إن زراعة الأعضاء هي علاج حديث هدفه تبديل الأعضاء أو الانسجة المصابة بأعضاء أو أنسجة سليمة من قسم الى قسم آخر. وعمليات زرع الأعضاء التي يتم القيام بها في يومنا هذا هي: زرع الكلى، الكبد، البنكرياس، الامعاء، القلب، الرئتان، النخاع العظمي، خلايا البنكرياس، الجلد، القرنية والعظام... وزرع الأعضاء عملية معقدة وصعبة جداً، ولكنها تعتبر افضل طريقة لعلاج الفشل الوظيفي لعضو معين. والعلاج بواسطة الزرع يزيد من فترة بقاء المريض على قيد الحياة كما يحسن من جودة حياته.
ويعد طب زراعة الأعضاء واحداً من اكثر مجالات الطب الحديث صعوبة وتعقيداً. وتتمثل بعض ابرز جوانب الادارة الطبية لعمليات زراعة الأعضاء في مشكلات رفض الجسم للعضو المزروع، وفيها تكون لدى الجسم استجابة مناعية مضادة للعضو المزروع، مما قد يؤدي الى فشل عملية زراعته في الجسم، ومن ثم ضرورة ازالة العضو المزروع من جسد المتلقي على الفور. وفي هذا الشأن، يجب تخفيض عدد حالات الرفض قدر الامكان وذلك من خلال الاختبارات المتعلقة بمقاومة الامصال لتحديد المتلقي الأمثل لكل متبرع، بالاضافة الى استخدام الأدوية المثبطة للمناعة. كما تعاني معظم الدول من عجز في عدد الأعضاء المتوافرة التي يمكن استخدامها في عمليات زراعة الأعضاء. غالباً ما تتمتع الدول بتوافر هيئات رسمية تتمثل مهمتها في ادارة عملية تحديد الشروط الواجب توافرها في المتبرعين، الى جانب ترتيب اولوية المتلقين للأعضاء المتوافرة.
ونذكر هنا ان فكرة نقل الأعضاء داعبت خيال البشر منذ فترة طويلة نسبياً، ونجحت تلك الفكرة في ظل توافر مهارات جراحية ظهرت قبل فترة طويلة من ادراك مفهوم معدلات البقاء على قيد الحياة بعد الجراحة. وكانت المشاكل الرئيسية وثيقة الصلة بهذا الموضوع، وما زالت وربما ستظل هي فكرة رفض الجسم للعضو المزروع، فضلاً عن الآثار الجانبية لمحاولة تفادي هذا الرفض وخصوصاً مشكلتي العدوى واعتلال الكلى.
والجدير بالذكر ان هناك تقارير عدة مشكوك في صحتها تبين ان عمليات زراعة أعضاء أجريت قبل عصر الانجازات والتطورات العلمية اللازمة لاجراء مثل هذه العمليات على ارض الواقع. وتبيّن هذه التقارير ان الطبيب الصيني <بيان شياو> قد اجرى عملية تبادل قلبين بين رجل يتمتع بشخصية قوية ولكنه ضعيف الارادة ورجل ذي شخصية ضعيفة ولكنه قوي الشكيمة، وذلك في محاولة منه لتحقيق التوازن عند كل رجل.
تعتبر الكتابات الاكثر قابلية للتصديق وثيقة الصلة بعمليات زراعة الأعضاء التي اجريت في عصور مبكرة بعمليات زراعة الجلد. وتبين اقرب الكتابات الى المنطق ان الجراح الهندي <سوشروتا> الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد اجرى عملية زارعة جلد باستخدام الطعم الذاتي في جراحة لتجميل الأنف، غير انه لم يوثق نجاح أو فشل هذه العمليات. وبعد مضي قرون عدة، اجرى الجراح الايطالي <غاسبارو تاغلياكوزي> عمليات ناجحة لزراعة الجلد بطريقة الترقيع الذاتي، وقد فشل في الوقت نفسه في عمليات الطعم المغاير مما يعد اول حالة في التاريخ لرفض الجسم للعضو المزروع قبل قرون من ادراك حقيقة هذا الأمر. وقد اجريت اول عملية ناجحة لزراعة قرنية في العام 1837 في نموذج لغزال، بينما اجرى <ادوارد زيرم> اول عملية ناجحة لزراعة قرنية عين لانسان، والتي يُطلق عليها عملية ترقيع القرنية في جمهورية التشيك عام 1905.
وكان لكل من الجراح الفرنسي <اليكسيس كاريل> و<تشارلز جوثري> الريادة في ابتكار التقنية الجراحية لزراعة الأعضاء من خلال عمليات زراعة الشرايين أو الأوردة وذلك في بدايات القرن العشرين.
أدت عمليات توصيل الأوعية الدموية الناجحة، الى جانب تقنيات الخياطة والجراحة الحديثة الى تمهيد الطريق لجراحات زراعة الأعضاء التي اجريت لاحقاً واسهم ذلك في حصول <كاريل> خلال العام 1912 على جائزة <نوبل> في الفيزيولوجيا أو الطب. وبدءاً من العام 1902، شرع <كاريل> في اجراء عمليات تجريبية لزراعة الأعضاء على الكلاب. ومع نجاحه في عمليات نقل الكلى والقلب والطحال جراحياً، كان <كاريل> من اوائل من تنبهوا الى مشكلة رفض الجسم للعضو المزروع، والتي لا تزال مستعصية على الحل منذ عقود. وقد اجريت اول محاولة لزراعة أعضاء من احد المتبرعين المتوفين على يد الجراح الاوكراني <يو يو فورونوي> في ثلاثينات القرن العشرين، ولكن رفض جسد المتلقي للعضو المنقول ادى الى فشل العملية برمتها. وتجدر الاشارة هنا الى ان اول عملية ناجحة لزراعة عضو قد اجراها كل من الجراحين <جوزف موراي> و<جي هارتويل هاريسون> الحائز شهادة الدكتوراة في الطب، والتي تم فيها اجراء عملية زراعة كلى بين توأمين متماثلين في العام 1954، ويرجع نجاح هذه العملية الى عدم الحاجة الى تثبيط المناعة في حالات التوائم المتطابقة وراثياً.
ان الكلية عضو مهم جداً كبقية أعضاء الجسم وسلامتها مطلب اساسي لاستمرارية الحياة واذا حدث ان توقفت الكليتان عن العمل، فستنتهي حياة المريض بعد ايام قليلة ما لم يتم تعويضها بالغسيل الكلوي أو زراعة عضو بديل. ان الوظيفة الرئيسية للكلية هي تكوين البول بكميات مناسبة تكفي لتنقية الدم في جسم الانسان واستخراج كل ما هو ضار بوظائفه الفيزيولوجية الأساسية. واذا توقفت احدى الكليتين عن العمل بسبب المرض أو الاصابة أو عن طريق الاستئصال الجراحي يعوض الجسم البشري عن ذلك بتضخيم الكلية المتبقية وزيادة انسجتها وكفاءتها حتى تصبح قادرة على القيام بكمية العمل نفسه الذي تقوم به الكليتان مجتمعتين، اما اذا نقص الجزء الصالح الفعال من نسيج الكلية عن ما مقداره 25 في المئة من حجم الكلية، فان الجسم كله يمرض وتبدأ عليه اعراض الفشل الكلوي. يذكر ان حوالى 50 - 60 شخصاً من كل مليون شخص في العالم يصابون بالفشل الكلوي المزمن الذي يحتاج الى عملية الغسيل الكلوي أو عملية زراعة الكلى.
متبرع سليم ومتبرع مريض
وتعتبر زراعة الكلى هي الحل الناجح الوحيد لمرضى الفشل الكلوي النهائي وفيها يتم نقل كلية سليمة من متبرع سليم الى متلقٍ توقفت كليتاه عن العمل نهائياً لتقوم مقام الكلى المصابة بالقصور أو الفشل. اما المتبرع فهو الشخص الذي يُؤخذ عضو منه مثل الكلية وتنقل الى شخص آخر خلال عملية جراحية. وقد بدأت المحاولات الأولى لزرع الكلية منذ بداية القرن العشرين لكنها كانت جميعها محاولات لم يكتب لها النجاح وذلك نتيجة لرفض الجسم للكلية المزروعة الى ان تم البدء في استخدام الأدوية والتي تقلل من رفض الكلية المزروعة في بداية الستينات من القرن الماضي. اذ نجحت اول عملية زرع الكلى في العالم في العام 1962 بواسطة الطبيب الفرنسي <جان هامبورغير> مما افسح المجال امام اجراء عمليات اخرى لزرع الكلى... ففي كل بلدان العالم، نلاحظ التزايد المستمر في عدد المصابين بالقصور الكلوي المزمن، مثلاً في فرنسا هناك حوالى 25000 مريض يخضعون للغسيل الكلوي الاصطناعي، اذاً يسجل في هذا البلد سنوياً ما بين 4800 الى 6000 حالة قصور كلوي مزمن جديدة. وهناك 2200 مريض مسجل في قائمة الانتظار، ينتظرون الحصول على كلية سنوياً. الملاحظ ان عدد المتبرعين <الواهبين> في فرنسا قليل جداً ( 4 في المئة ) مقارنـــــة بالـــــدول الاســــــكندينافية ( 50 في المئـــــة )، الولايات المتحــــــدة ( 25 في المئـــة)، لذلك فإن الكثير من المرضى يستفيدون من الكلى المستأصلة والمنقولة من الاشخاص المتوفين.
وتجدر الاشارة الى ان الانسان يستطيع العيش بكلية واحدة ويتبرع بالأخرى، ومن المهم معرفة ان التبرع بالكلية لا يسبب الفشل الكلوي أو الاصابة بالأمراض في الكلية الاخرى الا اذا كان الشخص مصاباً بأمراض اخرى يمكن ان تؤثر على الكلى وأعضاء الجسم الاخرى مثل داء السكري أو ارتفاع ضغط الدم، والمصابون بهذه الأمراض غير مخولين للتبرع بأعضائهم وهم احياء. كما انه يوجد بين كل مئة شخص اثنان الى اربعة اشخاص يولدون بكلية واحدة ويعيشون بشكل طبيعي.
الدكتور أبو زينب والزرع
فما هي الشروط المطلوبة لاجراء عملية زرع الكلى سواء عند المتبرع أو الواهب والمتلقي؟ وهل تؤثر عملية التبرع على صحة الواهب؟ والى اي مدى تساعد عملية زرع الكلى في اطالة حياة المتلقي؟ وغيرها من الاسئلة طرحتها <الافكار> على الدكتور هلال ابو زينب رئيس قسم الكلى داخل مستشفى حمود في صيدا وهو من الأطباء المسؤولين عن زرع الكلى في المستشفى وسألناه اولاً عن الشروط المطلوبة لدى المتبرع أو الواهب قبل نقل العضو المزروع الى المتلقي فيقول:
- في البداية، ندرس حالة المريض والأسباب التي ادت الى حدوث قصور في الكلى، ونخضعه للفحص العام لمعرفة وضعه من جميع النواحي، واذا كان بحاجة الى اجراء عملية
زرع الكلى، وطبعاً نقوم بهذه الاجراءات للواهب والمتلقي معاً اذ انه من الضروري درس وضع الواهب لكي نكون متأكدين انه لا يشكو من اي عارض صحي يعيق نجاح عملية الزرع، اذ من المهم ان يتمتع الواهب بالصحة والعافية وان يكون غير مصاب بأمراض مستعصية مثل الالتهابات وامراض القلب أو ارتفاع ضغط الدم اوالسكري. كما انه يجب ان يكون الواهب احد اقارب المتلقي اي والده أو والدته أو احد اخوته أو قريب له. واذا كان الواهب يعاني من مشكلة صحية لا نجري عملية الزرع لأنه يجب ان يكون خالياً من الامراض وبصحة جيدة. والاهم يجب ان نتأكد ان الواهب يتمتع بقواه العقلية ولا يشكو من اي مشكلة عقلية أو نفسية، اذ يجب ان يكون راشداً وسنه تتجاوز الواحدة والعشرين وبالتالي يكون قد اتخذ قراره بوهب احد اعضائه وهو بكامل رشده وقواه العقلية، لانه اذا كان مجبراً على القيام بذلك أو ان والده أو والدته قد دفعاه لوهب عضو من اعضائه، فلن نخضعه للعملية. اذاً نأخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار وأن الواهب سليم من الناحية الجسدية والعقلية والنفسية.
معاينة المتلقي أولاً
ــ وماذا عن المتلقي ؟
- عادة المتلقي لا تحدث معه مشكلة اذا تمت دراسة الملف جيداً من ناحية الواهب، ولكن ايضاً ندرس وضع المتلقي، فمثلاً اذا كانت لديه عوارض مرض ما نعالجه قبل ان نخضعه لعملية زرع الكلى، اذ نخضعه لفحص الصورة، فاذا تبين انه مصاب بمرض ما أو ورم أو مشكلة في الرئة، فلا نجري العملية بل نقوم بمعالجته، من ثم نجري عملية الزرع. طبعاً كما شرحت ان دراسة وضع المتبرع أو الواهب امر ضروري، فاذا لم تتوافر الشروط المطلوبة التي ذكرتها في سياق الحديث، لا نقبل بذلك ونطلب من الاهل البحث عن واهب أو متبرع آخر لأنه عندما تتوافر الشروط كلها، لن تحدث مضاعفات أو مشاكل عند المتلقي والواهب على حد سواء، فهناك أناس يعيشون لسنوات طويلة بعد خضوعهم لعملية زرع الكلى اذا جرت الامور كما يجب.
ــ وماذا عن عدد عمليات زرع الأعضاء التي تجريها في المستشفى؟
- لقد بدأ مستشفى حمود الجامعي بعمليات زرع الأعضاء في العام 2003 ، اذ كان اول مركز في لبنان يجري هذه العمليات، واكبر عدد من عمليات زرع الأعضاء تجري في مستشفى حمود الجامعي اذ نجري ما بين 30 و40 عملية زرع الأعضاء في السنة، فعدد عمليات زرع الأعضاء في لبنان يصل الى 60 عملية ومستشفى حمود يجري حوالى 40 عملية في السنة الواحدة، وهذا امر مهم اذ يعتبر هذا المستشفى من اكبر مراكز غسيل الكلى في لبنان، والحمد لله النتائج جيدة وكلفة العملية غير مرتفعة مقارنة بالمستشفيات الاخرى، علماً انه يتوافر فيه كل التقنيات المتطورة والحديثة وهناك طاقم طبي مميز. وطبعاً بعد اجراء عملية الزرع، نتابع وضع المتلقي في الشهر الاول لنرى ما اذا كان جسمه يرفض العضو أو يتجاوب معه. بالنسبة الي كطبيب مسؤول عن زرع الكلى في المستشفى، اقول بتحويل المريض الى الجراحين بعدما ندرس وضعه من جميع النواحي لكي تتم الامور بالشكل الصحيح ووفقاً للشروط وعندها يعيش المتلقي أكثر من 15 سنة، اذ هناك اشخاص عاشوا حوالى 25 سنة بعد خضوعهم لعملية زرع الكلى نظراً لتوافر الشروط والتقيد بها.