لم ينتظر السفير الفرنسي في بيروت <باتريس باولي> وصول مساعد وزير الخارجية الفرنسية لشؤون الشرق الأوسط <جان فرانسوا جيرو> الى بيروت بداية هذا الأسبوع، بل استبق بدء اتصالات الديبلوماسي الفرنسي المخضرم ليضع زيارته في إطارها الصحيح الذي لا يتجاوز <الاستطلاع والتقييم> في ظل غياب أي مبادرة فرنسية فعلية تحرّك ملف الاستحقاق الرئاسي الذي يبدو أنه سيبقى مجمداً حتى إشعار آخر. فالذين التقوا السفير <باولي> قبل وصول <جيرو> سمعوا منه كلاماً واضحاً لا لبس فيه خلاصته أن باريس ليست في وارد التسويق لأي رئيس أو <فرض> أي رئيس على اللبنانيين، والدور المناط بالسفير <جيرو> والديبلوماسية الفرنسية ككل يقتصر على <تشجيع> اللبنانيين على بذل ما في وسعهم لتسهيل عملية انتخاب رئيس الجمهورية لا أكثر ولا أقل، والمطلب الفرنسي الوحيد هو أن يجمع الرئيس العتيد الغالبية حوله. ولم يعد <الشرط> الفرنسي أن يكون الرئيس <توافقياً> كما كان في وقت سابق، لأن باريس باتت تعطي تفسيراً جديداً لصفة <التوافق>، يقوم على أن يجمع الرئيس <توافقاً واسعاً> كي يكون رئيساً لجميع اللبنانيين حتى ولو لم ينتخب من جميع نواب الشعب اللبناني لأنه عندما سيصبح رئيساً سيكون لجميع اللبنانيين، مجسداً تطلعاتهم وتوقعاتهم.
<جيرو>: لا جديد رئاسياً!
ضمن هذا المفهوم أتت زيارة السفير <جيرو> التي لم تحمل مبادرة جديدة، بل هدفت الى وضع المسؤولين والسياسيين اللبنانيين في حصيلة المشاورات التي أجراها <جيرو> في الرياض وطهران والفاتيكان وموسكو التي زارها بعيداً عن الأضواء للتشاور مع القادة الروس في الملف الرئاسي اللبناني، وهذه الحصيلة لا تدفع على الاعتقاد بأن حلاً ما هو على الطريق كما تردد في الأسبوع الماضي، لأن الذين التقاهم <جيرو> في محطته اللبنانية الجديدة سمعوا كلاماً يُستدل منه ان مفتاح الاستحقاق الرئاسي لا يزال لبنانياً في الوقت الراهن، لأن القوى الإقليمية القادرة على التأثير في المسار الانتخابي الرئاسي اللبنانية لم تقرر بعد <إنجاز> حل وهي تركت <الأمانة> في أيدي اللبنانيين ليصلوا الى تفاهم في ما بينهم حول الرئيس العتيد، مع تعهد بتوفير الدعم اللازم والكامل لخيارهم الذي يمكن أن <يلد> من تفاهم خلال الحوارات الجارية أو تلك التي يتم التحضير لها. كذلك فهم السياسيون والرسميون في بيروت من الديبلوماسي الفرنسي المخضرم أن الجانب الإيراني ما زال على موقفه بأن الكرة الرئاسية اللبنانية في ايدي اللبنانيين وحدهم، وانه لا يوجد أي استعداد للضغط على حلفاء إيران وأصدقائهم في هذا الاتجاه، لأن طهران قررت أن يكون هذا الاستحقاق من صنع حلفائهم اللبنانيين أنفسهم، وأي موقف يتخذه هؤلاء الحلفاء يعتبر مقبولاً لدى الإيرانيين ويوفرون له الدعم المناسب. في المقابل، لم يحصل <جيرو> خلال وجوده في الرياض (قبل وفاة الملك عبد الله) على أي تطور جديد يحرك الملف الرئاسي اللبناني، وهو لا يتوقع أن يحصل ذلك في المدى المنظور، لأن المسؤولين السعوديين انهمكوا بترتيب الشؤون الداخلية للبيت السعودي بعد رحيل الملك عبد الله، والتغييرات التي أحدثها العاهل الجديد الملك سلمان في التركيبة السعودية الحاكمة.
باريس... <والرئيس القادر>
وتؤكد مصادر ديبلوماسية معنية أن المشاورات التي أجراها <جيرو> في الفاتيكان كانت لتقييم الاتصالات التي حصلت قبل أشهر، وأن <التمني> الفاتيكاني باستمرار التحرك الفرنسي هو الذي قاد السفير <جيرو> من جديد الى بيروت مع رسالة بابوية خلاصتها <تشجيع> المسيحيين على الاتفاق على رئيس <قادر> على جمع اللبنانيين وعلى البحث معهم عن حلول مشتركة للأوضاع القائمة في لبنان والتي تتأثر سلباً بما يجري في الجوار اللبناني من تطورات أمنية وأحداث دراماتيكية متسارعة. وبدا أن <المفهوم> الفرنسي لـ<الرئيس القادر> الذي برز خلال محادثات <جيرو> طرأ عليه بعض التطور، إذ بات يميل الى <لبننة> الخيار الرئاسي للحد من تأثير العوامل الإقليمية ومواقف الدول الصديقة أو الحليفة للأحزاب والكتل النيابية. كذلك فإن <جيرو> أعاد التأكيد على <حياد> الموقف الفرنسي وعدم وضع أي <فيتو> على أي من المرشحين، سواء كان مدنياً أو عسكرياً، سياسياً أو حزبياً. وخلافاً لما كان عليه التوجه الفرنسي قبل أسابيع والذي روّج لصيغة مؤقتة رفضها البعض وشجع عليها البعض الآخر، ولم يبدِ حماسة لها البعض الثالث، فإن باريس باتت مقتنعة بأن أي تدبير مؤقت في ما خص الموقع الرئاسي لن تكتب له الحياة لأن الأمر يختلف رئاسياً عن تمديد ولاية مجلس النواب و<إبقاء القديم على قدمه>، أو عن التركيبة التي سهلت ولادة حكومة الرئيس تمام سلام التي تنجز الأسبوع المقبل سنتها الأولى.
صعوبة <لبننة> الاستحقاق
غير أن مصادر متابعة للملف الرئاسي تؤكد أن <لبننة> عملية انتخاب رئيس الجمهورية لن تكون مهمة سهلة، لأن القرار في ذلك لم يعد في يد الأطراف اللبنانيين وحدهم، ولا يزال الحديث ناشطاً حول أهمية التفاهم السعودي - الإيراني والمباركة الأميركية لأن واشنطن لا تزال، رغم كل شيء، تؤثر إيجاباً وسلباً على أي <تفاهم> يمكن أن يحصل حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني، سواء كان داخلياً أو إقليمياً. ويأتي في هذا السياق ما أبلغه رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجوردي الى الرئيس سلام خلال اجتماعه به الأسبوع الماضي من أنه سينقل الى القيادة الإيرانية رغبة الرئيس سلام في أن تساعد طهران بتعزيز أجواء التفاهم الداخلي من خلال المساهمة في تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية، كما سهلت تشكيل الحكومة السلامية في شباط/ فبراير من العام الماضي. وكان رد المسؤول الإيراني واضحاً: <سندرس ما يمكننا أن نقوم به في هذا المجال>!
وفي رأي المصادر المتابعة، فإن طلب رئيس الحكومة من المسؤول الإيراني يؤكد على حقيقتين: الأولى، ان الاستحقاق الرئاسي لم يصبح بعد <لبنانياً مئة بالمئة> رغم الحوارات الجارية أو تلك التي ستتم، والثانية، أن الدور الإيراني في <تسهيل> انتخاب الرئيس لا يزال فاعلاً ومؤثراً رغم ان طهران تحيل مراجعيها في الشأن الرئاسي اللبناني - ومن بينهم السفير <جيرو> - على حلفائها اللبنانيين وفي مقدمهم حزب الله، لأن الموقف الإيراني المعلن هو أن الاستحقاق الرئاسي في يد اللبنانيين أنفسهم!
الهاجس الأمني يتقدم
وتسجل المصادر نفسها ان <الجمود> الذي يلف الداخل اللبناني حيال الاستحقاق الرئاسي المغيّب عن حوار <المستقبل> - حزب الله حتى الآن، وغير الواضح في ما خص التحضيرات للقاء بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع مرشح بأن يستمر خلال الأسابيع الآتية ليتقدم أكثر الاستحقاق الأمني الذي يطغى على ما عداه من استحقاقات، وما يحصل على جبهة البقاع المتاخمة للحدود اللبنانية - السورية ينذر بمضاعفات خطيرة لاسيما وأن التقارير الأمنية تؤكد يوماً بعد يوم أن ما حصل قبل أسبوعين على <جبهة> رأس بعلبك قد يتكرر في اي لحظة، بالتزامن مع <صحوة> الخلايا الإرهابية التي استعادت نشاطها وسط تحذيرات من عودة موجة السيارات المفخخة، والمخاوف من عمليات اغتيال ينفذها انتحاريون، ما فرض على الجيش والقوى الأمنية الأخرى رفع الجهوزية الى المستوى الأعلى والطلب الى رسميين وسياسيين الحد من تنقلاتهم والتزام الحيطة والحذر، كما دفع بعدد من الدول الى تحذير رعاياها بعدم السفر الى لبنان، وبالموجودين فيه الى مغادرته، أو تجنب <مناطق حساسة> فيه.
وبين مواقف تدعو الى <لبننة> الاستحقاق الرئاسي، وأخرى تدعو الى انتظار التفاهم السعودي - الإيراني المدعوم أميركياً على الرئيس العتيد، مهما تأخر، سيحتفل الموارنة خصوصاً، والمسيحيون عموماً، بعيد القديس مار مارون في 9 شباط/ فبراير الجاري، من دون رئيس يتقدم المحتفلين في كنيسة مار مارون في الجميزة وذلك للمرة الأولى منذ العام 2009، وهو المشهد نفسه الذي عاشه اللبنانيون في شباط/ فبراير من العام 2008 في ظل الشغور الرئاسي الذي حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود!