أول رئيس روسي في مصر بعد غياب عشر سنوات. ويأتي الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> الى القاهرة، وهو واقع تحت ضغوط أميركية وأوروبية بسبب ما يسمى التدخل الروسي في أوكرانيا، وتسليح متمردي شرقي البلاد، حتى لا تنضم <أوكرانيا> الى الحلف الأطلسي ويصبح هذا الحلف على حدود روسيا. ومن زيارته المتميزة لمصر يريد الرئيس <بوتين> أن يثبت للغرب انه ليس في عزلة، وان العازل سوف يصبح مع الوقت معزولاً.
كانت علاقات مصر بروسيا، من زمن الاتحاد السوفييتي، قد مرت في حالة مد وجزر، وكانت المحطة السوداء فيها ممثلة بواقعتين:
* الأولى عندما جاء السفير السوفييتي في القاهرة الى الرئيس عبد الناصر باكراً وأيقظه من النوم، بعد اغلاق مضائق تيران ربيع عام 1967، وتمنى عليه باسم الاتحاد السوفييتي أن لا يكون البادئ بالحرب، وعندما استجاب الرئيس المصري للطلب السوفييتي، كانت اسرائيل هي البادئة بالهجوم على سيناء وقناة السويس والأردن، وسوريا، والبادئ باطلاق المدافع بلغة الحروب، هو الأكثر حظاً بكسب الحرب.
أما الواقعة السوداء الثانية فكانت تراجع صحة الرئيس عبد الناصر بعد استشفائه في منتجع <سخالتوبو> السوفييتي الصحي، وقيل إن بصمات طبية مشبوهة طبعت ذلك التراجع الصحي الذي أدى الى الوفاة يوم 28 أيلول (سبتمبر) 1970.
وظل المصريون يركزون على هاتين الواقعتين، حتى أمر الرئيس أنور السادات بطرد الخبراء السوفييت من مصر، وأشعل أزمة مع موسكو.
لكن كل هذه الأحداث والوقائع أصبحت وراء المصريين، وكان المطلوب هو الرد على السؤال: أين مصلحة مصر الآن مع روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي؟ وماذا يمكن لمصر أن تكسب من استضافتها المتميزة للرئيس <فلاديمير بوتين> في وقت تستجمع فيه دول حلف الأطلسي كل قواها وامكاناتها لفرض عقوبات مالية واقتصادية صارمة على روسيا بسبب تورطها في شرقي أوكرانيا؟
<بوتين> في دار الأوبرا
بداية كان هناك من الرئيس عبد الفتاح السيسي حرص على أن يكون استقبال الرئيس الروسي <بوتين> حدثاً تاريخياً، ومنقطع النظير، سواء بالسجاد الأحمر، و<المارشات> العسكرية المصرية والروسية، أو بإصرار الرئيس السيسي على التوجه بنفسه الى المطار لاستقبال ضيفه الروسي الكبير، ولو أنه كلف بذلك رئيس وزراء مصر المهندس ابراهيم محلب، لما كان البروتوكول عرضة للأذى، ولكن حرص الرئيس المصري على أن يستقبل ضيفه الروسي الكبير عند باب الطائرة كان له تأثيره على انفتاح العلاقة المصرية على مداها مع جمهورية الروسيا.
ومثلما استقبل الخديوي اسماعيل الامبراطورة <أوجيني> زوجة <نابوليون> الثالث عام 1869، بحفلة ضخمة في دار <الأوبرا> بالاستعراض الايطالي الكبير <عايدة>، للموسيقار <فيردي>، كذلك تميز اليوم الأول لوصول الرئيس <بوتين> الى القاهرة يوم الاثنين الماضي، بدعوة الى سهرة في دار <الأوبرا>. وفي موكب كبير توجه الرئيسان الى دار <الأوبرا> وسط لافتات الترحيب بضيف مصر، وانتشار صوره الملونة في نواصي الشوارع، وعلى كوبري أكتوبر، وقصر النيل وصولاً الى دار <الأوبرا>.
وعلى مدخل المسرح الكبير لدار <الأوبرا> كان في استقبال الرئيسين الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة، والدكتورة إيناس عبد الدايم مديرة دار <الأوبرا>، وعدد من الأطفال المصريين الذين قدموا باقات الزهور للرئيسين.
وبدخول الرئيسين قاعة المسرح وقف الجميع تحية لهما وسط عاصفة من التصفيق الحاد تعبيراً عن التقدير والاحترام للضيف الكريم ووسط حضور مكثف من الوزراء وفي مقدمتهم رئيس الحكومة المهندس ابراهيم محلب، والدكتور نبيل العربي أمين عام جامعة الدول العربية، إضافة الى عدد من الشخصيات العامة مثل الدكتور كمال الجنزوري وعمرو موسى والمهندس حسب الله الكفراوي والدكتور محمد فايق والدكتورة ميرفت التلاوي والسفير صلاح الصادق رئيس هيئة الاستعلامات، وحضور المسؤولين الروس وفي مقدمتهم <سيرغي لافروف> وزير الخارجية الروسي الذي لقي ترحيباً كبيراً من المسؤولين المصريين وخاصة من السيد عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق الذي تربطه علاقة جيدة معه.
سهرة مع الرئيس <بوتين>
بدأت العروض الفنية بقيادة المايسترو هشام جبر والمايسترو ناير ناجي بافتتاحية احتفالية ترحيب بعزف نشيد <انهض يا شعب روسيا> ثم عرض الفصل الرابع من رائعة <بحيرة البجع> لـ<تشايكوفسكي>، وتبعها تقديم رقصات شرقية فلكلورية من مؤلفات التراث المصري الفرعوني والأندلسي والصعيدي والاسكندراني والحجالة والزار. وقدمت أوركسترا القاهرة السيمفونية سيمفونية <شهرزاد> للموسيقار الروسي <ريمسكي كروساكوف>.
تخلل العرض فيلم وثائقي عن العلاقات التاريخية بين مصر وروسيا منذ الأربعينات وحتى الآن مروراً بفترة التوهج في الخمسينات والستينات. وضجت القاعة بالتصفيق 5 مرات لحظة ظهور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في موسكو مع الزعيم السوفييتي <نيكيتا خروشوف> ثم في السد العالي، ولحظة ظهور الرئيسين السيسي و<بوتين>، والفيلم من اخراج مجدي الهواري زوج الفنانة غادة عادل.
وكان السيسي و<بوتين> قد استقبلا في دار <الأوبرا> بورود يحملها طفلان، وشاهدا بابتهاج كبير مع أكثر من ألف ضيف ذلك الفيلم التسجيلي عن العلاقات المصرية ــ الروسية، وركز الفيلم على حيوية تلك العلاقات ومركزيتها أثناء فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر متجاهلاً ذلك الفتور الذي انتابها في سنوات حكم خلفه الرئيس الراحل أنور السادات.
والعروض الفنية التي شاهدها الرئيسان بعد ذلك مزجت بين الثقافتين المصرية والروسية. فعرضت فرق <الباليه> في الأوبرا جزءاً من <بحيرة البجع> للموسيقار الروسي <تشايكوفسكي>، ومن ثم كانت هناك عروض من الفولكلور المصري قبل أن يغادر الرئيسان مبنى دار <الأوبرا> الذي أعيد بناؤه بمعونة يابانية على الطراز الاسلامي الحديث.
وفي برج القاهرة تناول الرئيسان عشاء بأطباق مصرية خالصة، وهما يشاهدان من أعلى نقطة في البرج الشاهق معالم القاهرة. ومن ثم تبادل الرئيسان المصري والروسي الهدايا: السيسي أهدى ضيفه درعاً معدنياً على أحد جانبيه صورة <بوتين> وفي الجانب الآخر إهداء بالأحرف الفرعونية، و<بوتين> أهدى الرئيس السيسي بندقية آلية روسية الصنع من طراز <كلاشنكوف>.
هتافات: <بوتين بوتين.. سيسي.. سيسي.. تحيا مصر>
واختارت الرئاسة المصرية لاستضافة المحادثات المصرية ــ الروسية قصر القبة، أكبر القصور الرئاسية، فعُلقت على بوابات هذا القصر أعلام روسية ومصرية، وعند دخول <بوتين> لهذا القصر أطلقت 21 طلقة مدفع تحية لها، واستقبله الرئيس السيسي عند مدخل القصر، ثم عزفت الموسيقى العسكرية للسلامين الوطني لروسيا ومصر، ومن ثم استعرض الرئيسان حرس الشرف الذي اصطف لتحية الضيف الروسي الكبير، وفي مواجهته مجموعة من الأطفال وهم يلوحون بأعلام مصر وروسيا ويهتفون: <بوتين بوتين.. سيسي سيسي.. تحيا مصر>.
ولكن على ماذا اتفق الرئيسان في المباحثات؟!
كان الجواب واضحاً من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقداه في قصر القبة. فتولى الرئيس السيسي التأكيد على ثوابت العلاقات الاستراتيجية بين مصر وروسيا، والاتفاق على استمرار تبادل اللقاءات الرفيعة المستوى بين البلدين والتفاهم في شأن القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك.
وقال الرئيس السيسي إن زيارة الرئيس <بوتين> لمصر جاءت تأكيداً على تضامن روسيا مع مصر في حربها ضد الارهاب، وجرى الاتفاق على استمرار تعزيز التعاون العسكري بين البلدين في ظل الظروف الراهنة، إضافة الى دفع التعاون الاقتصادي والتجاري والتعاون في مجال تخزين الحبوب، وتيسير جهود إقامة منطقة التجارة الحرة بين مصر والاتحاد الجمركي الأوراسي، بما يوسع آفاق العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا وسائر دول الاتحاد، وإقامة منطقة حرة بين مصر وروسيا. كما نوقشت التحضيرات المصرية الجارية لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، وتطلع مصر الى المشاركة الروسية، إضافة الى تعزيز علاقات التعاون في مجال السياحة وتشجيع السياح الروس على زيارة مصر.
وفي مجالات الطاقة والاستخدامات السلمية للطاقة النووية في منطقة <الضبعة>، فضلاً عن مؤتمرات تفاهم في مجالي الكهرباء والغاز، وإقامة منطقة صناعية روسية شمال جبل <عتاقة> في السويس.
وقال <بوتين> في المؤتمر الصحفي:
<اتفقنا على امكان التعاون وتوفير فرص بالجملة في مجال الطاقة النووية، بحيث إذا تمكنا من الوصول الى قرارات نهائية، فإننا عندئذ سنتمكن من خلق قطاع جديد في الاقتصاد المصري أساسه بناء المحطة وتدريب الكوادر الفنية وتطوير البحوث العلمية في هذا المشروع المتكامل. كما جرى الاتفاق على بناء مفاعل نووي بتكنولوجيا روسية تتكون من أربع كتل طاقة كل كتلة منها 1200 ميغاواط>.
وفي السياسة توقع <بوتين> عقد جولة جديدة من المحادثات بين الحكومة السورية ومعارضيها، وأمل أن تؤدي الجولة الثانية من المحادثات في موسكو الى تسوية سلمية للوضع في سوريا.