الجلسة النيابية التي انعقدت نتيجة مفاعيل <تسوية تشريع الضرورة> والتي فتحت أبواب مجلس النواب بعد طول غياب، والتي كانت مخصصة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب... لم تكن كذلك وعادت السلسلة من جديد الى اللجان النيابية لدرسها، واكتفى الرئيس نبيه بري بترداد كلمات قليلة كانت كافية لسحب السلسلة من القاعة العامة لمجلس النواب، كي تستقر من جديد في قاعة اللجان النيابية المشتركة لإعادة درسها <بسبب وجود ثغرات في مشروع القانون الخاص بها، ولأن هناك قطاعات لا تزال تشكو>، على حد قول رئيس مجلس النواب. وبدا أن الذين انتظروا إقرار السلسلة بعد الوعود الكثيرة التي أعطيت عن <تفاهم تحقق> و<تعديلات أقرت>، خرجوا من <المولد بلا حمص> وعليهم انتظار تطورات أخرى وتسويات جديدة لتصبح السلسلة حقيقة قائمة!
غير أن الجلسة النيابية التي كسرت <المقاطعة التشريعية> أقرّت سلسلة قوانين ملحة، لاسيما تلك المتعلقة بإبرام اتفاقات ومعاهدات وقروض أولية كادت أن تسقط كلها بفعل مرور الزمن، مررت من خارج جدول الأعمال قانوناً لتأمين الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام حتى نهاية السنة، بلغت اعتماداته 626,6 مليار ليرة، وهو لم يرد أصلاً في المواضيع التي حددتها هيئة مكتب المجلس، الأمر الذي أثار اعتراضاً من النائب أحمد فتفت رفضه الرئيس بري، مكرّساً بذلك حق الرئاسة في طرح أي موضوع تعطيه الاولوية مثل قانون الاعتماد الاضافي. والى أن تنعقد الهيئة العامة لمجلس النواب من جديد قبل أو بعد بدء العقد العادي الثاني في 20 تشرين الأول/ اكتوبر الجاري، فإن جلسة الأول من تشرين الاول/ اكتوبر كرّست <عودة التشريع> ولم تكن جلسة التمديد الثاني لولاية مجلس النواب، و<الضحية> الوحيدة فيها كانت سلسلة الرتب والرواتب التي <نعمت> باعتراضات متنوعة حتى من الذين يستفيدون منها!
اعتراض قهوجي حسم تأجيل إقرار السلسلة
ولكن لماذا <طارت> السلسلة وكيف؟
كل المعطيات التي توافرت مساء الثلاثاء، اليوم الأول من شهر تشرين الأول/ اكتوبر 2014، كانت توحي بأن السلسلة ستمر في الجلسة النيابية التي انعقدت أصلاً من أجلها، وأن <التسوية> التي صيغت بعناية بين الرئيس نبيه بري والرئيس فؤاد السنيورة وممثل قوى 14 آذار النائب جورج عدوان ستمر مع تعديلات غير أساسية بعد سلسلة خطب ومداخلات <للمزايدة> أمام وسائل الإعلام. إلا أن الليل حمل سلسلة تطورات إذ توالت الاعتراضات من الهيئات الاقتصادية والمصارف والأساتذة في القطاعين العام والخاص، و<أغرقت> وسائل الإعلام بالتعليقات والحملات والأرقام التي تصب كلها في رفض السلسلة، كما انتهت صيغتها وفق <التسوية> التي تم التوصل إليها. غير أن هذه الصيحات كانت في ميل، واعتراض قيادة الجيش على الشق العسكري من أرقام السلسلة في ميل آخر...
وتشير المعلومات المتوافرة لـ<الأفكار> الى أن قائد الجيش العماد جان قهوجي تسلّم تقريراً عاجلاً من اللجنة العسكرية التي شكّلها لمتابعة موضوع السلسلة وحقوق العسكريين مع اللجان النيابية المشتركة، يشير الى أن إجحافاً لحق بالعسكريين وعائلاتهم في الخدمة الفعلية أو في التقاعد، إضافة الى ملاحظات حول دوام العسكريين الذين يؤدون أياماً طويلة في الخدمة، وكيفية احتسابها، لأن التعديلات التي أجريت لم يؤخذ برأي القيادة فيها، فاتصل العماد قهوجي بوزير الدفاع سمير مقبل ولفته الى <الغبن الكبير> الذي يلحق بالعسكريين، إذا ما أقرت السلسلة كما وضعت، وأن المساعي التي قام بها لتعديلها لم تؤدِ الى نتيجة بعد اعتراضات من جهة سياسية فاعلة، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن تقبل به القيادة العسكرية، في وقت يقدّم فيه الجيش الشهيد تلو الشهيد ويعاني العسكريون من اعتداءات متواصلة ضدهم وضد مواقعهم، إضافة الى معاناة العسكريين المحتجزين وعائلات الشهداء.
وينقل متابعون لمسار الاتصال بين العماد قهوجي والوزير مقبل أن قائد الجيش قال لوزير الدفاع: أين التضامن مع الجيش وأنا أقرأ بين سطور البنود العائدة للجيش في السلسلة حقداً على العسكريين، لاسيما المتقاعدين منهم والشهداء وعائلاتهم، في زمن يفترض أن يتضامن الجميع مع الجيش. أنا لن أقبل بهذه الصيغة وطالما أنا في موقع القيادة، فلن أسجل على نفسي الموافقة على حرمان العسكريين حقوقهم سواء أكانوا في الخدمة أو في التقاعد.
فصل سلاسل العسكريين؟
يضيف المتابعون لهذا الملف أن الوزير مقبل أدرك أن الأمر دقيق وخطير، فسأل عن البديل، فكان الاقتراح الذي أبلغ ليلاً الى الرئيس بري بعد اجتماع مع وزير المال علي حسن خليل عقد في مكتب قائد الجيش، بفصل سلاسل العسكريين عن مشروع سلسلة الرتب والرواتب المطروحة ليصار الى إجراء تعديلات عليها تتناسب مع ما كان مقرراً سابقاً بالاتفاق مع قيادة الجيش. وتزامن اتصال القيادة العسكرية بالرئيس بري، مع اعتراض آخر ورده من نواب التيار الوطني الحر يقضي بإضافة 26 مليار ليرة الى سلاسل العسكريين كشرط للتصويت على القانون، علماً أن الرئيس فؤاد السنيورة كان قد رفض هذه الزيادة. ومع تقدم الليل، صارت الاعتراضات تتوالى الى عين التينة، وسهر الرئيس بري حتى ساعة متقدمة من الليل ليسأل ويستوضح، لاسيما بعد فصل المعلمين في المدارس الخاصة عن المعلمين الرسميين في الإفادة من 6 درجات إضافية ودعوة هؤلاء الى الإضراب العام. وعندئذٍ أدرك رئيس المجلس أن مشروع السلسلة لن يؤمن حلولاً، بل سيزيد المشاكل تعقيداً، خصوصاً بعدما اطلع على تقارير وجداول تظهر <الإجحاف> الذي لحق بالعسكريين، والفارق الذي يمكن أن تحدثه الدرجات الست بين الأساتذة الرسميين ورفاقهم في التعليم الخاص والذي بلغ حسب الأرقام 670 ألف ليرة شهرياً. وفي نهاية الليل وقبل أن يخلد بري الى النوم، كان قد اتخذ قراره: سأعيد السلسلة الى اللجان النيابية! وفي اليوم التالي، تمسك رئيس المجلس بموقفه لاسيما بعدما بلغته ردود فعل إضافية من أساتذة التعليم الثانوي ومن المتعاقدين الذين حرموا من السلسلة، فضلاً عن تصريحات نيابية <للمزايدة> وأخرى <للاستعراضات البطولية>، في وقت كانت فيه الهيئات الاقتصادية تتحرك على أكثر من خط.
وتقول مصادر نيابية متابعة ان الرئيس بري أراد لجلسة التشريع أن تلتئم لتمرير القوانين المالية والاتفاقات الدولية كي لا تسقط بفعل المهل المحددة، فكان له ما أراد وعاد التشريع الى مجلس النواب، من دون سلسلة الرتب والرواتب التي تحمل الرئيس بري مسؤولية إحالتها الى اللجان النيابية آخذاً في الاعتبار خصوصاً موقف قيادة الجيش التي أصرت على فصل السلسلة العسكرية عن السلسلة العامة، وبالتالي فإن ما قيل عن أن بري أخذ <في الاعتبار> اعتراض الهيئات الاقتصادية، غير دقيق لأن هذه الهيئات - حسب بري - يجب أن تتعامل بإيجابية مع السلسلة وتقدم الالتزامات المطلوبة منها!
لكل كتلة أسبابها في <الارتياح>
وإذا كان الرئيس بري قد حقق ما أراد في جلسة <تشريع الضرورة>، فإن إحالة السلسلة الى اللجان المشتركة <لمزيد من الدرس> نزلت برداً وسلاماً على معظم الكتل النيابية التي اعتبرت أنها حققت هي أيضاً <إنجازاً> في الدفع نحو تأجيل إقرارها. وتظهر قراءة سريعة لردود فعل الكتل والسياسيين ان كتلة <المستقبل> - وهي أكبر كتلة نيابية - لم تكن متحمسة لأن في أرقام السلسلة <مغامرة> على حد قول الرئيس السنيورة، وكتلة النائب وليد جنبلاط كانت قد وافقت على الصيغة بتحفظ وحتى لا تتهم بالعرقلة، في حين أن نواب تكتل التغيير والإصلاح أبدوا ارتياحهم من قرار الرئيس بري، لاسيما وانهم شعروا أن <التسوية> التي سُوّقت <تجاوزتهم> وانحصرت بين الرئيس السنيورة والنائب عدوان، فضلاً عن ان إعادة السلسلة الى اللجان تعيد <خلط الأوراق>، ما يشكل فرصة لاستعادة المبادرة من جديد، لاسيما في <الدفاع> عن حقوق العسكريين من خلال المطالبة بإنصافهم. أما كتلة القوات اللبنانية ورغم إصابتها <بنكسة> نتيجة عدم إقرار السلسلة التي شارك في صياغتها النائب عدوان، فإنها <عضّت> على جرحها و<نظرت> لأهمية قرار بري، وذلك في سياق التقارب الذي تسعى إليه القوات مع رئيس مجلس النواب للاستفادة من <الفتور> الذي يسود علاقته مع العماد ميشال عون، علماً أن أوساط الرئيس بري حملت عدوان مسؤولية عدم إدارة ملف أساتذة التعليم الخاص بالطريقة المناسبة. أما <الثنائي الشيعي>، أي حركة <أمل> وحزب الله، فقد اعتبر ان إعادة درس السلسلة يمكن أن يحقق بعض التوازن، لاسيما حيث برز التباعد بين المستفيدين من مفاعيل السلسلة، خصوصاً العسكريين والأساتذة والمعلمين.
أما على الصعيد النقابي، فأتى التأجيل لمصلحة نقابات المعلمين في القطاع الخاص وفي التعليم الرسمي، لأن الأيام الآتية ستكون فرصة لهم لمضاعفة تحركهم للوصول الى تحقيق مطالبهم، مع الإشارة الى أن أي تأخير في إقرار السلسلة لا يعني بالنسبة الى المعلمين، سوى المزيد من المطالبة بمكاسب إضافية أسوة لما سيحصل مع العسكريين وغيرهم. ويضاف الى <المرتاحين> من تأجيل إقرار السلسلة، أركان الهيئات الاقتصادية الذين بذلوا الكثير من الجهد لفرملة اندفاع النواب حيال أرقام السلسلة وشروطها، نظراً لما ترتبه على هذه الهيئات من موجبات والتزامات سبق أن رفضوا الموافقة عليها!
هل تصبح السلسلة في <خبر كان>؟
وفيما بدا أن الجميع <مرتاح> لعدم إقرار السلسلة بالشكل الذي وضعت فيه، تتحدث مصادر نيابية عن ان إحالتها الى اللجان النيابية المشتركة قد يدخلها من جديد في نفق المزايدات والخلافات بين النواب، فتصبح حينذاك في <خبر كان>، وهذا الانطباع تكوّن لدى السياسيين والنواب والنقابيين خصوصاً بعدما أعلن وزير المال علي حسن خليل، المعني مباشرة بالسلسلة، ان عدم إقرارها <خسارة كبيرة>، لأن الموافقة عليها مع الشوائب والنواقص التي فيها كانت أفضل مالياً للدولة التي تصرف اليوم من دون إيرادات، في حين أن السلسلة كانت ستؤمن موارد تحقق تصحيحاً ضريبياً هو الأول من نوعه منذ الاستقلال. وعلمت <الأفكار> أن الوزير خليل يتجه الى إعداد مشاريع قوانين مستقلة سيرفعها الى مجلس الوزراء ترمي الى إقرار البنود الضريبية التي كانت واردة في السلسلة، ومن ثم الاتفاق عليها في شهر حزيران/ يونيو الماضي، لاسيما منها الضرائب على التحسين العقاري وربح الفوائد والمصارف. ويعني ذلك أن إقرار السلسلة لن يكون في وقت قريب، وان <البدائل> الضريبية موجودة في انتظار إخراج السلسلة من <المربع الأول> الذي عادت إليه!
وسط هذه المعطيات، تحدثت مصادر مطلعة عن أن السلطات النقدية والمالية اللبنانية تلقت قبل أيام من انعقاد جلسة مجلس النواب وبعد انتشار خبر الاتفاق على السلسلة، تحذيرات شديدة من مؤسسات مالية دولية منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حول الانعكاسات السلبية لإقرار السلسلة على الاقتصاد اللبناني الذي يعاني أصلاً من ضعف شديد مع تراجع نسبة النمو الى 1,5 بالمئة هذه السنة. إضافة الى الانعكاسات على واقع العجز العام في الموازنة والتصنيف الائتماني للبنان وسلامة الليرة.
اقتراحات التعديل تسابق درس الموازنة
ويبقى السؤال: ماذا بعد جلسة إسقاط <السلسلة> وهل من إمكانية لإعادة إحياء البحث الجدي فيها؟
مصادر مواكبة للاتصالات الجارية على <جبهة> سلسلة الرتب والرواتب تحدثت بعيد عطلة عيد الأضحى المبارك عن ان ثمة اقتراحات تعد لتعطيل <الألغام> التي أطاحت بالسلسلة: الأول يتناول منح أساتذة المدارس الخاصة الدرجات الست التي سينالها معلمو القطاع العام، شرط تقسيطها على أربع سنوات، على أن يطبق التقسيط ذاته على المعلمين الرسميين لتحقيق المساواة. أما الاقتراح الثاني فيقضي بدرس ملاحظات قيادة الجيش بالنسبة الى سلاسل العسكريين واحداث زيادة لصالح هؤلاء تشمل من هم في الخدمة الفعلية والمتقاعدين مع اعتماد التقسيط المريح (سنتان) في ما خص مفاعيل السلسلة للعسكريين. أما بقية النقاط المعترض عليها، فلن يتم الأخذ بها لأن التفاهم حولها كان قد تحقق ولا حاجة للعودة الى البحث فيها مجدداً. إلا ان هذه المصادر أبدت مخاوف من ربط موضوع إقرار السلسلة بإقرار موازنة 2015 التي ستحال الشهر المقبل الى مجلس النواب لدرسها وإقرارها والتي يرى البعض انها المنطلق لأي تشريع مالي يمكن أن ينفذ خلال السنة المالية المقبلة، عملاً بمبادئ تكوينها وأساسها، لاسيما وأن الجلسات المقبلة التي سيعقدها المجلس النيابي ستخصص بداية لانتخاب أعضاء اللجان النيابية والأرجح أن يبقى القديم على قدمه، ثم تشريع بعض القوانين المالية ومنها سندات <اليوروبوند>، على أن يدرس بعد ذلك تعديل قانون الانتخاب أو إقرار التمديد الثاني للمجلس النيابي... فهل تصبح السلسلة في مهب الريح أو كما قال عدد من النواب <في خبر كان>؟!