاعد هشام جابر رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات: قانونياً هذا السلاح الذي يُباع في لبنان غير مسموح به لأنّ إدخال السلاح الى لبنان يتمّ بطرق غير شرعية.. وأن إعطاء المواطن رخصة السلاح يعني أنّ طالب الرخصة لديه السلاح ويريد ترخيصه. ويضيف <إعطاء رخص السلاح <مختلف> لا يمكن ضبط من يقتنيها. رخص السلاح في الدول المتقدمة يحددون نوع الأسلحة ومن يقتنيها،لأنّه في حال حصول جريمة معينة بالإمكان معرفة صاحب السلاح فوراً>.
.. وجاء الخبر اليقين من داخل تركيا
ومنذ الاسبوع تقريباً نشر موقع <اليقين> التركي تحقيق حول كيفية إرسال الأسلحة عبر الحدود التركية إلى ميليشيات ما يسمى <الجيش الحر> والمجموعات الإرهابية المسلحة الأخرى في مدينة حلب فقال <إنه ليس من الصعب التوقع أن هذه الذخائر والقنابل والصواريخ يتم تهريبها عبر الحدود التركية إلى سورية حيث بات يعلم الجميع أن السلاح يهرب إلى سورية ولبنان عبر تركيا والاردن>، مؤكداً ان جماعات مسلحة في سوريا تقوم بإرسال آلاف البنادق والمسدسات الآتية من تركيا الى داخل لبنان وتحديداً الى جماعات اخرى متطرفة لتشكيل مجموعات مسلحة سيكون لها دور بارز في المستقبل القريب وان ما يجري في الداخل اللبناني من حراك ضد الدولة اللبنانية مصدره هذه الجماعات التي تتغذى من فتات المخابرات التركية ان من الناحية اللوجستية او الامنية والعسكرية>.
وللصيد حصة من السلاح التركي
بالإضافة الى اغراق السوق اللبنانية بالسلاح الحربي التركي هناك ايضاً سلاح تركي يغزو الارياف اللبنانية حيث تكثر مناطق صيد الطيور، وعن نوعية السلاح المستعمل في الصيد في لبنان تشير بعض الإحصائيات إلى مصادر عديدة لهذا السلاح تأتي في مقدمتها تركيا وتشير إلى زيادة مبيعات السلاح التركي عامًا بعد عام. وفي هذا السياق، يؤكد جهاد طليس المعروف بـ<أبو رائف> وهو أحد تجار بيع سلاح الصيد وغيره في البقاع اللبناني، أن <أغلب الصيادين في لبنان يفضلون السلاح التركي لممارسة هواياتهم في صيد الطيور لأن اسعاره جيدة ومقبولة بالمقارنة مع غيره كما أن نسبة الاقبال عليه تبلغ حوالى 75 بالمئة وجميع زملائنا يستخدمون سلاح الصيد التركي ويفضلونه عن غيره لسعره المقبول ونوعيته الجيدة ولقلة أعطاله. امّا عن السلاح الحقيقي فحدث ولا حرج.
ويقول طليس: نحن نعلم جيداً أن عدد المقاتلين من التابعية التركية في صفوف تنظيم <داعش> بلغ ثلاثة آلاف مقاتل، وأن معظمهم تلقى تدريبات في معسكرات تنظيم <القاعدة> في أفغانستان وباكستان وهؤلاء الت
حقوا بداعش على جبهات القلمون وعدد من قرى الشمال اللبناني وقد جاءوا بكامل اسلحتهم وهناك شاحنات ممتلئـــــة بالســـــلاح عند الحـــــدود التركية الســــورية تنتظــــــر ســـاعة الصفر للعبـــــور الى الاراضــــي الســورية ومــــــن ثم الى لبنان>.
احتلال تركي جديد
بسرعة قياسية احتلت الصناعة التركية معظم الاسواق الاوروبية والعربية وللبنان الحصة الاكبر من هذا الاحتلال لدرجة ان السوق اللبناني بكل متفرعاته بات يتأثر الى حد كبير بالصناعات التركية المتعددة من ملبس وسكاكر ومواد اولية وصولاً الى السلاح المتعدد الاوجه والاستعمالات. وهنا يتذكر ابو بلال العيتاني الرجل الذي تخطى عتبة المئة عام يوم حكم الاتراك البلد فكانت الكلمة الحاسمة يومئذ لرصاص بنادقهم وحبال مشانقهم ليلتفت يمنة وشمالاً وكأنه يخشى وصول حديثه للجيش العثماني ويقول: <كنا مؤمنين بقضيتهم وبإسلامهم لكننا اكتشفنا لاحقاً أنهم ليسوا سوى محتلين، مرة يحكموننا بشكل مباشر ومرة يرسلون لنا <داعش وماعش وآكلي لحوم البشر>.