هل ما شهده لبنان يوم الجمعة 20 حزيران/ يونيو الجاري استعادة لأيام الخوف والقلق والتفجير والتخريب التي عاشها قبل أشهر نتيجة تداعيات الحرب الســــورية، لاســــيما بالقرب من حدوده البقاعية، أم انه جريمة محصورة في الزمان والمكان لم تكتمل فصولها، لكنها كانت كافية في نشر أجواء الرعب الممزوجة بالدم والنار والدمار؟
هذا السؤال طُرح بإلحاح الأسبوع الماضي على اثر جريمة التفجير الإرهابية التي وقعت عند حاجز قوى الأمن الداخلي في ضهر البيدر، وذهب ضحيتها مؤهل أول في قوى الامن سقط شهيداً، فيما كان يدقق في أوراق انتحاري (من الزبداني في سوريا) قاد سيارة رباعية الدفع مفخخة بأكثر من 25 كيلوغراماً من المواد الناسفة والحارقة، حاول العودة بها الى البقاع بعدما حالت مطاردته من دورية لقوى الأمن دون الانتقال بسيارته الملغومة الى بيروت، كما سقط في جريمة التفجير أكثر من 30 جريحاً صودف مرورهم عند الحاجز في منطقة استراتيجية مثل ضهر البيدر يعبرها يومياً آلاف الأشخاص في انتقالهم ذهاباً وإياباً من بيروت الى البقاع والعكس.
قد يكون الجواب عن هذا السؤال مجرد تحليلات واجتهادات قبل أن تنجلي المعطيات الضرورية من خلال التحقيقات التي استمرت طوال الأسبوع الماضي، لاسيما وأن جريمة التفجير تزامنت مع انتقال المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم من بيروت الى البقاع، مروراً بمنطقة ضهر البيدر التي وصلها بُعيد دقائق قليلة من حصول التفجير، ما جعل فرضية استهدافه تطفو على سطح الاستنتاجات، خصوصاً أن اللواء ابراهيم تلقى منذ فترة تهديدات متكررة أبقاها بعيدة عن الإعلام تحسّباً من حالة ذعرٍ يمكن أن تنتشر في لبنان الذي يعيش حالة من اللااستقرار السياسي والحذر الامني. كذلك تزامنت الجريمة مع إجراءات أمنية غير مسبوقة أدت الى إلغاء احتفال خطابي للمخاتير كان من المفترض أن يرعاه ويتحدث فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الداخلية نهاد المشنوق في قصر الأونيسكو، وإلى إقفال شوارع ومناطق و<تسييج> مؤسسات رسمية وأمنية ومنع الاقتراب منها، إضافة الى ان الجريمة تلت بوقت قصير حملة دهم لعدد من الفنادق في منطقة الحمرا بحثاً عن <مشتبه بهم> على علاقة بمنظمات تكفيرية وإرهابية قدموا الى بيروت لتنفيذ جرائم اغتيال وتفجير وقتل وخطف. كل ذلك رافقته موجة شائعات عن سيارات مفخخة تجوب المناطق اللبنانية، ما أحدث خوفاً مماثلاً لما كان يشعر به اللبنانيون في <عز> المواجهات السورية بين الجيش النظامي ومسلحي المنظمات المعارضة.
ثمن التسيّب السياسي؟
إلا أن الأكيد أن ما حصل في ذلك اليوم لا يمكن فصله عن مناخات مقلقة برزت من جديد في لبنان، على أثر الأحداث الدامية التي شهدتها مناطق عراقية اجتاحها مسلحو <داعش> على نحو مفاجئ، ما جعل الاهتمام الدولي ينتقل وبسرعة من سوريا الى العراق، ورفع منسوب القلق في لبنان من تداعيات مماثلة لتلك التي حصلت في لبنان نتيجة أحداث سوريا، عملاً بنظرية طغت على تحليلات السياسيين والإعلاميين، تقوم على فرضية أن خلايا الإرهابيين التي نامت نسبياً بعد سلسلة النكسات التي عاشتها المنظمات المسلحة في سوريا، لاسيما في منطقة القلمون وحلب وحمص، استفاقت من جديد بعد <المكاسب> التي حققتها <داعش> وأخواتها في العراق، لتستعيد المشهد الدامي نفسه الذي غاب عن أذهان اللبنانيين لفترة، خصوصاً أن ثمة من ربط بين تفجير ضهر البيدر وحملات الدهم في الحمراء، والإجراءات الأمنية غير المسبوقة التي اتخذت وبين الحديث عن <تسخين> الجبهة اللبنانية في ظل فراغ رئاسة الجمهورية وتعطيل مؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء، لخلق حالة من الضياع والفوضى الأمنية والخوف، تدفع الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بحجة ضرورة مواجهة التدهور الذي بات على الأبواب، ما يجعل الاستحقاق الرئاسي حصيلة طبيعية، في ظروفه ونتائجه، لسيناريو دموي مماثل للسيناريو الذي حصل في العام 2008 وانتهى الى <تسوية الدوحة> التي تمت <على السخن> وأنتجت رئيساً للجمهورية وأسس قانوناً جديداً للانتخابات النيابية و<ضوابط> تشكيل حكومة جديدة، لا يزال لبنان يعاني من انعكاساتها السلبية على الحياة السياسية اللبنانية.
من هنا، تقول مصادر معنية ان <الفتنة> التي نجح لبنان في تجاوزها مرة أخرى من دماء شهيد قوى الأمن الداخلي الملازم محمود جمال الدين عند حاجز ضهر البيدر، ومن خلال وعي المواطنين وسرعة الأجهزة الأمنية في الإمساك مجدداً بخيوط اللعبة، يمكن أن تتكرر في أي لحظة إذا ما ظلت الحالة السياسية <سائبة> على النحو الراهن، ما يفرض تحركاً وطنياً سريعاً يسدّ الثغرات السياسية والتنظيمية التي ينفذ منها العاملون على إشعال الفتنة من جديد والانتقال بالبلاد المعطّلة مؤسساتها الدستورية، من حال الى حال، تزيد الأمور تعقيداً وتدخل لبنان مجدداً في دوامة اللااستقرار مع ما يمكن أن يحدثه ذلك من انعكاسات لن تسلم منها هيبة الدولة (المتهالكة أصلاً) ووحدة مؤسساتها وشعبها.
بري أم إبراهيم؟
وفيما يتوقع أن تنجلي ملابسات جريمة ضهر البيدر خلال الأيام الآتية بعد مباشرة مسح الاتصالات الخلوية التي أجراها الانتحاري خلال توقفه في صوفر والاشتباه به لاحقاً لمعرفة الجهة التي كانت تنقل إليه التعليمات تباعاً، جاءت حملة المداهمات التي استهدفت فنادق في منطقة الحمرا بحثاً عن <مشتبه> بانتمائهم الى شبكات إرهابية والتي كان يفترض أن تنفذ بشكل أفضل، مكّنت من اعتقال اثنين من المشتبه بهم من جنسية غير لبنانية، تأمل الأجهزة الأمنية من الحصول منهما على معلومات دقيقة تكشف ما إذا كان انتحاري ضهر البيدر على صلة بهما، وما إذا كانت المهمة الموكولة إليه تفجير قصر الأونيسكو خلال وجود الرئيس بري والوزير المشنوق فيه، وذلك من خلال سيناريو رسمته الأجهزة الأمنية المختصة، أو ما إذا كان الهدف هو اغتيال اللواء ابراهيم مع ما يمكن أن تحمله هذه الجريمة، لو وقعت، من معانٍ وأبعاد ومدلولات ونتائج، لاسيما في ظل ما يحصل في العراق وما أدى الى استفاقة <الخلايا النائمة> في أكثر من منطقة في لبنان والتي رصدت الأجهزة الأمنية المعنية تحركات لها في أكثر من اتجاه.
تعاون استخباراتي دولي وجهوزية لبنانية
غير أن العنصر <الإيجابي> الذي يمكن استخلاصه من كل ما حصل في ذلك اليوم في لبنان أن المعلومات التي وفّرتها أجهزة استخبارات خارجية (ألمانية وأميركية) للبنان، تمّ التعاطي معها بجدية وفعالية وحرفية، ساهمت كلها في <تفشيل> مخطط الراغبين في إغراق لبنان من جديد في بحر من الدماء والدموع، في وقت كان لبنان يستعد لاستقبال فصل صيف بدا واعداً، لكن ما حصل أعاد شبح الفراغ الى الفنادق والمؤسسات السياحية اللبنانية على أنواعها.
وفي هذا السياق، يؤكد مصدر أمني رفيع لـ<الأفكار> أن ما حصل في ضهر البيدر وفي منطقة الحمرا كان وليد جهد كبير وسريع قامت به الأجهزة الأمنية المعنية بعد سلسلة معطيات تسلمتها من أجهزة مخابراتية دولية، ما دلّ على أن الاستقرار في لبنان لا يزال خياراً دولياً وإقليمياً لأسباب عدة بعضها متصل بالواقع الجغرافي في لبنان من جهة، و<بالمعادلات> التي لا بد من مقاربتها على نحو صحيح لا مبالغة فيه، أو قراءة خاطئة لمجرى أحداثها، إضافة الى الواقع في الجنوب الموجود على <سوس ونقطة>، لكنه ملجوم بفعل التعاون القائم بين وحدات الجيش اللبناني والقوات الدولية، وتجاوب قيادة حزب الله مع المعطيات التي تحقق استقراراً في الجنوب عموماً وعلى طول الحدود مع الأراضي المحتلة خصوصاً.
ويقر المصدر الأمني الرفيع ان التعاون مع أجهزة المخابرات الدولية، لاسيما الأميركية والأوروبية، تزامن مع سرعة تفاعل أظهرتها الأجهزة الأمنية اللبنانية، ووفّرت لها السلطة السياسية الغطاء المطلوب من خلال قرارات جريئة تم اتخاذها أو كان من المفترض تنفيذها، ما جعل التحرك الأمني لمواجهة ما جرى فاعلاً ومثيراً خصوصاً في اكتشاف عدد من المتهمين الذين اعتمدوا فنادق العاصمة أمكنة للإقامة ومتابعة تنفيذ المخططات الموضوعة. ومن شأن هذا التفاعل أن يرتب مسؤولية استمراره في المرحلة المقبلة، لأن الإرهاب لا وقت له ولا دوام، بل هو قادر أن يضرب ساعة يشاء. وفي تقدير المصدر الأمني نفسه، ان التنسيق الذي قام بين الجيش وقوى الأمن والأمن العام، وسائر القوى الأمنية الشقيقة، كان كافياً لإبراز <التكامل> بين هذه الأجهزة والذي يحقق - متى توافر - نقلة نوعية في تعاطي الأجهزة الأمنية مع الاستحقاقات المماثلة من دون تنافس غير منطقي، أو انكفاء غير مبرر، أو مبالغة غير مقبولة... وكانت <ثمرة> التنسيق اعتقال متهم من جزر القمر من أصل فرنسي يتولى إدارة شبكة إرهابية وأدلى باعترافات وصفت بـ<المهمة>.
ويرى المصدر نفسه أن ملاحقة الأجهزة الأمنية للخلايا النائمة أدى الى اكتشاف العديد من المعلومات والمعطيات التي ستساعد في الآتي من الأيام بتحقيق المزيد م
ن الإنجازات لجهة تعطيل ما يخطط له القيّمون على الشبكات الإرهابية التي تحرّك الخلايا النائمة، عند الضرورة. ولا يسقط المصدر من حساب التقييم، فعالية الإجراءات التي اتخذت سواء من خلال إلغاء احتفالات، أو ملاحقة مشتبه بهم، أو اتخاذ إجراءات وقائية، لأنها بذلك <صعّبت> مهمة الإرهابيين من جهة، وحمت الأماكن التي <زنّرت> بالإجراءات مع القاطنين والعاملين فيها، ثم سهّلت عملية الانقضاض على المشتبه بهم واعتقالهم، سواء أكانوا من المخططين أو المنفذين أو المسهّلين.
<الاستقرار المستدام> مسؤولية سياسية
وإذا كان قائد الجيش العماد جان قهوجي قد قلّل من <تخويف> الموجودين على الأراضي اللبنانية من خلال تأكيده على إمساك القوى الأمنية بالوضع الأمني جيداً، وجهوزيتها الدائمة بعد رفع درجة الاستنفار فيها الى الذروة، فإن ثمة من يرى أن إحباط الموجة الأولى من المخطط الإرهابي الذي تجدد بعد اجتياح <داعش> لأجزاء واسعة من العراق، لا يجوز أن يعني ان الحل الأمني للوضع المستجد في لبنان، هو الكفيل وحده بإبعاد كأس الخوف والإرهاب والرعب عن لبنان، بل إن تضامن القيادات اللبنانية لإعادة إحياء المؤسسات الدستورية يبقى العلاج الوحيد لتأمين استقرار مستدام، أمنياً وسياسياً، وبالتالي فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو المطلب الملحّ في هذه الفترة ليعود الى الدولة رأسها، وينتظم عمل المؤسسات الأخرى، لأن <الرك> على الجيش وحده يؤدي الى انهاكه أو إضعاف قدراته على المواجهة الناجحة لاسيما إذا ما تنقل الإرهاب من منطقة الى أخرى، بهدف إرباك المؤسسة العسكرية وجعلها عاجزة هي الأخرى عن القيام بمسؤولياتها لما يجب... وعندذاك <يكتمل النقل بالزعرور> والخسارة لن تستثني أحداً!