بقلم عبير انطون
إنها الذكرى المئوية للإبادة أو المجازر الأرمنية، إذ يختلف الوصف بما يتناسب وكل بلد. وبعد مئة عام لا يزال الاحفاد الأرمن أينما انتشروا متمسكين بجذورهموأصولهم ولغتهم وهويتهم الثقافية التي لم يقوَ عليها الذبح. ايلين خاتشادوريان واحدة من جيل الاحفاد والتي قتل أجدادها فتستعيد ذكراهم والإبادة بأغانٍ خاصة في <ألبوم> جديد لها صدر حديثاً باللغة الأرمنية مطعماً بالانكليزية. فماذا في الاغنيات؟ عم تخبر؟ وماذا قالت ايلين من وسط اسطنبول، المكان الرمز لبداية المجازر؟
لبنان أول من اعترف!
عام 2015 هي سنة رمزية جداً بالنسبة للأرمن، انها الذكرى المئوية الاولى للإبادة الأرمنية التي تعترف بها 24 دولة كإبادة فعلية، في حين تعترف بها دول أخرى كمجازر وتكتفي بذلك، كما فعل الرئيس الاميركي <باراك أوباما> الذي وعد بالاعتراف بإبادة الأرمن في حملته الانتخابية العام 2008 وكما فعل ايضاً مسؤولون آخرون في الإدارة الاميركية بحيث أقروا بأن ذبح مليون ونصف مليون أرمني او اقتيادهم الى الموت هو واقعة تاريخية معربين عن أسفهم لذلك من دون ان يستخدموا عبارة <إبادة> معتبرين ان <الاعتراف الكامل والصريح والعاجل بمجزرة الأرمن يصب في مصلحة الجميع، مصلحة تركيا وأرمينيا واميركا>.
ووسط دعوات لبنانية الى اعتبار يوم الرابع والعشرين من شهر نيسان/ أبريل يوم اقفال عام وحداد رسمي تخليداً لذكرى الشهداء الذي يستعيده الأرمن في لبنان وكل بلدان الانتشار، كان مجلس النواب اللبناني قد اصدر في العام 1997 قراراً بالاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية، ليكون اول بلد يعترف رسمياً بمذابح الأرمن التي ارتكبتها السلطات العثمانية في العام 1915 والتي كانت نتيجتها استشهاد 1,5 مليون أرمني. وكان مجلس النواب اللبناني قد اعترف ودان الإبادة الجماعية التي نظمت ضد الشعب الأرمني وأعرب عن تضامنه الكامل مع مطالب مواطنيه الأرمن، اذ اعتبر مجلس النواب ان الاعتراف بهذه الإبادة الجماعية ضروري للوقاية من جرائم مماثلة قد تحدث في المستقبل.
الإبادة موسيقياً...
من جهتهم، لا يمكن للأرمن ان ينسوا الذكرى وهم يستعيدونها بشتى الأشكال. ايلين خاتشادوريان فنانة شابة واحدة منهم، أرادت ان تساهم موسيقياً في الاعتراف بالإبادة الأرمنية.
منذ سبع سنوات، كان <ميدان> <ألبومها> الاول وجاء احياءً لأغانٍ أرمنية قديمة في قالب روك جميل. اليوم وبعد ست سنوات من البحث والتنقيب، بينها ديوان شعر أرمني استعارته من صديق لها منذ عشر سنوات، تصدر ايلين خاتشادوريان <تيترنيغ> ما ترجمته <فراشة> باللغة الأرمنية. انه <ألبومها> الثاني الشخصي جداً بحسب تعبيرها، كل أغنية فيه تحكي قصة موسيقية صغيرة في قوالب مختلفة يربطها خيط رفيع يتجلى بنفس ايلين الأرمني وهويتها. تختصر <ألبومها> بأنه حكاية تفكير ذاتي تتداخل فيه السياسة والأشعار، وقد سجلته في لندن في الاستوديو الشهير <اباي رود ستوديو>.
بعناية السنوات الست الفاصلة، ومسؤولية <الألبوم> الاول، وقد حازت عنه ايلين وفرقتها جائزة أفضل اسطوانة <روك> أرمني في حفلة توزيع جوائز الموسيقى الأرمنية على مسرح <نوكيا> في الولايات المتحدة في العام 2009، ارتأت ايلين الابتعاد عن <الروك> الذي ملّت منه نوعاً ما، وأرادت لصوتها ان يسمع بشكل أكبر. اختارت الشابة التي دخلت الموسيقى باكراً إلى وعيها عبر البيانو الذي كانت عمتها وجدّتها تتقنان عزفه ان تتجه الى الموسيقى الالكترونية في <الألبوم> الجديد حيث يبرز صوتها بشكل أكبر. لقد أحبت الموسيقى الكلاسيكية، خصوصاً موسيقى <بيتهوفن> و<روسيني>، وتأثرت بأصوات مهمّة ومؤثرة كأمّ كلثوم، وأسمهان، و<توري ايموس> و<كايت بوش>. يتضمن <ألبومها> الجديد تسع أغنيات، ثلاث منها من كتابتها وتلحينها، وبينها ما هو مميز جداً كتبه أحد الاصدقاء، ويروي غناءً ما تعرّض له الشعب الأرمني في المجازر التركية، ويقول فيها بلسان الشعب الأرمني وجيله الجديد:
<لقد عشنا إبادة آلاف الحروب ولا نزال نحيا في ارض لم نعش يوماً فيها، أرض تقبع فيها قلوبنا..>. هذه الأغنية قررتها ايلين باللغة الانكليزية حتى تصل الرسالة ويفهمها الجميع.. فالمغنية التي باتت متعلقة اكثر بكثير من ذي قبل بجذورها خاصة بعد سفرها الى أرمينيا وتركيا أرادت ان <تحارب بالموسيقى لقضية تعتبرها شخصية، اذ انه من غير العادل على الاطلاق ألا يتم الاعتراف بالإبادة>.
إنها رسالة..
تعتبر ايلين نفسها حاملة رسالة خاصة تجاه الموسيقى الأرمنية ونشرها وجعلها بمتناول البعيدين عن هذه الموسيقى، وبشكل خاص بالنسبة للشباب الأرمني الذين لا يعرفونها بغالبيتهم. لهذا البلد والشعب تراث تعتز به وتعرف ان جدها عاش التجربة المرة، فجد ايلين هو من بين مئات الرجال الذين ساروا في درب الموت الصعب، هذه الطريقة المخيفة والعنيفة حيث كان المسنون مع النساء والاطفال يجبرون على عبور المجالات الصحراوية في سوريا مشياً على الاقدام، وكانوا فيها يقتلون إما من قبل الجنود العثمانيين أو من التعب. فجد ايلين حين وصل الى حلب بعد سفر شاق كان قد فقد أهله وأصبح يتيماً.
أكثر من أغنية في <الألبوم> تتحدث عن الإبادة الأرمنية وتركز على رفض المجزرة، اما العنوان العريض للإصدار الجديد فهو الحب والحياة. ففي الاسطوانة ايضاً ما يتحدث عن النهضة وعن البقاء بعد الإبادة، لأن الشعب الأرمني أصبح اقوى من ذي قبل. اما النمط الطاغي في اسطوانة <فراشة> فهو نوع من <البوب> الأرمني، وذلك لأن الاجانب يهتمون بسماع أغنيات باللغة الأرمنية اكثر منها باللغة الانكليزية حيث يتعرفون هنا الى نمط ولغة جديدين.
سفر الفراشة..
عن سبب الفترة الطويلة التي استغرقها <الألبوم> الجديد، تعتبر خاتشادوريان انها رسخت هويتها او مسارها الفني اليوم وقد أضحت <المغنية التي تحيي الاغنيات التراثية> الى جانب الجديد طبعاً. لذلك فقد أبقت في إصدارها على أربع اغنيات أرمنية تقليدية حتى لا تقطع الصلة مع تعوّد الجمهور على ان يستمع إليها. تأخرت ايلين، لأنها كما تقول، أرادت معرفة نفسها كفنانة اكثر من ان تحدد ما تريده: <أنا لا أعرف كيف ولد هذا <الألبوم> فعلياً>، اذ كانت تتنقل ما بين ايطاليا والمانيا والهند واسبانيا وبريطانيا وارمينيا. <الألبوم> هو ثمرة هذه الأسفار واللقاءات. <كنت ضائعة، أكتب من دون ان أعرف اين سيؤدي بي فعل البوح هذا، وفي كل مكان كنت أكتب شيئاً..>. والتأخير ايضاً مرده الى انشغال ايلين بأمور عديدة بينها شريط <فيديو> وفيلم لمخرج ايطالي اشتركت فيه تمثيلاً تم تصويره بين لبنان واسبانيا.
من اسطنبول..
تختار خاتشادوريان كلماتها بعناية لأن اختيار الكلمات بالنسبة لها هو التزام فني ونضالي في الوقت عينه. اغنياتها عن الإبادة الأرمنية شاركت بها هذا الاسبوع أيضاً الى جانب 14 فناناً آخر من فناني الانتشار الأرمني جاؤوا من ارمينيا ونيويورك ولوس انجلوس كجزء من <المشروع الأرمني للعام 2015>، في احتفال الذكرى المئة للإبادة. اما المكان، وخلافاً لأي توقع، فكان في اسطنبول، العاصمة التركية، عاصمة البلد الذي يرفض الاعتراف بما جرى في تاريخه حتى اليوم. وقد أثار ما أدلى به البابا <فرنسيس> مؤخراً بوصفه <الأرمن بضحايا الإبادة الجماعية الاولى في القرن العشرين> حفيظة الرئيس التركي <رجب طيب اردوغان> متهماً إياه بالتحدث بـ<كلام فارغ> ومحذراً إياه من تكرار مثل هذه الملاحظات. فالأمر مكلف على جميع الصعد، اذ يستوجب الاعتراف من قبل تركيا بالإبادة الأرمنية ودفع كل ما يترتب عليها من تعويضات ومبالغ مالية للشعب الأرمني.
عن رمزيـــة اختيـــار اسطنبول، تقول ايلين: <المكان رمزي لأن المجزرة بدأت فيه حيث قُتل المفكرون الأرمن. لقــــد أظهــــر الفنانــــون المجتمعــــون وبينهم شعراء العالم اجمـــع ان قتـــــل الثقافـــــة الأرمنيــــة لم ينجح لذلك كان الغناء والتجمع في تلك البقعة تحديداً>.
أكثر من سبب..
أما عنوان <الألبوم> <فراشة>، فقد تم اختياره لدلالاته العديدة، فهو يستعيد جملة لـ<موراكامي> يؤكد فيها ان الفراشة هي نوع لا نعرف أين يولد ولا أين يموت، الا انه لجمال الفراشة العابر بصمة خاصة لا تمحى. كذلك فإن ايلين تنقلت بين رحاب حقول عدة. لقد ولدت في بيروت بعد اندلاع الحرب اللبنانية بثلاث سنوات وعاشت كالفراشة في تنقل دائم بين العاصمة الممزقة حينئذٍ وجزيرة قبرص.
في العشرين من عمرها سافرت الى كندا وبلجيكا و عاشت ايضاً في فرنسا. للبنان في قلبها مكانة لا تقهر، وهي تعيش <ارمينيتها> كحمل ثقيل جداً وكمصدر فخر في الوقت عينه. وتعترف ايلين، التي تقول بفخر اليوم انها لبنانية - أرمنية، انها كانت خلال طفولتها تخجل من ان تصرح بأنها أرمنية: <كنت أسرع بالإجابة انني فرنسية عندما أُسأل عن جنسيتي، لكنني وبعدما فقدت جدتي لوالدتي، شعرت وكأن شيئاً ما فيّ انكسر. شعرت أنني بحاجة الى إعادة الربط بجذوري، وبدأت أهتم بأرمينيا والمجازر التي جرت فيها، وهذا الشعور عرفته عندما كنت في فرنسا. ومنذ ذلك الحين، بدأت أغني باللغة الأرمنية>.
كذلك لعنوان <الألبوم> دلالة أخرى. هو تماماً كما تحركات الفراشة من حقل الى آخر، اذ تختلط الألوان والأشكال في عدة أنماط موسيقية حيث تمتزج الأصوات <الخام> بأخرى ناعمة سلسة تدخل الى القلب دون استئذان. وايضاً فالفراشة يوم تولد لا يمكن لأي كان ان يحدد سيرها او يعرف مسبقاً أين ستكون او الى أين تصل، وهكذا فإن كل اغنية في <الألبوم> يمكن ان تأخذنا الى ما ليس متوقعاً وليس معروفاً. وقد تكون ايلين الاولى في جيلها التي أعادت <الروك> الأرمني الى الاسماع. لقد اختارت <الفراشة> عنواناً لأنها بحسب رأيها كمن تخرج في <ألبومها> الثاني من شرنقتها التي عرفت بها في <ألبومها> الاول، فتتخذ لها حقل استكشاف جديد في <ألبومها> الثاني، وقد انتقلت به الى <الالكترو بوب> و<الالكترو روك> ايضاً.
تأمل ايلين ان تكون صوت الأجداد في ضمير الاحفاد، فلا ينسى هؤلاء عذابات أجدادهم ويبقون متمسكين بثقافتهم التي هي هويتهم. هي اليوم مرشحة ضمن خانة أفضل اصوات الانتشار الأرمني من حول العالم في حفل <انترتينمنت ميوزك اوارد> الذي سيجري في شهر أيار/ مايو المقبل من هذا العام في كاليفورنيا - الولايات المتحدة الاميركية. تأمل خاتشادوريان ان تقطف الجائزة التي لطالما دغدغت أحلامها فتهديها الى روح جدها الذي تتمسك يوماً بعد يوم بهويته على نحو أكبر.