بقلم جورج بشير
لا أحد يعرف لماذا يلجأ الدافعون الى الحرب واستمرارها في سوريا، وأولئك الذين يصدّرون الرجال والسلاح والمسلحين من كل حدب وصوب الى سوريا والعراق أيضاً من دول كبرى وصغرى، عربية وأجنبية، خصوصاً من تلك التي يطلق عليها اسم المجتمع الدولي أو الدول المانحة وتلك الداعمة أي الغنيّة بالطاقة، ويعملون جميعاً لوضع خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، هدفهم تقسيم سوريا والعراق، وربّما لبنان - يقول البعض - فيما هذا المجتمع الدولي بالذات وخاصة الدول الكبرى والغنيّة تدفع اليوم بكل قوّتها من أجل إعادة وصل دولة أخرى لا تقل شأناً عن دولتي سوريا والعراق من الناحية الاستراتيجية في الشرق الأوسط وهي دولة قبرص المقسمة والمنشطرة على ذاتها بعد الحرب الأهلية الضروس بين القطاعين التركي واليوناني والاحتلال التركي لشمال الجزيرة الجزيرة والوجود العسكري التركي مع الوجود الدولي في هذه الجزيرة الجميلة، يدفعونها بقوة الى إعادة الوصال والتواصل بين الشطرين و<الشعبين> القبرصي اليوناني والتركي للعودة الى الوحدة الوطنية كشعب واحد في ظلال هذه الرعاية الدولية.
بالفعل، غريب هذا المجتمع الدولي الذي انقسم على ذاته، فريق أيّد الاحتلال العسكري التركي لجزء مهم من الجزيرة، وفريق آخر عارضه. لكن على أرض الواقع، قام على طول الحدود الفاصلة بين شطري قبرص خط أحمر ممنوع تجاوزه من دون المرور بنقاط عسكرية حدودية، وكأن قبرص الدولة الواحدة أصبحت دولتين: واحدة يُرفع العلم القبرصي فوق مبانيها الرسمية، والأخرى يرفع فوق مبانيها الرسمية العلم التركي، فيما جيش تركيا المحتل يقيم الثكنات والمواقع العسكرية والقواعد الحربية، ومعها <الكافيوهات> لأجندات السياح من جهة ولوراثة كازينو لبنان، ولبنان أيضاً، وهو قائم... وفي الوقت ذاته لم ينفك هذا المجتمع الدولي وخاصة منظمة الأمم المتحدة الموجودة بقوة أيضاً على طول الجزيرة وعرضها عن السعي لإعادة توحيد شطري الجزيرة والسعي لإقامة حوار بين زعماء كانوا في يوم من الأيام وقبل أربعين عاماً تقريباً دولة واحدة موحّدة ساهمت عدة قوى في تقسيمها وشطرها ودفع شعبها الى التقاتل وحتى دفع تركيا لاحتلال الشطر الذي سمّوه بالشطر التركي، فيما بقي الشطر الآخر قبرصياً بامتياز، ليس فيه جيش يوناني الى جانب قواعد الجيش البريطاني، ولا يرتفع فوقه أي علم لدولة أجنبية، فيما سياسيوه سعوا وما زالوا بكل قواهم ورغم خلافاتهم السياسية لاستعادة الشطر الآخر الى حضن الوطن الأم والى توحيد هذا الوطن وإنهاء الاحتلال، <لأن العين لا تقاوم مخرزاً> كما يقول هؤلاء السياسيون...
هل فشل التقسيم؟
البعض يقول إن مشروع التقسيم الذي راود حكّام أنقرة وغيرهم لسنوات لم تتوافر أمامه عناصر النجاح، كما ان العناصر التي تؤمن الحياة للشطرين في ظل التقسيم والانقسام بدورها لم تتوافر، فيما الظلم الكبير والتاريخي الذي لحق بالسكان القبارصة واليونانيين قضية أخرى.
فهنا، أي في القطاع القبرصي اليوناني إذا صح التعبير لاجئون في وطنهم من الطائفة القبرصية اليونانية صودرت أملاكهم وبيوتهم في القطاع التركي وتشردوا. وهناك في القطاع التركي لاجئون في وطنهم من طائفة الأتراك - القبارصة لحق بهم ما لحق بإخوانهم، والشعب القبرصي في القطاعين يبدو وكأنه ما زال يلبس لباس الحداد الأسود الى اليوم في القطاعين، فيما صور الأحباب معلّقة بالآلاف فوق جدران المنازل الداخلية في القطاعين من الشهداء سواء أكانوا مقاتلين في الحرب أو مقاومين أو أبرياء من الأهالي الذين لا علاقة لهم بالميليشيات الحربية. لكن الجميع يتطلعون الى اليوم الذي يتوحّد فيه شطرا الجزيرة ويعود كل قبرصي الى بيته والى المدينة والقرية التي ولد وترعرع في ربوعها، ويعود الحق الى أصحابه والوطن الى وحدته.
طبعاً، وكما يقول المثل <للبنان قرص في كل عرس>... وفي قبرص، أقامت جالية لبنانية أكثريتها الساحقة من الموارنة هاجرت عائلاتها من لبنان، وخاصة من منطقة البترون وتوزعت في قرى ساحلية وجبلية، الساحلية ملاصقة للشاطئ القبرصي الحالم الجميل والنظيف، وقرى جبلية ملاصقة لها. والهجرة من لبنان الوطن الأم تمّت إبان الحربين العالميتين وإبان الاحتلال العثماني للبنان والوجود الماروني في الجزيرة قبل خمسمئة عام.
وبفعل الاضطهاد والظلم والعزل الذي مارسه الحكم العثماني التركي في لبنان ضد اللبنانيين وضد الموارنة بالتحديد، خصوصاً في شمال لبنان وحصارهم وحصرهم على امتداد وادي قاديشا مدة ثلاثمئة سنة من دون أن يتمكن المحتلون من قهر هذه الجماعة اللبنانية المقاومة.
أجبرت السلطات اليونانية والتركية موارنة قبرص على تبديل أسمائهم العربية من بطرس مثلاً الى بترايوس، ومن حنا الى جون ومن جورج الى جورجي... وهكذا دواليك الاسمان الأول والثاني وأصبح المتحدرون من لبنان يسمّيهم القبارصة الموارنة الذين تمسكوا بتقاليدهم وعاداتهم وتراثهم، فبنوا الكنائس والأديرة والمزارع والمدارس حيث انتشروا وجميعهم يتقنون أكثر من لغة.. والمناطق التي ما زالوا يقيمون فيها ويحتفظون بها ويتشبّثون بأرضها تشكل قطاعاً زراعياً وسياحياً بامتياز رغم ان عدد الموارنة اضمحلّ فيها من 55 ألف شخص قبل الاحتلال العثماني الى ستة آلاف الى جانب ألفي ماروني موزعين في الجزيرة خاصة في أربع قرى تشكل القطاع الماروني وهي كورما جيت، وكارباشا، واسوماتوس، وأيامارينا، ما زال يقيم فيها الآباء والأمهات فيما الشباب يزورونها في عطلة نهاية الأسبوع وفترات الاعياد حيث تجتمع العائلات لتقيم الاحتفالات الدينية والمناسبات الوطنية. وأعداد كبيرة من الموارنة يتحدثون اللغة الآرامية لغة السيد المسيح الى جانب لغات أهل البلاد. وفي قبرص مطرانية - أبرشية يرعاها حالياً المطران يوسف سويف عضو مجلس الأساقفة الكاثوليك الأوروبيين كون الجزيرة مرشحة بعد التوحّد لأن تنضم الى الاتحاد الأوروبي، وصور البطاركة الموارنة مرفوعة في نواديهم وبخاصة البطريركين نصر الله صفير الذي زارهم وتفقّد قراهم مع وفد من مؤسسة الانتشار المسيحي، والرابطة المارونية، والبطريرك الراعي الذي زارهم بدوره وتفقد أحوالهم وأعلن يومئذٍ عن قيام جامعة في قبرص هي فرع من جامعة الروح القدس في الكسليك التابعة للرهبانية اللبنانية المارونية، وما زال هؤلاء يذكرون بالخير وفداً مارونياً زارهم برئاسة الآباتي بولس نعمان والمحامي الراحل شاكر أبو سليمان إبان الحرب القبرصية حاملاً إليهم عبر البحر المواد الغذائية والألبسة والخيم وشعروا يومئذٍ بأنهم ليسوا متروكين.
يشاركون في المحادثات الدولية
المساعي الدولية ناشطة وبقوة هذه المرة لإعادة توحيد شطري الجزيرة في دولة واحدة. والموارنة مشاركون في الحوار القائم في هذا السبيل عبر نائبهم النشيط <أنطوني حاجي روسوس> والى جانبه أركان الطائفة يدعمهم راعي الأبرشية المطران يوسف سويف من جهة، والبطريركية المارونية والبطريك الراعي والسفير اللبناني يوسف صدقة من جهة ثانية في لبنان والفاعليات المارونية والمسيحية الذين يؤيدون مطالبهم في ان يكون لديهم موقع في السلطة والقرار (لديهم نائبان حالياً في البرلمان القبرصي: واحد منتخب والآخر معيّن ومجالس محلية)، وفي استعادة حقوقهم وأراضيهم وممتلكاتهم وتعويضهم أسوة بالآخرين تكبدوا الخسائر المادية التي لحقت بهم من جراء الحرب والتهجير والتدمير رغم انهم لم يشاركوا في الأعمال الحربية، وأصبحوا جماعة وطنية ساعية لإعادة توحيد ووحدة الجزيرة وسكانها، كون قطاعهم وقراهم ممتدة في الشطر التركي من الجزيرة.
<بان كي مون> أمين عام الأمم المتحدة له في قبرص موفد خاص نروجي الأصل <اسبين بارث إيدا> مع فريق دولي يؤازره في الحوار مع الفريقين القبرصيين ويغذي وينشط الحوار الوطني بينهما. والموفد الدولي ديبلوماسي شاب متحمّس جداً للمهمة التي أوكلت لغيره في الماضي وهي توحيد شطري الجزيرة في دولة واحدة لها دستور ونظام واحد، مع المحافظة على دور الأقليات كالموارنة وحقوقهم في الدولة الجديدة كما قال لي الموفد الدولي السفير <ايدا> خلال زيارته للقطاع الماروني واجتماعه مع أركان القرى التي تضم الموارنة وبعضها يعاني من الاضطهاد والظلم حيث يمنع مثلاً سكان <ايامارينا> من زيارتها سوى مرة في الشهر ولساعتين فقط، لإقامة قداس (...) فيما تخضع القرى الأخرى للرقابة وتقيّد نشاطاتها لحمل السكان على الهجرة، وهؤلاء متمسكون بالأرض بأظافرهم يزورون القرى وكنائسها دورياً ويقيمون فيها شعائرهم الدينية بجرأة.
الموفد الدولي زار خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي القرى المارونية والتقى السكان وكان في طليعتهم نائبهم في البرلمان <أنطوني حاجي روسوس> وهو يفخر بأصله اللبناني (بلدة كور البترونية) وبمارونيته وبانتمائه الى وطنه أي جزيرة قبرص الموحدة بشطريها في دولة واحدة، والمحادثات مع أركان الموارنة القبارصة تلاحقت مع الموفد الدولي في أكثر من قرية استمع خلالها الموفد وفريقه الى مواقف الأهالي وفق المذكرة التي تسلّمها الموفــــــد الـــــــدولي <اسبن بـــــــارث ايـــــــدا> من نائبهم <أنطــــــوني حـــــــاجي روســـــــوس> وركّزت علــــــى إعــــــــــادة توحيد الجزيرة وعلى الحوار واستعادة الحقوق وإعادة الأراضي لأصحابها، وتمثيل الموارنة بموجب الدستور والنظام الفيدرالي الجديد في البرلمان والمؤسسات وعضويتهم في المجلس التأسيسي اليوناني القبرصي.
السفير <ايدا> كان مرتاحاً كما قال لي للحوار الدائر بين الزعيمين القبرصيين، ومرتاحاً ايضاً الى الحوار مع موارنة الجزيرة، والى تطور الحوار الدائر وهو يشعر بأن مهمته ستتكلّل بالنجاح التاريخي للأمم المتحدة وأمينها العام <بان كي مون> وهو يعرف لبنان وشعبه جيداً.
مسؤول بارز في الجالية اللبنانية - المارونية قال لي مناشداً السياسيين اللبنانيين وخصوصاً الموارنة منهم: أعيدوا استقلال واستقرار لبنان وحلوا مشاكلكم لأننا نحتاج الى وحدتكم ودعمكم.