بقلم سعيد غريب
بعد يومين على حادثة عين الرمانة، أي يوم 15 نيسان/ أبريل 1975، كتب الصحافي ميشال أبو جودة مقاله اليومي <من حقيبة النهار> تحت عنوان <حرب لبنان>، جاء بمنزلة نبوءة، وأورد منه المقطع الآتي: <فشل <كيسنجر> واغتيال الملك فيصل وأحداث لبنان والنزاعات العربية الجانبية بين مصر وسوريا وبين العراق وسوريا، كلها تدخل في مسلسل خلط الأوراق الذي سيستمر ويتصاعد ليؤدي اما الى جنيف واما الى تحقيق أخطر هدفين: الأول، إنهاء المثال اللبناني الذي يضايق اسرائيل. والثاني، إلهاء العرب عن اسرائيل بمعاركهم الداخلية...>. هل صحّت هذه النبوءة بعد حوالى أربعين سنة؟ المثال اللبناني أصابته تشوهات كبيرة، ولولا وعي اللبنانيين لانتهى الى غير رجعة. وإلهاء العرب عن اسرائيل بمعاركهم الداخلية تحقّق ويتصاعد مع ما يسمى <الربيع العربي>. أربعون سنة مضت كأنها أربعون أسبوعاً، بل أربعون دقيقة. عمر بكامله مضى، أحبة غادرونا وكبار رحلوا وأخذوا لبنان الذي نحب معهم. عمر بكامله أمضيناه مغلوبين بالوقت والتطورات، وكل ما عرفه الإنسان من تغييرات أساسية. عمر بكامله أمضيناه بالساعات والشهور والسنين ولم نكن ندري أننا أضعنا فيه أجمل ما وهبنا إياه الله: الفرح التهينا بالحرب وتداعياتها وأزمتنا تتفاقم كل يوم. اعتقدنا انها خُتمت، واكتشفنا انها خُتمت على زغل، لأنها نتيجة تسوية، والتسوية بالمفهوم العلمي هي هدنة بين حربين، والاتفاقات والحلول التي تختم على زغل هي تلك التي تتم هرباً من الاعتراف المتبادل بين الأطراف المباشرة. وبعد أربعين عاماً، الكلام الأميركي بالنسبة الى لبنان لم يتغير: واشنطن تدعم استقلال لبنان وحكومة لبنان وشعب لبنان.. وآخر ما سمعناه هذه العبارة <واشنطن مهتمة بملف الرئاسة اللبنانية>. هذه العبارة لوزير الخارجية الأميركي <جون كيري> جاءت رداً على طلب المطران بولس مطر مساعدة الولايات المتحدة لانتخاب رئيس للجمهورية، <أثناء لقاء حصل بالصدفة في مكان عام ولم يدم أكثر من أربع دقائق>، على ما أدلى به رئيس أساقفة بيروت للموارنة الذي صرح بهذا الكلام توضيحاً لما تداوله بعض وسائل الإعلام عن ان مطر تبلّغ من <جون كيري> تفاؤل واشنطن بإمكانية انتخاب رئيس للبنان خلال الشهرين المقبلين بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران. يقول عارفون ان من له القدرة على فرض الأمن في لبنان ولو نسبياً له القدرة نفسها على فرض رئيس للجمهورية، وانه من غير المعقول أن تكون المصلحة مجتزأة بحيث يكتفي القادر على إمساك البلد أمنياً من دون إمساكه سياسياً.. لذا يضيف هؤلاء ووفق تقاطع معلومات أوروبية ان القضية اللبنانية بأبعادها المختلفة كانت على بساط البحث في الأروقة الفرنسية الضيقة في حضور ملائكة أميركا، وتوصل من كان في هذه الأروقة الى قناعة تامة بأن النظام الذي أخذ به لبنان منذ الاستقلال قد فشل فشلاً ذريعاً. فالأمور تقاس بنتائجها، ونتيجة التجربة في ظل النظام الذي اعتمده لبنان كانت في الواقع سلسلة من الأزمات المتعاقبة منذ الاستقلال بلغت ذروتها في الانفجار الكبير عام 1975. ولو كانت صيغة النظام المعتمد صالحة لأمّنت إطار الحل الديموقراطي السليم للمشاكل قبل تفاقمها، ولكوّنت من المناعة الوطنية عند الشعب ما كان كفيلاً بصدّ المؤثرات الخارجية ومنعها من تصديع الجبهة الداخلية. إزاء هذه القناعة التي يعرفها اللبنانيون عن ظهر قلب، كان لا بد من حل أو تسوية شبه نهائية لهذا البلد الذي بشكل أو بآخر صدّر غير أزمة وتلقى غير أزمة الى المنطقة ومنها. فاتفاق الطائف الذي جاء بعد حرب طويلة والذي ظن البعض انه أرسى قواعد أساسية لنظامنا لم يلحظ أية قاعدة لحسم الخلافات السياسية واتفاق الدوحة الذي أتى اثر أحداث السابع من أيار/ مايو أرسى عُرفاً جديداً في تأليف الحكومات لم يدوّن في وثيقة مكتوبة. وكان لبنان قد شهد في فترة الاستقلال عُرفاً مكمّلاً للدستور هو ميثاق 1943، ولم يدوّن هو الآخر في وثيقة مكتوبة وظل حتى العام 1957 يشكّل مع الدستور الذي أقرّ في العام 1926 أساس الحياة الوطنية والسياسية في لبنان، ولكن مع التحوّلات الراديكالية السريعة التي طرأت داخل الأنظمة العربية ابتداءً من العام 1958 راحت الأسئلة تتوالى ووضعت أساس الميثاق والاستقلال على المحك. إزاء هذا الواقع المرير، ما العمل؟ هل يصار الى انتخاب رئيس للجمهورية يعمل مدعوماً من الداخل والخارج على إيجاد حل، أم يصار الى إيجاد الحل قبل الانتخاب؟ وهل يمكن أن يُنتج حل على البارد في مثل هذه الحال؟ لا أجوبة حتى الساعة، ولكن الأكيد أن لبنان دخل منذ العام 2008 مرحلة البحث عن صيغة جديدة تنظم عيش أبنائه من دون إعلان وبإرباكات لا تحصى، فالتغيير مكلف ومساره طويل ولا يمكن أن يتم بإرادة داخلية، ولم يعد جائزاً للبنان ان يبقى كما كان قبل سبعين سنة، وكما كان العالم قبل سبعين سنة. لقد أصبح وطننا مدعواً ومضطراً ليكون دولة تواجه سنة 2015 وسنة 2025 وسنة 2035 بكل ما سيطرأ على العالم من تطورات وتغيرات لا يستطيع وطننا أن يواجهها بما واجه به نفسه والعالم منذ سبعين سنة. لقد بقيت الديموقراطية في لبنان فاقدة أهم مقوماتها، إذ غاب عنها عنصر المحاسبة السياسية الفاعلة على مدى سبعين سنة. هكذا بقي رجال الأزمات هم أبطال الحلول وبقي رجال الماضي هم أمل المستقبل، والأكيد أننا فضّلنا عبر العقود الفائتة الزعيم على الدولة، القبضاي على الآدمي، الباطل على الحق، والنتيجة خسارة الدولة والآدمي والحق!