خلال أحد الاجتماعات التي عقدها المجلس الأعلى للدفاع، طلب أحد رؤساء الأجهزة الأمنية من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الإذن بالكلام من خارج موضوع النقاش حول تداعيات "كورونا"، ليقول إن لدى جهازه معلومات وتقارير عن تحضيرات قائمة لإحداث اعمال شغب في طرابلس تحت ستار الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد، وإن مجموعات من داخل طرابلس وخارجها تتحضر للقيام بتظاهرات تنتهي باستهداف المباني الرسمية والمنشآت التربوية، إضافة الى "محاصرة " منازل نواب المدينة وفعاليتها، وإن اعمال الشغب لن تستثني القوى الأمنية التي ستكون منتشرة لحماية هذه التظاهرات. يومها، اخذ المجلس الأعلى للدفاع "علماً" بكلام المسؤول الأمني من دون ان يتخذ أي اجراء يتناسب وحجم المعطيات التي ادلى بها هذا المسؤول الذي توسع في الحديث عن الجهات التي تقف وراء هذه التحضيرات وبينها مجموعات من خارج طرابلس على تواصل مع جهة خارجية تتحرك منذ بداية الحرب السورية، في منطقة الشمال عموماً، وفي عكار وطرابلس خصوصاً تحت ستار الخدمات الاجتماعية والتقديمات الصحية والتربوية.
في الأسبوع الماضي انفجر الوضع في طرابلس ووقع المحظور عندما اندست مجموعات مخربة في التظاهرات الشعبية التي انطلقت في ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور) احتجاجاً على الأوضاع الاجتماعية والصحية والاقفال العام في البلاد ومعاناة الفقراء والمحتاجين في المدينة. كانت الأوضاع طبيعية، صراخ وهتافات، وفجأة انبرى عدد من المتظاهرين في رشق القوى الأمنية بالحجارة ثم تطور الأمر الى قنابل مولوتوف وتقدمت مجموعات في اتجاه سراي المدينة في محاولة لاقتحامها بعد اضرام النار في مقر الحرس. ردت القوى الأمنية وساد هرج ومرج، واحتدم الموقف واضطرت عناصر الامن الى اطلاق النار إرهاباً لابعاد الشبان عن السرايا حيث أصيب احد المتظاهرين (عمر فاروق طيبا) وما لبث ان فارق الحياة. في اليوم التالي، وبعد تشييع الشاب ، احتدم الموقف مجدداً وتحولت التظاهرة التي انطلقت استنكاراً لمقتله من سلمية الى عنفية بعدما تسلل اليها شبان معظمهم من خارج طرابلس، قاموا بأعمال شغب محاولين تكرار اقتحام السراي.
ولما تعذر عليهم ذلك، اتجهوا صوب المبنى الاثري لبلدية طرابلس واحرقوه، ومبنى الأوقاف الإسلامية، ثم جامعة العزم وغيرها من المنشآت العامة والخاصة في مشهد غير مسبوق في عاصمة الشمال.
من الطبيعي ان تلاقي هذه الاعمال ردود فعل شعبية مستاءة انعكست من خلال المواقف التي صدرت في اليوم التالي على احراق مبنى البلدية عن فعاليات المدينة وثوارها الذين نفوا أي علاقة لهم بما حصل من اعمال تخريب وتكسير وتدمير واحراق استهدفت مدينتهم، ودعوا الى التمييز بين الفقراء والمعوزين الذين تظاهروا مطالبين بلقمة عيشهم، وبين المخربين الذين شوهوا التحرك العفوي للناس المقهورين. الا ان هذه الاحداث اثارت ردود فعل وتساؤلات حول دور القوى الأمنية التي لم تمنع المخربين من احراق البلدية واستهداف المواقع الأخرى، حتى بدت المدينة وكأنها خالية من أي وجود امني يحمي مصالح الناس وممتلكاتهم. وربط البعض بين هذا الغياب غير المبرر وبين "رسائل" سياسية وجهتها جهات محددة رداً على التأخير في تشكيل الحكومة العتيدة، فيما اعتبر آخرون ان ثمة من يقف وراء هذه المجموعات المخربة لاستهداف الرئيس المكلف سعد الحريري، وكذلك رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وغيرهما من المسؤولين السياسيين.
استغلال الفقر والجوع
[caption id="attachment_85434" align="alignleft" width="444"] المواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية في طرابلس.,[/caption]يقول مرجع امني كبير إن ما حصل في طرابلس لا يرتبط بموضوع تشكيل الحكومة حصراً، ولا يمكن وضعه في خانة واحدة وبالتالي لا يمكن تحميل مسؤولية الوقوف وراء الاحداث الأخيرة لجهة واحدة أيضاً. وأشار الى ان مجموعة كاملة من الأسباب المتراكمة والمتداخلة أدت الى هذه النتيجة الكارثية، حيث تداخلت حالات الفقر والعوز وتفشي البطالة مع اجندات استخبارية مشبوهة، ومع رسائل وضغوط سياسية نارية متبادلة. وأوضح ان نسبة العاطلين عن العمل باتت مرتفعة جداً في كل لبنان كما هو معروف، وهي تحتل أرقاماً قياسية مخيفة في مدينة طرابلس وقرى وبلدات عكار، وكامل محافظة الشمال، حيث باتت تزيد على 60 في المئة بمعدل عام، ناهيك عن تراجع القدرة الشرائية لمن يعملون في مقابل أجور متدنية جداً، الى ما دون خط الفقر، بحيث ان دخلهم اليومي او الأسبوعي لا يكفي حتى لتأمين شراء قوتهم من مآكل ومشرب، وتابع ان جزءاً من المحتجين الذين ينزلون كل ليلة الى شوارع طرابلس هم من الفقراء ومن العاطلين عن العمل، والذين لا خلفية سياسية لتحركاتهم، سوى المطالبة بالحد الأدنى من متطلبات الحياة،
وقال ان الحجر الالزامي جاء بمثابة النقطة التي افاضت كوب الغضب، لأن اغلبية كبيرة من الطبقة المتواضعة الدخل في طرابلس تعيش من عملها اليومي في مهن متنقلة تستخدم فيها عربات متحركة او اكشاك مصنوعة من الخشب والتنك. الخ، وهي تأثرت سلباً من إجراءات الاغلاق، الامر الذي فجر غضبها المكبوت.
وكشف المرجع ان اعمال الشغب الخطيرة التي حدثت لم تتم على يد فئة الفقراء، ولو ان قلة من العاطلين عن العمل ومن المراهقين المغرر بهم تورطوا بها، بدافع الحماسة والتاثير النفسي الضاغط الا ان ما حصل من شغب ومن تدمير منظم، قامت به مجموعات تعمل بأجندات وبخلفيات سياسية وبتوجيهات استخبارية من وراء الكواليس. والدليل الأبرز على هذا الامر، هو وصول مجموعات مشبوهة من خارج طرابلس، وانضمامها الى مثيري الشغب داخل المدينة، علماً ان هؤلاء لم يتحركوا عشوائياً، بل وفق خطط مدروسة سلفاً، بحيث تنقلوا ضمن مجموعات من مكان الى آخر، وكانوا يغادرون قبل وصول القوى الأمنية. و من بين الأسباب التي اكدت تورط أجهزة استخبارية مشبوهة، تحرك مجموعات تتمتع بخبرة امنية على الأرض، يرجح ان من بينها عناصر كانت تشارك في العمليات القتالية في السنوات الماضية بين باب التبانة وجبل محسن، وهي قامت برمي قنابل حربية على القوى الأمنية، وقامت أيضاً
[caption id="attachment_85433" align="alignleft" width="426"] الأضرار في سراي طرابلس.[/caption]بتحضير قنابل مولوتوف وبرميها بشكل محترف أيضاً. وأشار الى انه في ظل التراجع الكبير على مستوى شعبية ونفوذ مختلف القوى والتيارات الحزبية في لبنان عموماً، وفي طرابلس وعكار بالتحديد، تأثرت شرائح واسعة من العاطلين عن العمل والفقراء بحملات التعبئة والاستمالة التي تمت خلال الأشهر القليلة الماضية من قبل أجهزة استخبارية خارجية، منها الاستخبارات التركية، ومن قبل شخصيات من الصف الثالث غير معروفة سوى في بلدات محددة من محافظة عكار، وفي شوارع وأزقة محددة داخل طرابلس وهذه الجهات الطارئة على المنطقة الشمالية، باتت قادرة على تقديم اعانات اجتماعية ومساعدات مادية ولو محدودة، لكن كافية لاستمالة الكثيرين. وكشف ان اكثر من جهة سياسية، من داخل لبنان ومن خارجه، تعمل على تتبع هذه المفاتيح وعلى محاولة استمالتها، لتوجيه رسائل سياسية نارية متبادلة وفقاً لاجندات ولأهداف مختلفة، وحتى متضاربة في بعض الأحيان.
وحذر المرجع الأمني من ان اعمال الشغب ستستمر في طرابلس، وهي قد تتوسع لتشمل مناطق أخرى عدة في لبنان، ما لم تسارع القوى الأمنية الى فرض هيبتها من جديد، والأهم ما لم تبدأ السلطات المعنية كلها، بمعالجة أسباب الانفجار الشعبي، عن طريق صرف مساعدات مالية فورية، وعبر توفير فرص العمل لأكبر شرائح ممكنة من الناس، وكذلك عن طريق إعادة أجواء الاستقرار السياسي الى البلاد.
في أي حال، ما لمسه اللبنانيون في طرابلس يثبت ان أحياءها الفقيرة والمعدمة مفتوحة على نوافذ امنية وسياسية عدة، وليس امراً عادياً ما يحصل في عاصمة الشمال من حيث استهداف اهم رمزين: السرايا والبلدية، ولاسيما ان هذا المشهد قابل للانفجار اكثر اذا لم يقم المعنيون والقيادات السياسية والأمنية بتدارك رياح الاخطار التي تلوح في الشمال. ولم يكن التصويب بريئاً من طرف مجموعات من المحتجين في ضرب صورة السراي في حال الدخول اليها لتثبيت تحلل السلطات في عاصمة الشمال. وما حريق البلدية الا واحد من صور سقوط هيبة الدولة. وعلى رغم الأعباء الملقاة على الأجهزة الأمنية، الا انه لا بد من القول: إن يداً أحرقت وأخرى لم تمنع الحريق.
فضلاً عن وجود من يسعى الى استغلال ما حصل لتوظيفه في السياسة، لكن يبقى الهدف الأساسي الذي صوب عليه المخربون هو "هيبة" الدولة التي اهتزت في طرابلس، والمطلوب بسرعة المحافظة على هذه الهيبة من خلال القوى العسكرية والأمنية التي تبقى الملاذ الأخير بعد انهيار كل شيء تقريباً في ما يسمى "الدولة" التي لا بد ان يستمع المسؤولون فيها جرس الإنذار الآتي من احداث طرابلس، لئلا يعمم ما حصل على مناطق لبنانية أخرى وعندها سوف تكبر الفجوة اكثر فاكثر، والمجموعات المخربة جاهزة وغب الطلب!.