لم يعد الشغل الشاغل لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون الاستحقاق الرئاسي كما كان قبل أسابيع، بل متابعة الطرح الذي أعلنه بوجوب إجراء <استطلاع رأي> (وليس استفتاء) بين المسيحيين لتحديد هوية المرشح <القوي> الذي يفترض أن ينتخب رئيساً للجمهورية في مجلس النواب. فالعماد عون يعتبر أن هذا الاستطلاع سيجسد خيارات المجتمع المسيحي <بحرية وموضوعية> بحيث ينسجم <الشريك المسلم> مع إرادة المسيحيين، فتكون إذ ذاك <المشاركة الوطنية> التي يتطلع إليها <الجنرال>، ويتكرس شعار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي <شراكة ومحبة>. وتبعاً لذلك، ستتكثف الاتصالات بين بكركي والرابية ومعراب وبنشعي لتوضيح ما يفترض توضيحه حول اقتراح استطلاع الرأي، لاسيما وانه كان الاتفاق الأبرز الذي انبثق من لقاء الرابية الذي جمع العماد ميشال عون برئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، وهو اعتُمد تفادياً لتحديد موقف مسبق من الاستحقاق الرئاسي قبل العودة الى القاعدة المسيحية.
عون وجعجع اتفقا
يقول بعض الذين تابعوا مسار اقتراح استطلاع الرأي ان الدكتور جعجع وجد فيه مخرجاً لعدم الالتزام المسبق في لقائه مع العماد عون بالملف الرئاسي لأنه كان يخشى ان يطرح <الجنرال> بوضوح الموضوع الرئاسي مع زائره فتحصل <خربطة> للقاء.. إلا ان العماد عون الذي كان قد سبق أن طرح فكرة الاستفتاء في الشارع المسيحي لم يرد أن يحرج ضيفه وهو الذي كان ينتظر ولادة بيان <إعلان النيات> تتويجاً لحوار امتد شهوراً بين ممثله النائب ابراهيم كنعان وممثل <الحكيم> ملحم رياشي، فعمد الى <تطوير> فكرة الاستفتاء من خلال تحويلها الى <استطلاع رأي> واسع لمعرفة خيار المسيحيين في موضوع الرئاسة، على ألا يقتصر ذلك على اتفاق بينه وبين الدكتور جعجع، بل يشمل مرجعيات معينة أيضاً وفي مقدمها بكركي، حتى يضع الجميع أمام <مسؤولياتهم> وتسقط الاتهامات التي توجه إليه بأنه <يعطل> إنجاز الاستحقاق الرئاسي خدمة لأهداف حليفه حزب الله بإطلاق <المؤتمر التأسيسي> الذي يفترض ان يعيد النظر في اتفاق الطائف عملياً وان لم يُعلن ذلك رسمياً. ورغم ان استطلاع الرأي ليس عملاً دستورياً مثل انتخاب الرئيس في مجلس النواب، فإن العماد عون أراد من خلاله الدفع في اتجاه احترام خيار المسيحيين إذا كانت <الشراكة الوطنية> التي ينادي بها جميع اللبنانيين حقيقة قائمة وينبغي أن تستمر.
ويقول مطلعون على <اقتراح الاستطلاع> ان العماد عون يريد تسجيل سابقة في الانتخابات الرئاسية تصبح تقليداً معتمداً لاحقاً تتمثل في <تكريس> رأي المسيحيين في المعادلة، وهو تخلى عن فكرة <الاستفتاء> بعدما تيقن من خلال دراسات قانونية رفعت إليه ان <الاستفتاء> على النحو الذي طرحه يمكن أن يشكل مخالفة للدستور، وهو لا يريد أن يُسجل عليه انه خالف الدستور، في حين ان <استطلاع الرأي> لا يجافي الدستور من جهة، وهو أمر متعارف عليه دولياً ويعتبر مظهراً من مظاهر الحياة الديموقراطية، وتم استخدامه في دول كثيرة لمعرفة توجهات المواطنين في مسائل حيوية ومفصلية. إضافة الى أن <الاستطلاع> لا <يزعج> البطريرك الراعي الذي تحدث في عظة له قبل أيام عن الحاجة الى <مخرج دستوري وديموقراطي>. كذلك فإن البطريرك استند الى ردود الفعل التي ظهرت في الشارع المسيحي على ورقة <إعلان النيات> بين <القوات> والعونيين، مشيراً بذلك الى الأرقام التي أوردتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول ارتفاع نسبة الارتياح لدى المجتمع المسيحي من تلاقي عون - جعجع.
استطلاع البطريرك عمره سنة!
وفي هذا السياق، تحدثت مصادر مطلعة عن انه قد سبق للبطريرك ان أعلن في مقابلة تلفزيونية مع برنامج <كلام الناس> عبر المؤسسة اللبنانية للإرسال عشية الاحتفال بذكرى ارتقائه السدة البطريركية في شهر آذار/ مارس أنه أجرى <استطلاع رأي> بين المسيحيين لتحديد المرشح الأقوى للرئاسة الأولى وانه سيعلن اسم هذا المرشح إذا أخفق مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد، بحيث يدرك النواب و<الشركاء> في الوطن توجهات المسيحيين ويعملون على تحقيقها من خلال الاقتراع في مجلس النواب. وأضاف البطريرك في حينه (وكان العهد الرئاسي لم ينتهِ بعد ولم توجه الدعوة الى جلسة انتخاب الرئيس) ان حصيلة استطلاع الرأي الذي أجراه تحدد بوضوح خيار المسيحيين ولن يكون من السهل تجاهلها يومئذٍ. تضيف المصادر نفسها: ارتفعت أصوات مسيحية تتحفظ على مبادرة البطريرك وصولاً الى حد <التشكيك> في المعايير التي اعتمدت في الاستطلاع، على أساس ان هذه المعايير يمكن أن تشكل <توجيهاً> للمشاركين في الاستطلاع يفقده صدقيته وموضوعيته. ونتيجة ذلك طوى البطريرك الفكرة لكنه كان يذكّر بها من حين الى آخر الى أن تعثرت عملية انتخاب الرئيس العتيد. ثم تعقدت من دون ان يقدم البطريرك الراعي على إعلان حصيلة <الاستطلاع> كما كان قد وعد في أكثر من مناسبة. وأعطيت لهذا الامتناع البطريركي تفسيرات متعددة التقى بعضها على فرضية <عدم موافقته> على حصيلة الاستطلاع، وبالتالي على هوية المرشح الذي نال أكبر عدد من أصوات المشاركين.
وتروي مصادر متابعة لمسار طرح العماد عون ان <الجنرال> لم ينسَ <استطلاع البطريرك>، لاسيما وانه نال فيه الحصة الأكبر، لكنه لم يشأ الخوض في تفاصيل الأرقام (التي قيل انه حصل عليها) وآثر ان يطرح الفكرة من جديد على ان تكون مستندة الى موافقة مسيحية شاملة (أو شبه شاملة) والى <بركة> البطريرك، وهو ما بحثه بالتفصيل مع الدكتور جعجع الذي لم يعارض الفكرة، خلافاً للرئيس أمين الجميل الذي بقي خارج الطرح، لا بل أطلق في اتجاهه ملاحظات دلت على رفضه السير باقتراح عون داعياً للنزول الى مجلس النواب وانتخاب الرئيس وعدم <تمييع> الاستحقاق الرئاسي من خلال <أفكار ومقترحات لا تتناسب مع الواقع السياسي الراهن>.
في المقابل، فإن مصادر في القوات اللبنانية أكدت لـ<الأفكار> ان الدكتور جعجع <ماشي> بالاستطلاع وهو سيحترم نتيجته، لأنه يمكن ان يشكل مخرجاً من عنق الزجاجة الذي وصل إليه الاستحقاق الرئاسي، ولا بد استطراداً من خطوة ما تخرجه من حالة <الكربجة> التي يعيش فيها مع بداية السنة الثانية للشغور الرئاسي. إضافة الى ذلك، فإن <الحكيم> يرى، مثل <الجنرال>، ان واقع مجلس النواب بعد التمديدين اللذين حصلا خلال سنتين، لم يعد كما كان قبل ذلك علماً ان هذا المجلس لم ينتخب على أساس قانون انتخابي ميثاقي عادل ومنصف ومتزن. من هنا، فإن فكرة الاستطلاع يمكن ان تنقل بأمانة أكثر <نبض> الشارع المسيحي، فيصبح من السهل الولوج الى الاستحقاق الرئاسي وفقاً لما يريده المسيحيون طالما ان العرف المعتمد يقضي بأن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، خصوصاً ان رئيس مجلس النواب هو ثمرة اتفاق بين <الثنائية الشيعية> التي يجسدها تحالف حركة <أمل> وحزب الله، ورئيس الحكومة هو خيار الأكثرية السنية، سواء من خلال زعيمها المباشر او من خلال من يسميه لتحمل هذه المسؤولية.
صيغ قيد التداول
إلا أن تجاوب <القوات> و<المردة> مع الاقتراح العوني لا يعني انه بات حقيقة قائمة لاسيما وان حزب الكتائب أبدى معارضة واضحة، وكذلك فريق <النواب المستقلين> في 14 آذار، ما يعني أن لا إجماع مسيحياً بعد حول هذه المسألة، ما يعطي للبطريرك الراعي دوراً كبيراً وأساسياً في إقناع المسيحيين المعترضين او المترددين بالسير مع فكرة الاستطلاع، لاسيما وانه لجأ هو شخصياً الى اعتماد استطلاع مماثل قبيل بدء المهلة الدستورية للاستحقاق الرئاسي لتكوين فكرة عن توجهات الشارع المسيحي. وأظهرت الإشارات الأولية المنبعثة من بكركي إيجابية في مقاربة موضوع الاستطلاع إذا كان يساعد على ملء الشغور الرئاسي الذي هو الهاجس الأبرز لدى البطريرك الراعي الذي يعتبر ان نجاح الاستطلاع يكمن في السير به من المسيحيين للالتزام بنتائجه ومن الشركاء المسلمين للتجاوب مع رغبة المسيحيين.. إذا كانت موحدة. ولعل ما يدفع في هذا الاتجاه رفض البطريرك تحميل المسيحيين وحدهم مسؤولية الفراغ الرئاسي لأن رئاسة الجمهورية ليست استحقاقاً مارونياً فقط، بل هي استحقاق وطني، ما يعني ضرورة الاتفاق المسبق على السير بحصيلة أي استطلاع رأي يتم داخل البيت المسيحي.
وفي انتظار ان يتبلور مسار الاقتراح العوني بإجراء استطلاع رأي لدى المسيحيين، فإن مصادر معنية أكدت لـ<الأفكار> ان النقاش قائم حول الآلية الواجب اعتمادها في إجراء الاستطلاع مع وجود أكثر من صيغة لذلك، أبرزها أن يشمل الاستطلاع عينة واسعة من المسيحيين بمشاركة أكثر من جهة منظمة وأكثر من مؤسسة استطلاع يوافق المعنيون على اعتمادها، فيما تبرز صيغة أخرى تقضي باعتماد ورقة استطلاع مفتوحة تترك للمستطلعين تحديد الأسماء التي يؤيدونها لرئاسة الجمهورية. وتورد صيغة ثالثة بأن يتم وضع أسماء لمرشحين مطروحين تتناولهم وسائل الإعلام عادة ليصار الى اختيار أحدهم. أما النقطة الأبرز التي تشير إليها الآلية التي يُعمل على اعتمادها، فهي ضرورة تعهد جميع المعنيين بالاستحقاق الرئاسي من المسيحيين بتأييد من يحصل على أعلى نسبة من التأييد المسيحي بحيث يكون <المرشح الوحيد> في مجلس النواب، على غرار ما حصل في مؤتمر الدوحة الذي تم فيه الاتفاق على اسم قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان. إلا ان ثمة من ينحو أكثر صوب صيغة تسمح باختيار مرشحين اثنين يحوزان على أعلى نسبة من التأييد المسيحي، فيذهبان الى مجلس النـــــواب ومع كل منهمــــا التـــــزام حلفائـــــه بعــــدم الاقتراع لأي اسم ثالث. وتصطدم هذه الصيغة بعقبة الدســـتور الذي لا يمنع أي شخص من الترشح، كمــــا لا يفــــرض على أي نائب انتخاب مرشح محدد.
من هنا، تبرز أهمية التفاهم المسبق على التزام الجميع قواعد الصيغة التي ستعتمد وضمان تجاوب الشركاء المسلمين معها، إضافة الى الأطراف المسيحيين وثمة من يقترح في هذا السياق ان يلتزم المرشحان بأن ينسحب من ينال النسبة الأقل من اقتراع النواب في دورة أولى لمصلحة من نال النسبة الأعلى فيكون الرئيس بإجماع أصوات النواب الى أي اتجاه انتموا. وتتجه الأنظار الى بكركي لتأمين التفاهم المسبق على التزام نتائج الصيغة التي ستعتمد. فهل تتجاوب بكركي مع هذا الاقتراح، أم يظل البطريرك يشكو من الفراغ في الرئاسة الاولى من دون المبادرة الى أي خطوة تؤدي الى دخول سيد القصر الى قصره؟!