هبة سعودية مقدارها مليار دولار قدمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز للجيش اللبناني. خبر زفه الرئيس سعد الحريري منذ أسبوعين للبنانيين عموماً وللمؤسسة العسكرية خصوصاً التي كانت وما زالت تخوض حرباً شرسة ضد الإرهاب على كافة الأراضي اللبنانية وذلك من دون أي شروط مسبقة كما جرى بالأمس القريب مع هبة المليارات الثلاثة العالقة لدى الدولة الفرنسية الموكلة بتزويد الجيش بما يلزمه من أسلحة.
أول الغيث ضد الإرهاب
إعلان الرئيس سعد الحريري من دارته في جدة عن هبة المليار دولار للجيش والقوى الأمنية التي قدمتها السعودية خرق حاجز القلق الذي سيطر على البلاد عندما بدأت المعارك في بلدة عرسال البقاعية بين الجيش اللبناني والمجموعات المسلحة والتي ما زالت مفاعيلها القاسية ظاهرة حتى الآن إذ إن ثمانية وعشرين عنصراً من الجيش وقوى الأمن الداخلي ما زالوا رهائن في أيدي مسلحي «داعش» و«النصرة» اللذين يرفضان حتى اللحظة تسليمهم إلا ضمن خطة تشمل إطلاق سراح عدد من السجناء أو ما بات يُعرف بـ«الموقوفين الإسلاميين» في سجن رومية. ومع هذا فقد خضع إعلان الهبة لتفسيرات متعددة إذ إن كل فريق سياسي اجتهد بحسب الطريقة التي تستهويه أو تخدم تطلعاته المستقبلية.
تكهنات حول صرفها
لم تكن مضت مدة ثمان وأربعين ساعة على إعلان المكرمة السعودية حتى خرج بعض الإعلام ليصرف الهبة ويوزعها بين المؤسسات العسكرية والأمنية حتى قبل إيداعها في عهدة المصرف المر
كزي. ومن جملة التكهنات التي أطل بها الإعلام على الرأي العام أن الحريري قد اقترح توزيع الهبة على الشكل الآتي: 500 مليون دولار، يخصص قسم منها لمديرية الاستخبارات، على أن ينال جهاز الأمن العام مئة مليون دولار، وتذهب الـ400 مليون المتبقية لقوى الأمن الداخلي، ولا سيما فرع المعلومات، مع توفير دعم لجهاز أمن الدولة. وفي كلتا الحالتين أكدت السعودية للمرة الألف أنها تدعم مؤسسات الدولة وتقف الى جانبها في محنتها وأن رهانها فقط على مشروع النهوض بالبلد بجميع أبنائه والوقوف في وجه الإرهاب والتطرف مهما بلغت التحديات وكثرت الصعوبات.
وفي ظل حاجة جميع المؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان للدعم المادي تُشير جميع المعطيات المتصلة بهبة المليار دولار الى شق طريقها نحو التنفيذ سريعاً، ويتبدى ذلك بمجموعة تحركات أبرزها تلك التي يقوم بها قائد الجيش العماد جان قهوجي أن باتجاه السياسيين المعنيين أو باتجاه الدبلوماسيين من أجل وضعهم في الصورة للاحتياجات العسكرية واللوجستية التي يفتقدها الجيش، إضافة الى المفاوضات التي يجريها وفد عسكري فرنسي موجود في بيروت منذ أيام مع وفد من قيادة الجيش بهدف تحديد آلية تنفيذ الهبة السعودية السابقة المؤلفة من المليارات الثلاثة تمهيداً لبدء تسلمها.
... وتربص لفريق «8 اذار»
لم يهضم فريق الثامن من آذار الهبتين السعوديتين المتتاليتين رغم إنهما مقررتان لمؤسسات تخضع للدولة لا لفريق محدد أو أحزاب وإعلان السيد حسن نصرالله عدم معارضته لهما. ورغم عدم استنفار الموضوع بشكل علني في وجه المكرمة الجديدة إلا أن هجوماً ضمنياً قد شنه أحد نواب الفريق على الهبة الأولى أي الثلاثة مليارات حيث اعتبر بأنها قد تبخرت نظراً للشروط الموضوعة على تسليح المؤسسة العسكرية من قبل إسرائيل وأميركا، مستعيداً لمعزوفة استعداد إيران تسليح الجيش من دون أي شروط مسبقة. وهنا برز حديث قاطع لرئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان الذي رأى أن «الهبة السعودية المزدوجة تساهم بشكل كبير في دعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية، ولم يسبق أن حصل الجيش على دعم مماثل عبر تاريخه لا من الداخل ولا من الخارج، وهذه مبادرة طيبة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله المعروف بمحبته للشعب اللبناني». وقال: «لم يعــــــرض على الجيش أي هبة تســـــليح إيرانيــــــة طـــــوال فـــــترة ولايتــــي كقائـــــد للجيش ولا خــــلال ولايتـــي الرئاسية، كما لم يصل إلى علــــمي أن إيــــران قد عرضت أي مساعدة لتسليح الجيش خلال الثلاثة أشهر الماضية».
من يمنع تسليح الجيش؟
منذ فترة وجيزة صدر تقرير متعلق بملف تسليح الجيش اللبناني والمعوقات التي تواجهه فكشف أن واشنطن عازمة على تعديل برنامج مساعداتها العسكرية للجيش اللبناني ضمن توجه مستجد لديها لملاءمة ما ستقدمه له مع ما سيستلمه الجيش من أسلحة فرنسية ضمن هبة الثلاثة مليارات دولار السعودية. وأضافت بأن شركة «أوداس» الفرنسية المتخصصة بتصدير الأسلحة هي التي تقوم بتنفيذ العقد المتعلق بالهبة السعودية لتسليح الجيش اللبناني من ضمنها طائرات هليكوبتر مستعملة من طراز «غازيل» مجهزة «بصواريخ هوت» المضادة للدبابات من الجيل الأول، بالإضافة الى آليات مدرعة خفيفة من طراز «بانهارد» المصنعة من قبل شركة تابعة لصناعات «رينو» الدفاعية، وأربعة زوارق دورية من طراز «أدروات» التي تصنعها شركة «دي سي ان اس» الفرنسية المختصة بالتصنيع البحري الحربي، وعدد من طائرات الهيلكوبتر طراز «اي سي 725» والتي تصنعها شركة «يورو كوبتر» والتي كان تم بيع عدد منها للسعودية.
مصادر عسكرية رفضت الإفصاح عن هويتها كشفت لـ«الأفكار» «أن هذ العرض لا يلبي كل رؤية لبنان لاحتياجات جيشه. فعوضاً عن شراء طائرات من هذا النوع يكون الأجدى أن يجري إعادة تأهيل أسطول طائرات الهيلكوبتر الموجود لدى الجيش والمخزنة في قاعدة رياق في البقاع»، مؤكداً أن فرنسا تقوم بتخزين ما يفوق الستة آلاف صاروخ من نوع «هوت» الجيل الأول وهي أوقفت استعمالها لصالح «هوت- الجيل الثالث» وقد تعمد فرنسا الى الحد من مدى جيل الأول مراعاة لإسرائيل خشية وصولها لأيدي مجموعات مسلحة وفي طليعتها حزب الله.
فما الذي يحتاجه الجيش وما الذي
تؤمّنه خطة التسليح؟
خلال حديث لنائب رئيس الأركان للتجهيز العميد الركن «مانويل كراجيان» يقول: «إن الجيش اللبناني يستعمل أسلحة وعتاداً قديمين منذ الثمانينيات ولا زال يحافظ عليهما ويهتم بصيانتهما لأن الإمكانات لم تكن تسمح بتغيير هذه الأسلحة أو تطويرها. وخلال هذه السنوات الطويلة لم نستطع اللحاق بركب العصر حيث جرى تطوّر كبير في عالم الأسلحة التي أصبحت تعتمد بشكل أكبر على التكنولوجيا والبرمجة. فقد كنا نواكب العصر ضمن إمكاناتنا وضمن الموازنة المرصودة للتسليح والتي كانت محدودة خلال فترة طويلة. ورغم ذلك حافظنا على مستوى معيّن من التدريب والجهوزيّة ونفّذنا مهماتنا بكل مناقبيّة ومهنيّة»، شارحاً أن «الوثيقة المتعلّقة بخطة تسليح الجيش تلخّص نتيجة المناقشات التي أجريت داخل الجيش اللبناني على جميع المستويات القياديّة والعملانيّة واللوجستيّة لتحديد أهداف الجيش للسنوات الخمس المقبلة، وتأمين الحد الأدنى من الإمكانات المطلوبة لتنفيذ المهمات الموكلة إليه، وبهذا تمّ تحديد الأولويات والأهداف الواقعية والعتاد العسكري المطلوب مع أخذ التعقيدات المحليّة والإقليمية بعين الاعتبار».
وأضاف: «ما طلبناه من عتاد وعمليات ضمن الخطة الخمسيّة يتطابق مع الأهداف المذكورة ويشمل الآتي: تطوير المنشآت والبنى التحتية، تعزيز إمكانات القوات البرية في المجالات الآتية: القوة النارية، هندسة القتال، سلاح المضاد للدروع والمدفعية والمدرعات. الدعم الجوي القريب والنقل الجوي، ضبط أمن الحدود البحريّة والنقل البحري، ضبط الحدود البرية، تطوير قدرات القوات الخاصة، زيادة حركية القوّات البريّة، فعالية الإتصالات بجميع أنواعها ورفع مستوى معاهد ومراكز التدريب العسكري»، مؤكداً أن الهبة السعودية ليست مشروطة بأي شكل من الأشكال بل سنستطيع بواسطتها شراء كل ما يحتاجه الجيش لمواكبة عصر الأسلحة الجديد ومواجهة التحدّيات التي يقابلها يومياً في صراعه مع الإرهاب والصراعات الداخلية على الساحة اللبنانية، إضافة إلى مواجهة العدو الإسرائيلي».
فتفت لـ«الافكار» الهبة الثانية لا تهدد الأولى
أما عضو كتلة «المستقبل» النائب أحمد فتفت فقد قال: «إن مكرمة المليار دولار لا تهدد الهبة الأولى التي قدمتها السعودية الى لبنان بقيمة ثلاثة مليارات دولار كما أشاع البعض، ولا شك أن هنالك من تزعجه هذه الهبات وخصوصاً أنها تأتي بطريقة رسمية وعبر الدولة اللبنانية، فالمكرمة التي أتى بها الرئيس الحريري تختلف عن المكرمة الأولى لأنها سريعة وتلبي الحاجات الضرورية للجيش اللبناني وللأجهزة الأمنية من ذخيرة وأسلحة وغيرها من المستلزمات الضرورية، أما الأولى فهي بحاجة الى وقت أطول كونها تتضمن أسلحة متطورة بالإضافة الى تدريبات على بعض أنواع السلاح وغيرها من الأمور التي تتطلب مزيداً من الوقت».
محللون استراتيجيون في موضوع الهبة
في التحليل العسكري كما في السياسة هناك دائماً انقسامات في الرأي حول طبيعة أي حدث يتعلق بلبنان، والهبة السعودية الخاصة بالأسلحة الفرنسية يُفرد لها اليوم مساحة واسعة للنقد إن بشكل سلبي أو بنّاء، فللجميع رأي ولكل خبير استراتيجي خبرته في هذا المجال.
بداية يرى المحلل الاستراتيجي العميد المتقاعد إلياس حنا أن الشكوك حول المكرمة السعودية تأتي من ضمن الانقسام السياسي الحاصل في لبنان وهذا أمر طبيعي في بلد يعيش كل هذه التجاذبات. أما الحصول على أسلحة بثلاثة مليارات دولار فلا يمكنه تغيير المعادلات العسكرية في المنطقة خاصة مع إسرائيل كون الصفقة لن تشمل طائرات مقاتلة وحاملات طائرات على سبيل المثال كما وأن جزءاً كبيراً من هذه الأموال سيذهب إلى المؤسسات الاستشارية وعمليات التدريب. وقال: «حتى لو وصلت الأسلحة الفرنسية غداً فإنها ستحتاج على الأقل لمدة سنة ليصبح بالإمكان استعمالها وهي في أحسن الأحوال قد تشمل دبابات هجومية لا تغير معادلات، فيما سيكون الجزء الأكبر منها أسلحة تقليدية موجودة أصلاً لدى الجيش اللبناني والمكرمة وجهت للجيش كونه المؤسسة الوحيدة التي لا تزال جامعة».
في المقابل يرسم الخبير العسكري العميد المتقاعد أمين حطيط ثلاثة سيناريوهات للهبة السعودية بحيث «يقوم السيناريو الأول على تعزيز القدرات الدفاعية للجيش بتقديم منظومات دفاعية برية وبحرية وجوية بينما يقوم الثاني على تقديم أسلحة لمواجهة العمليات الإرهابية وحفظ الأمن في الداخل قد تشمل طائرات مروحية وعربات مصفحة وأجهزة اتصال متطورة. لكن خطورة هذا الموضوع تكمن في تحويل هذه الأسلحة من مواجهة الإرهاب الى الصدامات الداخلية والاحتكاك مع المقاومة»، مشيراً الى أن السيناريو الثالث وهو الأكثر ترجيحاً بالنسبة فيقوم على أن الموضوع كله تسويق وترويج إعلامي وإعلاني لمساعدات لن تصل كما حصل مع الهبة الروسية والعروض الإيرانية وهي خطوة تهدف إلى الضغط الداخلي من أجل تشكيل حكومة وإظهار المملكة التي تدعم أطرافاً داخلية بمظهر الحليف الكريم».
هل هذا فعلاً ما يحتاجه الجيش؟
لا شك بأن دخول الجيش اللبناني على خط المواجهة مع التنظيمات المتشددة المتسللة من سوريا إلى بلدة عرسال البقاعية واشتداد المعارك بين الطرفين صوب الإصبع إلى أهمية تسليح الجيش لمواجهة خطر الإرهاب المهدِّد لسيادة الوطن. وبناء عليه يرى مدير مركز الدراسات للشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة العميد المتقاعد هشام جابر أن «الخطر على الجيش اللبناني اليوم يتمثل بالارهاب وبالتالي يجب تعزيز خبرات الجيش البرية لخوض العمليات العسكرية الجبلية. لكن أبرز ما يحتاجه الجيش هو الى طائرات مروحية وعربات مدرعة ومناظير ليلية وأسلحة فردية متطورة بالإضافة الى أسلحة مضادة للطائرات». وعن احتياجات القوى الأمنية قال: «إن عملها يتركز بشكل أكبر داخل المدن والتجمعات السكنية لذلك تحتاج الى عربات مدرعات سريعة الحركة وأسلحة حديثة لعمليات المداهمة وأجهزة اتصالات متطورة ودروع ووسائل حماية للحواجز الثابتة. وعلى الرغم من أهمية المليار دولار في هذا الظرف الذي تمر به المؤسسة العسكرية في البلد الا أن توزيعه بين الجيش والقوى الأمنية لا يلبي الاحتياجات العسكرية الكثيرة والمكلفة التي يحتاجها جيشنا الوطني».
أضاف جابر: «إن احتياج لبنان لطائرات هليكوبتر ــ عسكرية لم يبرز عشية معركة عرسال بل تدركه الدولة منذ سنوات، حتى أن الرئيس السابق ميشال سليمان وقع اتفاقية تعاون عسكرية مع نظيره الروسي «ديمترى مدفيديف» خلال زيارته إلى موسكو في شباط 2010 معلناً بعد عودته أن روسيا وافقت على إمداد لبنان بطائرات هليكوبتر عسكرية من طرازmi-24 مزودة بالقذائف التي تحملها»، كاشفاً أن وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» نقل لنظيره اللبناني جبران باسيل خلال زيارته في نيسان الماضي الى موسكو، خبراً مفاده أن طائرات الهليكوبتر جاهزة ليستلمها لبنان مقابل مبلغ ضئيل، لكن لبنان لم يدفع حتى الساعة هذا المبلغ ولم يبادر لاستلامها بحجة عدم توفر التمويل».
وختم بالقول: «عندما يتوفر المال نقداً نستطيع أن نشتري ما نريد من حيث نريد، وما لا تبيعنا إياه فرنسا أو أميركا يمكن أن نشتريه من دول كروسيا أو الصين»، آملاً أن تدخل هبة المليار دولار الإضافي التي قدمتها المملكة دعماً للجيش في معركته ضد الإرهاب البنك المركزي لحساب الجيش وأن يؤلف الجيش لجان تسلح تحدد حاجاته من الأسلحة والدول التي تزوده بها كي لا نخضع لما توافق عليه اسرائيل».