بقلم عبير أنطون
[caption id="attachment_85211" align="alignleft" width="250"] بيتر نعمة: الموسيقى شغفي.[/caption]كما تنتمي كل آلة الى عائلة، هكذا فإن الموسيقى ونغماتها هي نفَس بيتر نعمة ووتره وإيقاع حياته. فهو، وبعمر السنتين ونصف السنة دخل الكونسرفاتوار الوطني اللبناني لموهبته المدهشة، ولا تزال صورة الموسيقي الكبير رفيق حبيقة يوم سلمه آلة الكمان التي صنّعت خصيصاً لتناسب يديه الصغيرتين، ماثلة امام عينيه، مع العبارة التي رددها لاحقاً على مسامعه بالقول: "ستكمل المسيرة من بعدي يا بيتر" داعياً أهله للانتباه الى الموهبة الغضّة وتنميتها، وهذا ما كان.
لم يكتف بيتر، صاحب الصوت الجميل بالعزف على آلة الكمان، إنما تعداه للعزف على 46 ألة بشكل محترف، هذا بغير الآلات الايقاعية التي هي " تحصيل حاصل" في مسيرته .
المدرّس والباحث في الموسيقى سبر أعماقها من غير باب ايضاً، من باب صناعتها، فكانت له شركته الخاصة في صناعة الآلات الموسيقية وانتشر اسمه بحكم انتشار تلك الآلات، في زوايا العالم الأربع .
والى هذه المزايا كلها، فإن بيتر الباحث الموسيقي مصور موهوب ايضاً وهو استثمر ذلك ليبدع مشروعاً حاز منه جوائز عالمية بدءاً من" تورنتو" الكندية . فما هو هذا المشروع، ما الذي جعله مميزاً حتى حصد الجوائز، وما الهدف منه؟
مع بيتر كان لقاء (الأفكار) "موسيقياً" بامتياز وسألناه أولاً:
- تعزف بشكل محترف على 46 آلة موسيقية أيها الأقرب الى قلبك؟
غالباً ما يطرح عليّ هذا السؤال، وجميعها كأولادي. ربما الألة التي تعني لي أكثر من غيرها هي "الفيولون" (آلة الكمان) لأنها اولى الآلات التي بدأت بتعلم العزف عليها لما دخلت الكونسرفاتوار بعمر السنتين ونصف السنة، اي 36 شهراً .
[caption id="attachment_85215" align="alignleft" width="204"] غرين كونشرتو ..وجائزة ذهبية.[/caption]- ألهذه الدرجة برزت موهبتك باكراً وكان وعي الأهل كبيراً؟
شريط عمري كله، كأنه امامي. لقد ربيت في بيت موسيقي. انا من دير القمر ما إن فتحت عيني حتى وجدت الآلات من حولي وكان عمي استاذ موسيقى، واصوات جدي وعماتي ووالدي كلها جميلة، كذلك فإن ابي الحرفي ، كانت له هواية كبيرة في جمع الآلات الموسيقية . كان همهم ان يضعوني على السكة الصحيحة للموهبة المبكرة التي تميزت بها، وفي الشهر السادس من عمري لم اكن اغفو الا على ملامس البيانو الذي صنعه لي والدي. في عمر السنتين بت اعزف كل لحن اسمعه بحسب قدرتي حينها. صديق الوالد عبد الغني شعبان، القامة التاريخية الموسيقية التي دونت النظريات الموسيقية الشرقية كان مسؤولاً في الكونسرفاتوار عن القسم الشرقي، وبحكم الصداقة مع والدي عزفت له مرة النشيد الوطني اللبناني على البيانو وانشدته له فتفاجأ وقال لاهلي: بيتر اعجوبة بشرط ان تتابعوه وتصقلوا موهبته. فأي شخص، لو كانت له عبقرية عبد الوهاب وحنجرة ام كلثوم ولم يتعلم اكاديمياً فإنه لن يصل الى حيث يصبو وكان تسجيلي الرسمي في عمر السنتين ونصف السنة . الى الاستاذ شعبان، يعود الفضل ايضاً الى صديق الوالد الكبير رفيق حبيقة، وما زلت اذكر انه هو من قدّم لي آلة الكمان التي كان والدي أتى بها الى الكونسرفاتوار بحكم ان الكمان فيه لم يكن يناسب يدي الصغيرتين. فأخذ الوالد مقاسي بالمازورة وصنعوا آلة كمان تناسبني وطلب من حبيقة الذي عدت وعملت معه لاحقاً ، أن يقدمها لي. لقد كان له دور كبير في حياتي وحتى انني كمن عاش في بيته، اولاده اخوتي حتى ان رفيق جونيور حفيده، انا علمته موسيقى، وكذلك حفيده لابنته جاد مغامس وقد اضحى فناناً ومخرجاً معروفاً. اعتبره عرابي، وقد رافقني بعناية. منذ ربيعي السابع وانا اتعلم العزف على 16 آلة في الوقت عينه وقبلها بكثير انهيت الدروس النظرية والسولفيج والاملاء الموسيقية .
- هل لحّنت ايضاً ام اكتفيت بالعزف؟
انا مؤلف موسيقي وقد لحنت العديد من المقطوعات الموسيقية فضلاً عن عدد كبير من الترانيم الدينية وعدد من المسرحيات في لبنان وخارجه .كذلك فإنني اقوم بتأليف الموسيقى التصويرية وأدرّس الموسيقى على 46 آلة وترية ونفخية احترف العزف عليها ، بغير الآلات الايقاعية، علماً انني اعزف على 265 آلة موسيقية.
[caption id="attachment_85216" align="alignleft" width="203"] الميدالية من تورنتو.[/caption]- ما هي الآلة الاصعب لتعلُمها؟
هي الآلة التي يجهلها المتعلم، او ذاك الذي يقع لسوء حظه بين يدي استاذ غير متمكّن. ما من آلات اصعب من غيرها انما الاذواق تختلف بين عائلات الآلات الثلاث الوترية او الهوائية النفخية والايقاعية. هنا تختلف الميول والرغبات.
أصنّع وأرمّم ...
- تخرجت من الكونسرفاتوار بشهادة العزف على اية آلة؟
كانت الحرب مندلعة، وانتقلت الى جامعة الروح القدس (الكسليك)، ثم انطلقت الى خارج لبنان. وكان هدفي ايضا تصنيع الآلات الموسيقية وحزت شهادة عالمية في تصنيع الآلات، ولي ماركتي المسجلة هنا في لبنان باسم "بيترز" الى جانب حيازتي الدراسات العليا في الموسيقى. توجهت الى تصنيع الآلات الموسيقية بين بلدان كثيرة وتنقلت بين امهر المعلمين في المجال من حول العالم من المانيا الى بلغاريا وفيينا وغيرها ولم اترك متحفاً او مصنعاً الا وزرته، وهذه الحرفة لا مدرسة او اكاديمية تعلّمها انما نتشرّبها من معلمين محترفين في المجال. اقمت محترفي الخاص الذي اصنّع فيه آلاتي. اتلقى الكثير من الطلبات في لبنان وخارجه من البيانو إلى الكمان والتشيللو والقانون والعود، وغيرها. منذ 36 سنة
[caption id="attachment_85209" align="alignleft" width="250"] الشغف ..مكرّماً.[/caption]واسمي يجول في زوايا العالم الاربع على آلات بأعلى مواصفات الجودة، وقد عزفت عليها أهم الفرق والمدارس والمعاهد، كما باتت معتمدة في أوركسترات لبنانية وعالمية.
كذلك فانني اشتهر بتصنيع الآلات للمقاسات الصغيرة، بشكل خاص لصغار السن فأصنع "بيبي عود"، و"بيبي كمان" و"بيبي ساز" و"بيبي اكورديون" وغيرها ، وهي جميعها بالمواصفات عينها للآلات الكبيرة ويمكن للمحترف العزف عليها، بحيث ان الشروط كلها مستوفاة.
- هل المواد الاولية لصناعة الآلات متوافرة في هذه الفترة؟
منذ سنة وثلاثة اشهر اوقفنا التصنيع في شركتي "بيتر ميوزك اند مور" التي تعتني بتصنيع الآلات وترميم الآلات القديمة ايضاً. فأنا ارفض ان تموت اية آلة او ينقصها ما يعيقها عن العزف، إذ يجب تبقى الآلة الموسيقية في جهوزية تامة.
- ماذا عن مجالك كباحث موسيقي؟
كباحث نهم في المجال الموسيقي، كتبت 19 منهجاً للتعليم بالاساليب الخاصة، حتى اجنب طلاب الموسيقى المرور بالصعوبات عينها التي سبق ومررت بها مع بعض اساتذتي في صغري.
-هل اولادك في المجال عينه ؟
[caption id="attachment_85208" align="alignleft" width="326"] موهبة مبكرة..[/caption]حياتي هي الموسيقى واولادي هم الآلات الموسيقية .
-اذا انتقلنا للحديث عن سوق العمل، في اي من الالات ينقصنا عازفون هنا في لبنان، ونجد النجوم والمهرجانات الكبيرة تستعين بعازفين اجانب من جنسيات مختلفة. أيعود ذلك لنقص في مجال ما ؟
نحن بلد الخيرات وليس الويلات وحدها . هناك اشخاص مغمورون لا يضاء عليهم. واذا ما فتشنا، فإننا نجد الكثير من المواهب. ربما "كل فرنجي برنجي"...
كونشيرتو..أخضر!
[caption id="attachment_85214" align="alignleft" width="250"] في المحترف..[/caption]- ميدالية المغرب، جاءت بناء على اي ابداع قدمته ؟
لقد سبقتها ايضاً ميدالية ذهبية من تورنتو في كندا، واخرى من هنغاريا، وتركيا، بولندا، الهند، إفريقيا، وكرواتيا. من كندا حصلت على ميدالية ذهبية بناء على مشروع "غرين كونشرتو" الذي سبق واطلقته إحياءٍ للموسيقى في زمن كورونا، وتحديداً في 4-4 -2020، ولم تنل الصفحة إعجاب الجمهور العربي والشرقي فحسب، بل حازت اهتمام جميع الدول، لأنها تبث الأمل وسط كل السلبية الموجودة. وكان هدفها نقل الصورة الحلوة، اذ انني مصور فوتوغرافي ايضاً، اشتركت في معارض في لبنان وخارجه. في الفكر الـ"بيتري" (يقولها مبتسماً) "غرين كونشرتو" هو مشروع "اصغاء وتأمل". انطلقت من ناحية ان الموسيقى هي صوت الله على الارض، واول موسيقى عرفها الانسان كانت من خلال الطبيعة. احببت ان انقل للمحجور بسبب الفيروس الخبيث، وبدل ان يشاهد ما تتحفه به وسائل الاعلام من ويلات في هذا الزمن القاهر، ان اوصل الصورة الحلوة، صورة الزهرة ، المشهد الطبيعي الخلاب، الموحي، وارفقته بمثل يحفّز على التفكير او يردّنا الى حالة معينة. فمن كتبوا هذه الامثال من حول العالم، رحلوا عن هذه الدنيا وعادوا الى الطبيعة، التي هي الاساس والمنبع . وبما انني متخصص في مدى تأثير الموسيقى على الانسان والكائنات الحية، وجدت أنني قادر على بث هذه الروح الجميلة. فأطلقت "غرين كونشيرتو" تحت عنوان: "عينك على الطبيعة.. قلبها عليك".
ويشرح بيتر أكثر:
لقد وضعت موسيقاي الخاصة من خلال فيديو قصير على كل مشهد اخترته وكل مثل اصطفيته . بهذا الشكل ادخلت الطبيعة الى كل بيت . الطبيعة التي كافأتني واوصلتني الى جوائز عالمية . لما فقد الانسان الطبيعة فقد قيمه واخلاقه ، فهو تعدى عليها، ونحن ندفع الثمن بالامراض التي تحجرنا في بيوتنا. وأود بهذه المناسبة ان اخص بالذكر مع شكر خاص السيدة نور لطوف وهي رئيسة "الجمعية اللبنانية للمبتكرين" ، التي تسعى الى إبراز قدرات اللبنانيين على التحليق والابداع بما هو جميل ومفيد.
- هل من آلات طوّرت في صناعتها؟
أملك 21 اختراعاً، ووصلت الى 109 تطويرات، كما وأعدت إحياء آلات كانت منسية، بينها الـ"ساز" مثلاً، وهي الآلة التي لا تناسب قدرات موسيقانا الشرقية، كما عدت واحييت الـ "لوت" (وهي الة العود بعد انتقالها من الاندلس تم تطويرها في اوروبا لتصبح "لوت") فأعدت تصنيعها كما كانت في عصر النهضة. ويمكنني القول انني اعدت إحياء عصر الباروك ، من خلال "لوت باروك" و"فيولون
[caption id="attachment_85210" align="alignleft" width="349"] الموسيقي الكبير رفيق حبيقة يسلمه الكمان.[/caption]باروك" الالة التي لطالما احتلت المرتبة الاولى في مختلف الحقبات.
ويزيد مدرس الموسيقى:
غالبية الآلات الغربية المعروفة كانت انطلاقتها من الات موسيقية شرقية، كآلة الرباب مثلاً ، اصلها شرقي، كانت على وتر واحد ووصلت عند الغرب وتطورت لتصبح فيولون، واعطاها ستراديفاريوس هذا الشكل في اوائل العام 1700، لكن الشعب العربي عموماً لا يدون للاسف ، فكانت هذه الآلات تولد في شرقنا الا انها لا تكتسب اهميتها وتحظى بتأريخ لها الا عندما تطلع الى الخارج فتكتسب كل القيمة. وكم من آلة هي اليوم منسية لاننا اهملناها. وفي جانب آخر، اشير لكم بأنني صنعت الات خاصة بي، منها الات نفخ ومنها وترية، وذلك من خلال قطع تركن في المرآب او لا نستخدمها ، كما استخدم بعض أدوات المطبخ والمنزل..
- وهل منحتها اسماء معينة ؟
اعطيت بعضها اسماء. احداها سميتها "الحزين" واخرى "يالي" ، وهي آلة نفخ استخدمت فيها "توب دريناج" المكيّف، ويمكنكم الاطلاع عليها من خلال يوتيوب برنامج اقدمه على شاشة "شاريتي تي في" اسبوعياً تحت عنوان "أنا احب الموسيقى" حيث استعرض في كل حلقة آلة معينة تاريخها ومهاراتها واعزف عليها ، كما انني صنعت آلة من المكنسة، وهي الة نفخية تمتاز بـ 22 ثقباً ، ولهذه الآلة قصتها الخاصة .
[caption id="attachment_85212" align="alignleft" width="250"] جائزة لابداعه..[/caption]- وما هي هذه القصة؟
- كنت أدرّس في معهد في شارع الحمرا وغاب احد تلامذتي، وصودف انني كنت انظر من النافذة فوقعت عيناي على رجل ثمانيني يكنس امام احد المحلات، فاذا بصاحب المحل يخرج ويسمعه كلاماً نابياً ويدفشه بيديه ليعمل بشكل افضل. تأثرت جداً. نزلت وتكلمت معه وطيبت خاطره وكان حزيناً جداً، وقررت من خلال مكنسته هذه ان اصنع الة موسيقية "اكنس" بها الهموم عن قلوب الناس ، ولو ان صوتها حزين وباكٍ.