بقلم وليد عوض
أعادني النائب الصديق مروان حمادة وهو يدلي بشهادته أمام المحكمة الدولية يوم الاثنين الماضي، عن اتفاق الطائف، الى يوم كنت في مؤتمر الطائف مع عدد من الزملاء. فقد كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري <دينامو> المباحثات بين أهل الطائف الى جانب وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، وكان يجمعنا ــ طيب الله ثراه ــ في فيلاه الخاصة القريبة من قصر المؤتمرات في الطائف، ويحدثنا بما تيسّر عن الجهود المبذولة برئاسة سيد المؤتمر آنذاك الرئيس حسين الحسيني، ويبشرنا بأن الوصول الى اتفاق بين أهل مؤتمر الطائف يعني الوصول الى حقن الدم المراق في لبنان، والى فتح صفحة جديدة في تاريخ هذا البلد المعذّب!
أروي هذه الحقائق من قبيل التأكيد على أن الشيخ رفيق الحريري، ولم يكن قد أصبح رئيساً للوزراء، كان من أصحاب الفضل في توليد اتفاق الطائف، ولذلك كان حريصاً عليه مثلما الأب حريص على ولده. ولم يكن النائب مروان حمادة يبالغ وهو ينسب جزءاً من فضل اتفاق الطائف أمام المحكمة الدولية الى الرئيس رفيق الحريري الذي كان يومئذ في كواليس المؤتمر اليد اليمنى لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، واستهل كلمته أمام القاضي <دايفيد راي> بقسم اليمين قائلاً: <أقسم أن لا أقول إلا الحق ولا شيء غير الحق>.
أراد مروان حمادة بمرافعته أمام المحكمة الدولية والقاضي <راي> أن يكشف الأبعاد السياسية لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يوم 14 شباط (فبراير) 2005، ويوضح بأن الجريمة لم تكن بنت وقتها، بل جرى التحضير لها في مطبخ الوصاية السورية منذ ولادة اتفاق الطائف الذي ساهم مروان حمادة في وضع بعض بنوده وسلم الورقة للشيخ رفيق الحريري الذي قدم الورقة الى الأمير سعود الفيصل والرئيس حسين الحسيني. وحين جرت محاولة اغتيال مروان حمادة قرب منزله في رأس بيروت يوم أول تشرين الأول (أكتوبر) 2004، ونجا من الموت بأعجوبة رغم جراحه الثاخنة، كان المطلوب تصفية الحساب مع الذي ساهم في وضع بنود اتفاق الطائف والقرار 1559، وفيه من أنامل مروان حمادة الكثير الكثير.
لم يكن الرئيس الحريري قد تنبه يومئذ الى ان نظام الوصاية السوري قرر اصطياد عرّابي الطائف واحداً واحداً، لأن الاتفاق كان يحد من تمدد الوصاية السورية بعدما مدت أياديها الى المؤسسات، وأصبح تعيين الوزراء والنواب والمديرين العامين يأتي بأمر من اللواء غازي كنعان الذي اتخذ من منطقة <البوريفاج> في بيروت مقراً لقيادته، وكان معاونه رستم غزالي يبسط هذه الأوامر على مستوى بيروت ولبنان، حتى قال مروان حمادة في المحكمة الدولية ان الشهيد باسل فليحان أزيح من منصبه كوزير للاقتصاد وجيء بوزير آخر مكانه، تنفيذاً لطلب من الرئيس بشار الأسد، وتولى غازي كنعان ورستم غزالي التنفيذ!
كل هذا التمدد في بساط الوصاية، كما قال مروان حمادة، جاء اتفاق الطائف ليقلم أظافره، ويحاصره، خصوصاً في ذلك البند الذي يطلب انسحاب القوات السورية كمرحلة أولى الى شتورة، وكانت هناك مكابح أخرى لعهد الوصاية، تدخلت دمشق لوقف مفعولها، ولكن الانسحاب العسكري الى شتورة، لم يكن بالإمكان المجاهرة بشطبه من الحساب.
إذن.. اتفاق الطائف أنتج الجزء الأكبر من زعامة رفيق الحريري، والغضب السوري من اتفاق الطائف أنتج تكوين الظروف لاغتيال رفيق الحريري. هكذا رسم مروان حمادة الدائرة في المحكمة الدولية مستعيناً بسمّاعات الترجمة الفورية.
ولعل الحلقة المركزية في كلام مروان حمادة أمام المحكمة الدولية تلك التي كشف فيها اللقاء العاصف الذي جرى بين الرئيس رفيق الحريري والرئيس بشار الأسد عام 2003، وخرج منه الحريري متجهم الوجه، ومنفعلاً حتى انه ضرب رأسه - كما قال حمادة - بزجاج السيارة، وما ذلك إلا دليل على مدى تدخّل الوصاية السورية في الشأن اللبناني وصولاً الى أدق التفاصيل.
من عهد الوصاية الى عهد الضياع
حسناً.. لقد انتهينا من عهد الوصاية الذي كان يعيق حركة المؤسسات في البلاد، فأين أصبحنا الآن؟! وهل نحن في حال أفضل؟! وهل أصبحت المؤسسات حرة طليقة ينبع منها القرار الوطني في معزل عن أي وصاية؟
بكل أسف لم نعرف كيف نوظف انتهاء عهد الوصاية في بدء تاريخ جديد للبنان من حبر اتفاق الطائف، فما زالت الطبقة السياسية عاجزة عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أو لنقل انها لا تريد أن يحصل مثل هذا الانتخاب. أولاً لأن الوصاية الاقليمية المستترة لم تعط إشارة الانطلاق لانتخاب رئيس جديد للبلاد. وثانياً لأن أكثر أفرقاء الطبقة السياسية يريدون أن يعرفوا أين هي حصتهم من انتخاب رئيس جديد للبلاد، والعماد ميشال عون الذي يعتبر أنه الأحق بكرسي الرئاسة لأنه يمثل الأكثرية المسيحية، صاحبة الكرسي، ليس مستعداً لفتح الطريق لمرشح سواه، والمرشح العلني لقوى 14 آذار الدكتور سمير جعجع في غير الوارد أن ينسحب من المعركة، إلا إذا سبقه العماد عون الى هذا الانسحاب.
وكل من عون وجعجع يظن أنه يمتلك مقومات الرئيس المعطل انتخابه في مجلس النواب، ولكن أياً منهما غير قادر على كسب الخمسة وستين صوتاً التي لا مناص منها لانتخاب رئيس جديد. ولا بد للأزمة الرئاسية أن تضع أوزارها بالاتفاق على مرشح رئاسي توافقي، وأبرز من تنطبق عليه هذه الأوصاف هو وزير الخارجية السابق جان عبيد، بعدما افترق الرجلان، أي عون وجعجع، وكأنهما جبلان.
وهنا ينبغي الأخذ في الاعتبار دور القوتين الاقليميتين السعودية وإيران، فلكل منهما مصالحها الاستراتيجية في لبنان، ودورها في دعم مكونات شعبية لها وزنها. فالسعودية حليفة كتلة <المستقبل>، وبالتالي قوى 14 آذار، وإن كانت في الأساس تتعامل مع كل اللبنانيين كأسنان المشط، واقتصاد لبنان موصول بالاقتصاد السعودي في جملة مشاريع مصرفية ومقاولاتية. وإيران من خلال احتضانها لحزب الله واستطراداً قوى 8 آذار، لا تريد أن تفرّط بمصالحها الاستراتيجية، وتريد رئيساً حليفاً للمقاومة، وليس مناوئاً لها، والفارق بينها وبين السعودية أن الرياض تنظر بعين واحدة الى كل اللبنانيين، في حين أن إيران تنظر الى النسيج الشيعي دون أن تتجاوزه الى باقي الأنسجة التي يتكون منها الوطن اللبناني.
ولكن إذا اجتمعت الرياض وطهران الى مائدة واحدة، فقد يكون المرشح الرئاسي الذي يرضي الطرفين هو العنصر الغالب في النهاية.
مائدة الرياض وطهران
والمائدة الواحدة التي تجمع بين الرياض وطهران موصولة بالمائدة التي تجمع الآن، وقبل الرابع والعشرين من هذا الشهر، بين طهران وواشنطن في موضوع الملف النووي، وهناك مؤشرات تنبئ بالوصول الى اتفاق بين الطرفين، بحيث تستمر إيران في تخصيب <اليورانيوم> ولكن برقابة دولية، مخافة أن يتطور التخصيب النووي من الأغراض السلمية الى صنع القنبلة النووية. وقد جاءت هزيمة الرئيس <باراك أوباما> في الانتخابات النصفية لتكبح فرامله السياسية، وتحد من غلوائه حيال إيران، وتهيب به أن يقدم بعض التنازلات حتى يسترجع وهج الحزب الديموقراطي ولا يخسر معركة الرئاسة عام 2016 كما خسر الانتخابات النصفية لصالح الجمهوريين.
صحيح أن مرشحة الحزب الجمهوري <هيلاري كلينتون> تملك فرصاً أفضل للفوز بكرسي البيت الأبيض، فتكون أول امرأة تحكم الولايات المتحدة، إلا أن المسز <كلينتون> في حاجة الى دعم من الرئيس <أوباما> بسلوكه أسلوباً جديداً في الحكم، بدءاً من التنازل عن مشروع الصندوق الصحي الذي ألب عليه فئات شعبية بالجملة..
ومن تنازل <أوباما> وتنازل الرئيس الإيراني <حسن روحاني>، يمكن لمرحلة جديدة من العلاقات الأميركية ــ الإيرانية أن تفتح أبوابها، وإذ ذاك سوف تكون مائدة التفاهم بين الرياض وطهران م
كتملة الفرص.. وثالثهما اتفاق على محاربة الإرهاب الذي يضرب العراق كما يضرب السعودية وسوريا ومصر ولبنان. وعودة المياه الى مجاريها في البيت الخليجي الواحد، بعد مساعي الخير التي بذلها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في الرياض، وجمع فيها الملك عبد الله بن عبد العزيز وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد، وأعيد السفراء الثلاثة للسعودية والإمارات والبحرين الى العاصمة القطرية الدوحة، مضيفة القمة الخليجية الجديدة في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، كل ذلك لم يهيئ أسباب الراحة للبيت الخليجي فحسب، بل هيأ أسباب الراحة أيضاً لجمهورية مصر العربية بالانفصال السياسي بين قطر وجماعة الاخوان المسلمين الذين يعيثون فساداً وإرهاباً في مصر، بدءاً من سيناء والداخل.
الاخوان المسلمون الى خارج.. قطر!
ومما تناهى الى مسمعنا أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد قد أعلن في كواليس القمة الخليجية الطارئة في الرياض، وحضرها رئيس القمة الحالي أمير الكويت الشيخ صباح، ونائب رئيس الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وأمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، أن الاخوان المسلمين في قطر تلقوا بكل تهذيب وود طلباً من الحكومة القطرية بمغادرة البلاد الى تركيا، وانه عقد اتفاقاً بهذا الخصوص مع الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان>.
ولم تتيسر معرفة مصير داعية الاخوان المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي. هل هو ضمن المجموعة النازحة الى تركيا من الاخوان المسلمين، أم انه باق بحكم حيازته على الجنسية القطرية، مع وعد بعدم تناول حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأي سوء؟ مسألة تحتاج الى توضيح.
والمرحلة المقبلة بعد ذلك كله، تبقى أخف وطأة من المرحلة الحالية، ويصح فيها قول رئيس وزراء انكلترا الراحل <ونستون تشرشل>: <إنها ليست النهاية، وكذلك فليست بداية النهاية، ولكن يمكن القول إنها نهاية... البداية>!