بيار جعجع: انقطع بي الحبل في «مسرح المدينة » خلال استعراض «سالومي » فصفق لي الجمهور مشجعاً وجاءت سيارة الإسعاف لنقلي الى المستشفى!
مرادي تكوين فرقة راقصة من الصم والبكم ولا ينقصني إلا التمويل!
بيار جعجع شاب لبناني أصم أبكم عشق الرقص حتى أتقنه وأصبح أستاذاً فيه بعد ثلاث شهادات عليا متخصصة وتدريبات ومحترفات. حياته لم تكن سهلة أبداً بدءاً من طفولته. الحوار معه ممتع وإن كان صعباً جداً، ذلك ان لديه الكثير ليقوله الا ان التعبير يخونه فيعبر بحركات يديه والاشارات الخاصة ليخوننا نحن عند ذاك فهم ما يحدّثنا به، الا ان صعوبة التواصل معه لم تمنعنا من التعرّف على تجربة شخص تميّز ولمع.
محطات تلفزة عديدة، اذاعات و مجلات مختلفة كان نجمها بيار جعجع حتى أصبح يختار أين يطل وعمن يحجب لقاءاته. كثيرون يتصلون به لاهتمامهم <بالمعاقين> فيرفض بيار التحدث اليهم لخطئهم في الشخص المطلوب، فهو ليس معاقاً ولا معوّقاً ولا صاحب احتياج خاص. يختار فقط من يضيء على نجاحه في التدريب على الرقص وهو الآن يعطي دروساً فيه لطلاب الجامعة العربية في بيروت.
عذراً.. أخرجا
يرفض بيار ديب جعجع بعناد التوسّع في الحديث عن عائلته التي تتألّف الى والديه من اربع بنات وهو وحيدهم. <اراهم من حين الى آخر، الا أنني اشعر بأنني مختلف عنهم في التفكير وفي الميول. أنا شغوف بالرقص والموسيقى، وهم لهم اهتماماتهم الأخرى>.
اثنتان من اخوات بيار متزوجتان واثنتان عازبتان ولا تعانيان من مشاكل صحية. والده ووالدته ليسا قريبين بالاصل، حيث ان المشكلة الصحية التي يعاني منها بيار منذ الولادة قد تكون بحسب الطب نتيجة لصلة القربى هذه. والده من منطقة البقاع الشمالي، صوب دير الاحمر، البلدة التي لا يزورها بيار كثيراً، فمنزله موجود عند منطقة <أدونيس> واليه دلفنا بعد أن كنا اتفقنا عبر الرسائل النصية أن نلتقي في احد مقاهي المنطقة. الا أن الطريف لما وصلنا سوياً ورأى صاحب المكان أنني <استلّيت> آلة التسجيل، طلب مني بلطف ان أظهر له بطاقتي الصحافية وبما أنني تركتها في السيارة فقد طلب منا أن نغادر معتذراً ومبرراً: <أعذروني، ففي هذه الأيام وجود آلة تسجيل ومن ثم التقاط صور في المكان يجعلنا نشك حتى في أنفسنا.. أعذرونا وتفهمونا وأهلاً بكما مرة أخرى>.
لولا <إيراب>.
في الطريق الى بيته، قال بيار بصعوبة: <ضيعان هالمنطقة، كانت كلها أشجار صنوبر>. ولما بدأت بالاسئلة، قال لي بيار: <شوي شوي> مع حركة يدين تشير الى ذلك، ثم سألني الا أسجل لانه بذلك سيكون مضطراً الى الاسراع في الكلام، الأمر الذي لن يتمكن معه من القيام به، وما عليّ سوى ان ارفع صوتي، وأتكلم رويداً رويداًَ حتى <نفهم على بعضنا> وأستعين بالورقة والقلم.
فتح بيار حاسوبه الخاص الذي استخرجه من رزمة <كراتين> موضبة كلها اذ أن استاذ الرقص ينتقل الى بيت آخر عند منطقة الجميزة في بيروت. كان بيار قد اتصل بطريقته الخاصة بإحدى الشركات حتى تقوم بعملية النقل المستعجلة. أطلعني على سيرته الذاتية المكتوبة فيه والتي فصلناها بقدر المستطاع. ويشرح بيار:
- كنت في مدرسة عادية في الحدث، وكان اهلي والاساتذة يعرفون انني اعاني من عدم القدرة على السمع والنطق. الا ان الاساتذة كانوا يشيدون بذكائي لجهة كل ما هو مرئي فكنت اتكل على الكتابة في كل ّشيء. اذكر أيام الحرب القاسية التي لم تتح لي العلاج الصحيح والكافي. تركنا الحدث وانتقلنا الى منطقة ادونيس فارتدت المدرسة الفينيقية في انطلياس، الا ان الصعوبات فيها باتت اكبر بكثير. اقترح علينا المسؤول في المدرسة، وكنت في العاشرة من عمري، الانتقال الى <ايراب>، مدرسة التدريب على السمع والنطق وانا أدين لها بالكثير.. بكل شيء.. بقيت فيها طوال اثني عشر عاماً أتدرب على برامج مختصة في اعادة التأهيل على السمع والنطق وحزت على البريفيه الخاصة بالمعهد. وصلت الى مكان جديد عليّ تماماً، مجموعة من الصبايا والشباب لا يسمعون ويعبّرون بين بعضهم البعض بالاشارات. بدأت بتعلم الابجدية الخاصة بالاشارات وكانت الامور صعبة في البداية. القيمون على المدرسة اهتموا بي كثيراً، ووجدوا فيّ <الصبي الوسيم والذكي> بحسب قولهم. الى التعليم الذي يتلقونه، يقوم الطلاب في هذه المدرسة بالعديد من النشاطات الفنية بينها حصص الرقص ومن حسن حظي (يقول بيار ضاحكاً) أنهن كنّ جميعهن من البنات وأنا الصبي الوحيد بينهن. كنت أسألهن مساعدتي على التركيز واتقان ما أقوم به. منذ صغري وأنا أهوى الرقص وأشاهده بشغف على التلفزيون من دون ان اسمع الموسيقى التي يجري الرقص عليها. للاسف، كنت قد تأخّرت في استخدام سماعة الأذن ولما وضعتها في حصة الرقص للمرة الاولى، سمعت موسيقى اغنية للفنان <مايكل جاكسون> ولم أعرف اسمه إلا لاحقاً. عشقت ما سمعته وكنت اعرف قليلاً جداً عن موسيقاه الا انني كنت أراه كثيراً على الشاشة.
الرحابنة وجبارة وكركلا..
ويمضي بيار قائلاً:
- رحت أكتشف أنواع الرقص المختلفة ، الباليه كلاسيك والجاز والمعاصر وبعض الرقص الشرقي. شجعتني استاذة الرقص في <ايراب> كثيراً ووجدت فيّ موهبة تستحق أن تنمو أكثر، فانتسبت الى معهد <ارابيسك> ورآني فيه الفنان أسامة الرحباني، فاختارني لأكون من ضمن الفرقة في عروض مسرحية <جبران والنبي>. وبقيت في <أرابيسك> حتى سنّ العشرين، وبعد ذلك، شاركت في <باليه لبنان> مع السيدة جورجيت جبارة وقدمت معها عرض<أبيض- اسود>. بعد <باليه لبنان>، دفعني فضولي الى مرافقة صديق لي الى فرقة <كركلا>. ذهلوني برقصهم فأجسادهم مثل <اليويو> وما يقدمونه جديد عليّ، بينها فنون الدبكة وغيرها. سألني عبد الحليم كركلا بحزم: أنت، ماذا تفعل هنا، اخرج الآن! فأجبته: أريد أن أرقص. سمح لي بالدخول وشاركت أيضاً في عروض لهم قدموها ما بين لبنان والأردن. بقيت معهم مدة سنتين. الرقص معهم صعب جداً.
ويكمل بيار بعد استراحة:
- بعد <كركلا>، اتجهت الى <مقامات دانس هاوس> مع عمر راجح الذي أثنى على رقصي وأنا أحببت جداً الرقص المعاصر وكنت عضواً مشاركاً في فرقة <تكوين>. في لبنان، لا يهتمون كثيراً بالرقص المعاصر. لقد هويته جداً وكانت لي فرص التدرّب والمشاركة رقصاً في صفوف عالمية في فرنسا ولبنان مع مصممي رقص بينهم <شلومي تويزر> و<ادموند روسو> ومارسيل سليمان و<اميلين كليد> و<لوك دنبري> و<مارلون باريوس> و<ايزابيل روكمورا> و<تييري سميتس> وغيرهم. ولقد دفعني شغفي بالرقص المعاصر الى تقديم عرض خاص بي في <مسرح المدينة> تحت عنوان <سالومي> ولي مع هذا العرض قصة.
ويخبرنا بيار:
- في اليوم الأخير وفي الدقيقة الاخيرة من العرض، انقطع بي الحبل الذي يحملني فوقعت على الأرض بقوة وأصيبت يدي اليمنى بأحد عشر كسراً. اعتقد الجمهور أن ذلك جاء في صلب العرض فراحوا يصفقون بشدة في حين كنت أتلوع من الوجع. نقلت على عجل الى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. كان من المفروض ان يكون <مسرح المدينة> ومن يقدم عروضه على خشبته قد جرى التأمين على حياتهم الأمر الذي لم يكن موجوداً للأسف وأنا أيضاً لم أملك المال. كلّفت العملية عشرة آلاف دولار أجرتها لي مستشفى الجامعة الاميركية على نفقتها وأنا أشكرها من قلبي على هذه المبادرة الطيبة منها.
يعتاش بيار حالياً مما يجنيه بعرق جبينه من تدريب في الرقص لمرتين في جامعة <بيروت العربية>. سبق ودرّس الرقص في مدرسة <القديس يوسف> في قرنة شهوان وقريباً سيكون في <مركز البترون لام النور> للمعوّقين حيث ستتعدى مهمته هذه المرّة الرقص الى أشغال يدوية وحرفية وغيرها.
اتمنى السفر..
لا يرفض بيار ابن الثالثة والثلاثين ربيعاً فكرة السفر من لبنان. بالاصل الكثيرون يعتقدون أنه أجنبيّ بسبب <اللوك> الذي يتمتع به وطريقة عيشه. فنظرة اللبناني لمن يعاني مشكلة ما ثقيلة ولا يمكن فهم حالة الشفقة التي تنتاب الجميع بحسب بيار. إن قيّد له الاختيار فإنه يعيش في فرنسا في «مرسيليا» تحديداً التي سبق له ان زارها مع <ليون> وقدم فيها عروضاً مميّزة جعلت اطفالاً وكباراً يعانون من البكم والصمم يتحلقون حوله ويتعلّمون منه. لما ذهب اليها قدم عرضه مع الاشارات المرادفة للغة العربية، فطلب اليه بعد نجاحه في العرض ان يقدمها بحسب اشارات الأبجدية الفرنسية فتعلمها في ظرف اسبوعين في معهد خاص وراح يكلم بها الفرنسيين الذين يعانون من الصمم والبكم بلغتهم.
يهتم بيار المرهف الحسّ باللياقة البدنية. ليس الراقص فقط بحاجة الى أن يتمتع بجسد نشيط متناسق بل الناس جميعهم. اللبنانيون برأيه لا يهتمون الا بـ<الكرش> ويأكلون كثيراً... يحب الرياضة والموسيقى وهو ليس كثير الانجذاب الى عوالم التواصل الاجتماعي من <فايسبوك> وغيرها. أفتح فقط بريدي الالكتروني ولا تهمني <الصور والبوزات>. لديّ العديد من الاصدقاء بعضهم في مثل حالتي، أما الغالبية فلا يعانون من مشاكل ونتواصل ونتفاهم تماماً، فأنا أقول لمن يتعرف بي عن مشكلتي ونتوصل الى طريقة تفاهم.
ماذا عن الحب في حياة بيار؟ السؤال لا ينتزع منه سوى ابتسامة مهما حاولنا التطفّل، أما ما يحبّه اليوم بشكل عام فهو خوض تجربة التمثيل. في قلبه معزة كبيرة للممثل جوزيف بو نصار الذي يعرفه ويحترمه جداً. الى جانب التمثيل، يتملّكه اليوم حلمان: الاول تقديم <سولو> راقص له وحده يحضّر مضمونه وخطواته بسرّية تامة، والثاني تكوين فرقة راقصة تضم الى راقصين عاديين راقصين من الصم والبكم يشرف عليها بيار ويوصلها الى مراتب متقدمة جداً. التصميم لها موجود ولا ينقصها سوى التمويل وايجاد صالة مناسبة. أما ما يأمله (يائساً) فهو دعم رسمي في هذا المجال عل الحلم يتحقق مع تمن صغير آخر وهو ان لا يدرج من يعانون من حالة الصمم والبكم في خانة المعوقين في وزارة الشؤون الاجتماعية بل ان تكون لهم خانة خاصة بهم.