الخبر الملفت الآتي من شاشة شبكة التلفزيون الروسية <آرتي RT> ــ وكان اسمها في السابق <روسيا اليوم> ــ هو اعلان مقدمة البرامج المذيعة الروسية <آبي مارتان> استقالتها من وظيفتها في التلفزيون الروسي، أمام مئات آلاف المشاهدين والمشاهدات، احتجاجاً على تدخل الدولة الروسية في شبه جزيرة القرم.

   لم نعرف حتى الآن ماذا كانت ردة فعل الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> وإذا تجاوز ردة الفعل، فهو بذلك يقدم عبر استقالة المذيعة <مارتان> نموذجاً لأعلى صيحة في حرية الرأي!

   ومن موسكو الى بيروت.. حوّل!

   فقد أثيرت ضجة تلو ضجة لإحالة أحد الصحافيين على القضاء بتهمة المس بمقام الرئاسة، وقد تكون الاحالة القضائية على صواب، وقد لا تكون على أساس أن في القضاء ثلاث درجات: البداية والاستئناف والتمييز، دلالة على أن لكل من قضاة المحاكم الثلاثة رأياً قد يكون مغايراً لرأي زميله رئيس المحكمة الأخرى.

   وحسناً فعل وزير الإعلام رمزي جريج، وهو نقيب محامين سابق، عندما أحب أن يفرّق بين حرية الرأي وبين التطاول على مقام الرئاسة. ولكن الوزير جريج لا بد أنه قرأ تقرير <مراسلين بلا حدود> الذي يصنف لبنان في قائمة البلدان التي تتعاطى حرية الرأي عند الدرجة السادسة بعد المئة، وهو أمر ينتقص من سمعة لبنان الديموقراطية، بعدما كان مضرب مثل في الحفاظ على حرية القول والرأي، كما هو نص الدستور.

   وثمة بين السفراء العرب من يقول إن لبنان هو واحة حريات واسعة، بدليل أن الذين تستضيفهم برامج <التوك شو> في محطات التلفزيون اللبنانية، يقولون أحياناً عبارات نافرة تخدش الحياء السياسي للمشاهد اللبناني، وأن حرية الكلام أصبحت <أوفر Over>، كما يقال بالانكليزية، أي أكثر من اللازم مما استدعى عقد اجتماع بين المجلس الوطني للاعلام الذي يرئسه عبد الهادي محفوظ وقادة شبكات التلفزيون في لبنان، وتنبههم أن للحرية حدوداً لا يجوز تجاوزها، وإلا دخلنا في الفوضى، وليس هناك مواطن لبناني واحد يرضى لاعلام بلاده أن يدخل في الفوضى.

   في العام 1974 أدخلت النيابة العامة الى سجن الرمل الصحافي الكبير الراحل غسان تويني، بعدما نشر محضر جلسات القمة العربية في الجزائر من خلال <استعارة> تقرير في حقيبة وزير الخارجية فؤاد نفاع. ويومئذ زاره رئيس حزب الكتائب والوزير السابق الشيخ بيار الجميّل، وقال له:

   ــ اسمع يا غسان (بكسر الغين): هناك ثلاث محرمات لا يجوز للصحافي أن يقربها، وهي: رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والبطريرك الماروني. فالتعرض لهم خطر على مسيرة الوطن.

   وقد تجاوز غسان تويني المحرّمة الأولى وهي رئاسة الجمهورية، على أساس أن نشر محضر قمة الجزائر إساءة الى مقام الرئاسة (كان الرئيس يومئذ هو سليمان فرنجية) لأنه يعني عدم ائتمان رئيس الجمهورية على أسرار القمم العربية.

   وأفضل ما يفعله وزير الإعلام رمزي جريج هو أن يمسك العصا من الوسط، فيطلب الاجتماع برؤساء تحرير الصحف والمجلات، وأخذ التعهد بعدم التطاول على مقام الرئاسة الأولى، لأنها رمز الوطن، ومثلهم قادة شبكات التلفزيون. فأخذ هذا التعهد، واعتماد الرقابة الذاتية، ينقذان سمعة لبنان الديموقراطية وصيته في الحريات، وبدلاً من أن يصنف في الدرجة السادسة بعد المئة يمكن أن يتقدم الى المنزلة رقم أربعين.

   وحتى اكتشاف ثروة النفط والغاز في عمق البحر اللبناني، تبقى ثروة لبنان هي حرية القول والعمل..

   والرأي يبقى قبل شجاعة الشجعان!