في الوقت الذي تتعقد فيه المعالجات السياسية للوضع الاقتصادي والمالي الصعب الذي يمر به لبنان، وسط غياب حكومة فاعلة تتخذ القرارات وتدافع عنها وتعمل على تطبيقها، وفيما الدول الكبرى تربط مساعدة لبنان اقتصادياً بتشكيل حكومة تحقق إصلاحات حقيقية وتمنع استمرار الفساد والتردي، في هذا الوقت عاد موضوع لجوء لبنان الى استعمال مخزون الذهب الذي لديه لتغطية الحاجات التمويلية للدولة مع قرب نفاذ احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية. ولعل ما جعل هذا التطور يطرح بقوة، توافر معلومات عن حصول جردة في مستودعات المصرف المركزي حيث يخزن 40 في المئة من الذهب لأن الباقي موجود في نيويورك. وتقول مصادر مطلعة على الملف ان الحديث عن "تسييل" الذهب من خلال بيع قسم منه او الاستدانة عليه، لم يعد سراً في ظل تراجع كل موارد التمويل المتاحة، لاسيما وان الاقتصاد المشلول وغير المنتج حال دون تحصيل الدولة لايراداتها وانهيار القطاع المصرفي ما ادى الى تعطل الخيارات السهلة التي ساهمت في وصول البلاد الى ما هي عليه حالياً من افلاس وانهيار، علماً ان المصارف لم تعد قادرة على تمويل الدولة وعجوزاتها، كما ان استمرار تعطيل قيام حكومة جديدة وفاعلة سيجعل الاعتماد على الدعم الدولي شبه مستحيل.
ولم يعد سراً أيضاً ان احتياطات مصرف لبنان وصلت الى مستوى حساس اذا لم يعد لدى المصرف اكثر من مليار دولار أميركي (والبعض يقول 900 مليون دولار) من خارج الاحتياطي الالزامي البالغ 17 ملياراً لتوظيفه في سياسة الدعم، وهذا يعني ان سياسة الدعم للمواد والسلع المدرجة في السلة لن يستمر لاكثر من شهرين على ابعد تقدير، على قاعدة ان الدعم الشهري يحتاج الى نحو 500 مليون دولار.... وهذا الواقع سيضع الحكومة في الدرجة الأولى، والمصرف المركزي في الدرجة الثانية في موضع اتخاذ القرار في خيار من اثنين: اما وقف الدعم مع ما سيرتبه من تفلت الدولار في السوق السوداء وانهيار الليرة، بالتوازي مع ارتفاع غير مسبوق للأسعار، واما الاستمرار بالدعم مع البحث عن مصادر جديدة لتمويله.
الا ان اللجوء الى الذهب كحل طارئ للازمة المالية الراهنة تحتاج الى مجلس النواب ليتولى تعديل القانون الرقم 42 الصادر العام 1986 الذي يحظر بيع الموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان او التصرف بها الا بموجب نص تشريعي يصدر عن المجلس النيابي. وجاء في نص قانون منع التصرف بالذهب ما حرفيته: "بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص آخر، يمنع منعاً مطلقاً التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان او لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء كان ذلك بصورة مباشرة او غير مباشرة الا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب".
ويقول مطلعون على مسألة اللجوء الى الذهب ان الاقتراح الذي يتم التداول به هو رهن الاحتياطي من الذهب ( 286.6 طناً) اذا ما تعذر بيع قسم منه بحيث تؤمن المبالغ التي ستجمع من الرهن المصاريف المترتبة على الدولة من دون المساس بالاحتياطي الالزامي الخاص بالمصارف لان هذا الاحتياطي هو مال المودعين الذين وضعوه في حسابات في المصارف، وهو خيار غير شعبي لأن المصرف المركزي يكون في هذه الحالة قد مسّ بالقلة القليلة الباقية من ودائع الناس لديه والتي يمكن استنزافها تدريجياً على سلة دعم مثقوبة، بحيث يطير الاحتياطي الالزامي وتعود الازمة الى مربعها الأول!.
الصناديق بالمرصاد لامتلاك الذهب...
[caption id="attachment_83085" align="alignleft" width="333"] سبائك الذهب في مصرف لبنان.[/caption]الا ان الحديث عن بيع الذهب او رهنه اثار قلقاً في أوساط مالية في لبنان تتحدث عن وجود نيات لدى صناديق استثمار اجنبية باتت تملك نسبة مرتفعة من سندات "اليورو بوندز" وتخطط لتحصيل دينها بالكامل بواسطة وضع اليد على الذهب.
ومن غير المستبعد، وفق المعطيات نفسها، ان يكون الصمت المريب الذي تلوذ به هذه الجهات التي تمتلك الاوراق اللبنانية، غير مرتبط بجائحة كورونا، بقدر ارتباطه بانتظار اية حماقة قد ترتكبها السلطات اللبنانية. وتتيح لهذه الصناديق الانقضاض على الذهب. اذ ان القوانين الدولية المعمول بها، تمنح المصارف المركزية في العالم حصانة خاصة منفصلة جزئياً عن الحكومات. وبالتالي تدرك هذه الصناديق التي تمتهن اصطياد الدول التي تقع في مصيدة التخلف عن دفع ديونها، ان محاولتها اليوم وضع اليد على احتياطي الذهب من خلال المحاكم قد لا تنجح بسبب الالتباس في ملكية هذا الذهب وهوية صاحب القرار في التصرف به. لكن هذه الورقة التي يمتلكها لبنان عن غير قصد قد تسقط في اللحظة التي يقرر فيها مجلس النواب تعديل القانون الرقم 42 الصادر في العام 1986، والذي يمنع بيع الذهب او التصرف به، لأن هذه الخطوة ستكون بمثابة مستند قانوني سيستخدمه الدائنون للاثبات ان ملكية الذهب هي للسلطة السياسية التي تملك قرار بيعه او رهنه، وان البنك المركزي ليس صاحب القرار في هذا الشأن.
وبالتالي، قد يؤدي الواقع الجديد الى سقوط ورقة الحصانة، ويصبح في الإمكان اصدار قرار من محكمة أميركية بحجز الذهب لمصلحة الدائنين بهدف تحصيل ديونهم، ولن يكون الدائنون اكثر رحمة مما كان صندوق "اليوت مانجمنت" (ELIOT MANAGEMENT) مع الارجنتين.
ويرى المتابعون ان هذا الواقع يعني ان السلطة السياسية، وفي حال ذهبت في اتجاه الذهب، تجازف بفقدانه، ولا يبقى امامها سوى استخدام الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان، والذي يناهز مبدئياً الــ 17 مليار دولار. لكن حتى هذه الأموال الاحتياطية قد تتعرض لمحاولة المصادرة في حال استمر مصرف لبنان على موقفه الرافض المس بهذه الأموال، وتدخلت السلطة السياسية لاجباره على استخدامها. في هذه الحالة، قد يحاول الدائنون مصادرة الأموال الموجودة في الخارج التابعة لهذا الاحتياطي . من هنا سيكون الحل الوحيد الضغط غير المعلن على المركزي لدفعه الى تبني فكرة استخدام هذا الاحتياطي لتسيير شؤون الناس والدولة في فترة المواجهة والانتظار...
في أي حال، لبنان امام خيارات صعبة، لكن الذهب الذي يملكه من أيام المرحوم الرئيس الياس سركيس عندما كان حاكماً للمصرف المركزي، يعتبر "آخر خرطوشة " فهل من الجائز المخاطرة بها، وهل سيسمح مجلس النواب برهن كمية من الذهب او بيعها؟
ذلك هو السؤال الذي ينتظر الجواب المناسب عليه.