بقلم الدكتور زياد محيو
يوم خميس من شهر أيار (مايو) 1997، الساعة السابعة مساءً، كنت منهكاً من التعب. طلبت مني زوجتي مرافقتها لشراء حذاء لإبني لمناسبة تخرجه من المدرسة. وبينما كانت زوجتي تختار الحذاء المناسب، جلست على مقعد داخل محل الأحذية. المكان في وسط مدينة <مونتريال>، في ساحة الفنون داخل ميدان <ديجاردان>، في شارع الـ<سانت كاترين>.
على المقعد المواجه لمقعدي، جلست امرأة شابة أنيقة المظهر، تلبس الساري الهندي وفي وسط جبينها لطشة حمراء. لفت انتباهي حاجباها المنجزّان ببراعة، ووجهها الجميل وبسمتها الرائعة، وكأنّها حورية من الجنة، سبحان الخالق امرأة كاملة الأوصاف والأناقة. فجأةً أبدت السيدة إنزعاجاً، وكانت تنقل قدميها بين الفينة والفينة يميناً ويساراً. ادركت الدافع لإنزعاجها عندما رأيت صرصوراً يمر قربها. قمت من مكاني لإنقاذ السيدة الحسناء من هذه الحشرة التي عكّرت مزاجها. قضيت على الصرصور بدعسه من حذائي وعدت الى مقعدي. ويا ليتني لم أقم بهذا العمل البطولي!
أتى زوج السيدة الجميلة وهو أنيق المظهر، طويل القامة، مربع الكتفين، <باينة عليه النعمة والقوة>. كنت متعباً سرحت في تفكيري ناظراً إلى الأرض. شعرت بنكزته الخفيفة على كتفي، ظننت أنه يريد شكري لقتل الصرصور. قلت دون أن أنظر إلى وجهه: <لا شكر على واجب>. أعاد النكزة بشدة، فكررت الجواب نفسه. وللمرة الثالثة، عندما شعر أنني غير متجاوب، دفعني وكأنه يريد ضربي قائلاً: <أنت، أنت>. عندها نظرت إليه مستفسراً عما يريد وكان وجهه يدلّ على الغضب. عندئذٍ قال لي: <أنت قاتل، قتلت هذا الصرصور المسكين. أنت كبير الحجم والصرصور صغير>. أجبته: <وما المشكلة؟ لقد كان يزعج زوجتك>، أجابني بالنفي طالباً مني أن أكون رؤوفاً مع هذه الحشرات غير المؤذية، وأخذها باليد لوضعها في مكان أمين!
رويت هذه الحادثة لأهلي وأصحابي. اختلفت التفسيرات، وبعدها فهمت ان الديانات الهندوسية والبوذية بعضها يحرِّم قتل المخلوقات حتّى الحشرات.
تعلمت من هذه الحادثة أنّ قتل الصراصير ممنوع ويجب احترامها خارج المنزل. ولكن إذا تعدّت هذه الحشرات على الحرمات، من مأكل وملامسة الجسد فماذا نفعل بها؟ لم أجد جواباً مقنعاً لذلك. هذه الحادثة دفعتني للاستفسار عن هذه المعتقدات الأقدم في تاريخ الأديان. فالتقمص هو اعتقاد معروف بالهندوسية للمحاسبة على الأفعال على قاعدة الثواب والعقاب. فإذا مات الإنسان، خرجت منه الروح لتحلّ في جسد كائن آخر لمكافأته أو معاقبته على أعماله، كنقل روح الإنسان الجيد بعد موته إلى كائن أفضل لمكافأته على أعماله الحسنة، وعند الافعال المشينة تنتقل الروح إلى انسان من طبقة متدنية أو حيوان أو حشرة. هذه الديانة تحرِّم أكل اللحوم و قتل المخلوقات كالحشرات. ويؤيد الهندوسي ممارسة سياسة عدم العنف، واحترام كل أشكال الحياة لأنه يعتقد أن آلهته تتغلغل في جميع المخلوقات.
حسب مواصفات هذه السيدة وزوجها، استنتجت أنهما من الهندوس المنتمين الى الطبقة الحمراء، فالمجتمع الهندوسي يتضمّن التقسيم الطبقي (خمس فئات): الطبقة البيضاء وينتمي إليها العلماء من رجال الدين، الطبقة الحمراء تشمل الأمراء والفرسان، الطبقة الصفراء تشمل المزارعين والتجار، الطبقة السوداء تشمل أهل الحرف اليدوية والصناعية، والطبقة الخامسة <الأنجاس> وتشمل أهل الحرف المتدنّية.
عند هجرتي الأخيرة الى كندا عام 1989، كان عمر ابنتي الصغيرة ست سنوات. عندما أصبح عمرها 10 سنوات، وخلال نقاش عن أفضل الأديان أجابتني: <ما في دين مش منيح، كل الأديان منيحة، يوجد ناس أشرار وناس طيبون>. سألتها: <من أين لكِ هذه الأفكار؟> الجواب كان من درس الأخلاق في المدرسة، لقد درست الأديان المعترف بها في الكون ومنها الاسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية.
عندما توصلت إلى بعض الأجوبة بالنسبة لسلوك هذه الشابة الهندية، وتصرّفات زوجها غير الديمقراطية، أرهقت تفكيري بكثير من الأسئلة، وتشوقت للبحث عن معلومات عن هذه المعتقدات. استوقفتني أبحاث أستاذ الطب النفسي <إيان ستيفنسون> (1960) في الجامعة الاميركية في ولاية <فرجينيا>. ضمّت أبحاثه أكثر من 2,500 تقرير من جميع أنحاء العالم تدعم <نظرية رجوع الروح إلى جسد آخر>. في تقاريره ذكر <ستيفنسون> أن هناك بعض الناس يتذكرون أماكن عاشوا فيها أو اشياء كانوا يحتفظون بها ويذكرون كيف وأين ماتوا. جميع الحالات أخذت عن اناس عاديين وعاقلين ومن عدة مذاهب وديانات لا تؤمن بهذه النظرية.
تبقى الحقيقة العلمية غير واضحة ومن المهم فهم الغير بالتعرف على معتقداته واحترامها.