العدوان الصهيوني على غزة دائم ومفتوح منذ إنشاء الكيان الغاصب عام 1948 ولم يبدأ اليوم من خلال عملية عسكرية جوية أطلق عليها اسم <الجرف الصامد>، وبدأت ليل الاثنين - الثلاثاء ما قبل الماضي بعد ما اتخذ قرار بهذا الشأن من مجلس الوزراء الاسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، بل ان العدوان يتكرر كل يوم احتلالاً وقتلاً وتدميراً وتجريفاً وحصاراً، ومن خلال استهداف لقيادات واعتقال ناشطين، وهو نسخة مكررة عن عملية <الرصاص المصبوب> التي أطلقها العدو ضد غزة يوم 27 كانون الأول/ ديسمبر من العام 2008 وامتدت حتى كانون الثاني/ يناير من العام 2009 وحصدت أكثر من 1200 شهيد فلسطيني أكثرهم من النساء والأطفال وحوالى 5300 جريح.
وعدوان اليوم الذي استهدف غزة بذريعة قتل ثلاثة مستوطنين صهاينة في الخليل من الضفة الغربية، لا يبرر استهداف غزة طالما أن لا أحد تبنى عملية خطف وقتل المستوطنين، علماً بأن مستوطنين آخرين خطفوا الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير (16 عاماً) من حي شعفاط في القدس المحتلة وأحرقوه حياً، بعد سكب البنزين على جسده وسقايته منه ومثلوا بجثته، لكن المسألة أبعد من ذلك، وهي تستهدف قطع الطريق على الوحدة الفلسطينية التي تجلّت من خلال توافق حركتي <فتح> و<حماس> على المشاركة في حكومة وحدة وطنية، حيث ان جيش العدو قام بالتحضير لهذه العملية واستدعى 40 ألف جندي من الاحتياط ووضع كل السيناريوهات أمامه، بما في ذلك القيام بعملية اجتياح بري، لكن الجانب الفلسطيني لم يقف مكتوف الأيدي وردّ على العدوان بالمثل، وأعلنت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة <الجهاد الإسلامي> عملية <البنيان المرصوص> وبدأت بقصف المستوطنات والمدن الصهيونية بالصواريخ، بما في ذلك العاصمة تل أبيب، فيما وجّهت كتائب الشهيد عز الدين القسام -الجناح العسكري لـ<حماس> تهديداً شديد اللهجة للعدو وأطلقت مئات الصواريخ التي طاولت عمق المدن الصهيونية، بما في ذلك تل أبيب والقدس وعسقلان وأسدود وحيفا والمطارات العسكرية ومعظم المستوطنات، وغطت بردّها مساحة الكيان كله ووصلت صواريخها الى مدى 160كلم، في وقت أكد رئيس المكتب السياسي لحركة <حماس> خالد مشعل من قطر وجود وساطة للتهدئة ووجه رسالة للزعماء العرب والعالم وقال: <كل منكم يقدم على قدر رجولته ونخوته وإنسانيته ومسؤولياته، ونأمل من الأمة والعالم الحر خيراً لكننا لن ننتظر أحداً لأن الله ناصرنا>.
وقال مشعل انه إذا أراد العالم وقف شلال الدم، فعليه أن يخطو خطوتين: أولاً الضغط على رئيس وزراء العدو <بنيامين نتنياهو> وعصابته المجرمة، لوقف العدوان على الضفة والقطاع وكل أرضنا، وثانياً أن يضغطوا عليه ليغير سياسته تجاه شعبنا، لافتاً الى أن الكيان الاسرائيلي أعلن الحرب على الفلسطينيين بعد تشكيل حكومة التوافق الوطني، وبدأ يخرب المصالحة ويضغط على السلطة لتمزيق اتفاقية المصالحة مع حماس وشدد الحصار على غزة بهدف تجويعها.
وتواصل اسرائيل في اليوم التاسع للعدوان حتى صباح الأربعاء الماضي لحظة كتابة هذه السطور استهداف القطاع بمئات من الغارات التي أدت الى استشهاد أكثر من 204 مواطنين وإصابة أكثر من 1532 بجروح بينهم إصابات خطرة، وقد ركزت الطائرات المغيرة على المنازل، خاصة منازل الناشطين والقادة حتى انها استهدفت منزل القيادي في سرايا القدس حافظ حمد بصاروخ أدى الى استشهاده هو ووالديه وزوجته واثنين من أطفاله، ولم ينجو من المجزرة سوى طفل واحد، لكن المفارقة ان ثلث الضحايا هم من الاطفال والنساء والشيوخ، وان 70 منهم من المدنيين حتى ان عائلات أبيدت بكاملها كحال عائلة البطش التي سقط لها 18 شهيداً.
وفيما أعلنت كتائب القسام انها أعدت العدة لمعركة طويلة ولم تستخدم إلا القليل من ترسانتها، حذرت الإسرائيليين من عواقب اجتياح بري محتمل، وقال المتحدث باسمها أبو عبيده ان الكتائب تستعد لحرب تستمر لأسابيع وأن وزير الدفاع الاسرائيلي <موشي يعلون> الذي يلوّح باجتياح غزة، سيدفع الثمن، بحيث ان أطفال غزة سيلعبون بجماجم جنوده وسيتم أسرهم لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، كاشفاً عن تسلل مقاتلين من القسام الى قاعدة <زيكيم> البحرية على شاطئ عسقلان واشتباكهم مع جنود القادة، فيما قال المتحدث باسم جيش العدوان بأن أربعة من المهاجمين قتلوا...
وقد أطلقت مصر في اليوم الثامن للعدوان مبادرة تطالب بوقف فوري لإطلاق النار، وهي تنص على أن تقوم اسرائيل بوقف جميع الأعمال العدائية على قطاع غزة براً وبحراً وجواً، وتقوم الفصائل الفلسطينية في المقابل بالمثل براً وبحراً وجواً وتحت الأرض أي عبر الانفاق، وتفتح المعابر، وتسهل حركة العبور الحدودية. وكان يجب أن يتم وقف النار يوم الثلاثاء الماضي بعدما وافقت اسرائيل على المبادرة فيما رفضتها حركة <حماس> و<الجهاد الاسلامي> بحجة أن المبادرة غير متوازنة، وتنص في جانب منها على وقف تصنيع الصواريخ، فيما قال نائب رئيس المكتب السياسي لـ<حماس> اسماعيل هنية ان اي تهدئة لا تتضمن رفع الحصار عن قطاع غزة ووقف الاعتداءات في الضفة والقدس فهي مرفوضة، مؤكداً أن هذا الوضع يجب أن يتغير وأن ينتهي الحصار وأن يعيش الشعب الفلسطيني حراً مثل كل شعوب العالم بدون استباحة من الاحتلال، مشيراً الى أن الاتفاقات السابقة تنصل منها العدو وألغى الحدود البحرية وأبقى على إغلاق المعابر والمنطقة باستثناء كرم أبو سالم جزئياً وألغى المنطقة الحدودية ودمر البنية ثم تطور الى القتل وعدوان الجرف الصامت.
وكشفت مصادر دبلوماسية أن <حماس> رفضت المبادرة لأنها تريد اشراك قطر وتركيا في الرعاية الى جانب مصر وتريد ضمانات باحترام الاتفاقيات وعدم خرقها من قبل العدو.
وفيما رحّب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بالمبادرة المصرية ووصل الى مصر للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، دعا مجلس الأمن الدولي لوقف اطلاق النار بعد اجتماعه يوم السبت الماضي بعد موافقة الأعضاء الـ15 على البيان الصادر عنه، داعياً الى وقف القتال والدخول في محادثات السلام واحترام قوانين حقوق الإنسان بما في ذلك حماية المدنيين.
من جانبها رحبت الجامعة العربية بالمبادرة بعد اجتماع المجلس الوزاري العربي في القاهرة يوم الاثنين الماضي، فيما عرض الرئيس الأميركي <باراك أوباما> وساطته لوقف اطلاق النار مبدئياً خلال اتصاله برئيس وزراء العدو <بنيامين نتنياهو> الاستعداد لتأمين العودة الى اتفاق وقف اطلاق النار الذي أبرم في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2012.
صواريخ المقاومة تطاول كل أراضي الكيان
وقد كشفت الحرب على غزة ان المقاومة الفلسطينية طوّرت من قدرتها العسكرية لاسيما الصاروخية منها وأطلقت مئات الصواريخ بمعدل صاروخ كل عشر دقائق، غطت معظم مساحة الكيان الصهيوني، واستهدفت كل المدن في القدس وتل أبيب وحيفا، ووصلت الى مفاعل <ديمونا> النووي ومطار <رامون> العسكري و<الخضير> التي تبعد 116 كلم عن غزة وصحراء النقب وعسقلان ومعظم المستوطنات الصهيونية. ولم ينفع <نظام القبة الحديدية> في اعتراض الصواريخ إلا القليل منها، ما أجبر سكان الكيان على النزول الى الملاجئ ووقف العمل بأعمال المستوطنات وإغلاق الطرق وتحويل الرحلات من مطار <بن غورين> الدولي وتغيير المسار الجوي للطائرات المدنية بعدما استهدف المطار بعدة صواريخ، ووقف التجمعات السكنية والسياحية بعدما استهدف المطار.
وليس هذا فحسب بل أدخلت <حماس> الى المعركة عنصر الطائرات الاستطلاعية كمفاجأة صاعقة، وقالت انها من صناعتها واسمها <أبابيل> اشتقاقاً من الآية الكريمة (وأرسل عليهم طيراً أبابيل) وقد انتجت منها ثلاثة نماذج وقد قامت هذه الطائرات بطلعات فوق تل أبيب والمطارات الاسرائيلية ومفاعل <ديمونا> وغيرها من المواقع وأسقطت اسرائيل اثنتين منها.
ويعود استخدام الصواريخ في غزة الى العام 2001 بعد سنة من اندلاع انتفاضة الاقصى عام 2000، حيث أعلنت <حماس> عن إطلاق صاروخ <القسام> من غزة وبلغ مداه 4 كلم واستهدف آنذاك مستعمرة <سديروت> شمال القطاع، ثم ظهرت بعد ذلك صواريخ أخرى طورتها المقاومة وهي <القدس> و<الأقصى> و<ناصر>. الى أن تصاعد تطور هذه الصواريخ في حرب 2008 ووصل الى تهديد عمق الكيان لتأتي حرب 2012 التي سميت آنذاك بـ<عمود السحاب>.
وكشفت <حماس> عن صواريخ بعيدة المدى قصفت خلالها القدس بصاروخ <أم 75> وصاروخ <فجر> الإيراني، إلا أن هذه الحرب كشفت المزيد من ترسانة صواريخ المقاومة ومنها استعمال صاروخ <أم 75> بحيث يرمز حرف <أم> الى القائد في <حماس> ابراهيم المقادمة الذي اغتالته اسرائيل عام 2003، وهو صاروخ من تكنولوجيا كورية شمالية وإنتاج سوري ومداه 75 كلم ووزن رأسه الحربي 175 كلغ، وأطلق باتجاه تل أبيب والقدس و<ديمونا> وغيرها، بالإضافة الى استعمالها صاروخ <آر 160> الذي وصل الى حيفا وهو مطوّر محلياً واسمه يرمز الى شهيد حركة <حماس> القائد عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتالته اسرائيل، ناهيك عن صاروخ <جي 80> الذي يرمز الى القائد أحمد <الجعبري> الذي اغتالته اسرائيل أيضاً، بالإضافة الى صاروخ <أم 302> الذي يصل مداه الى 160 كلم وقد قُصفت به مدينة <عدرا> الساحلية على بعد 96 كلم من شمالي القطاع.
غزة في التاريخ
قطاع غزة يقع على الساحل الفلسطيني المشرف على البحر الأبيض المتوسط على شكل شريط ضيق شمال شرق شبه جزيرة سيناء، ويشكل تقريباً 1,33 بالمئة من مدينة فلسطين التاريخية ويمتد على مسافة 360 كلم مربع فقط وطوله 41 كلم وعرضه بين 5 و15 كلم ويحده اسرائيل شمالاً وشرقاً ومصر من الجنوب الغربي.
وتعود تسمية غزة بهذا الاسم لأن المصريين القدماء أسموها <غازاتو> وسماه العرب <غزة هاشم> نسبة الى هاشم بن عبد مناف جد الرسول (صلعم) الذي مات فيها وهو عائد بتجارته الى الحجاز.
وكانت غزة جزءاً من الانتداب البريطاني على فلسطين حتى الغائه عام 1948، وفي خطة التقسيم فلسطين كانت من ضمن الدولة العربية الفلسطينية، لكن الخطة لم تنفذ، وأعلنت دولة الكيان الغاصب على الأراضي ما قبل العام 1948، فيما ألحقت الضفة بالحكم الأردني وغزة بالحكم العسكري المصري، الى أن حصلت حرب النكبة عام 1967 فاحتلت اسرائيل القطاع مع شبه جزيرة سيناء، وابقت على احتلالها للقطاع بعد انسحابها من سيناء عام 1982 بعد معاهدة السلام المصرية ـــ الاسرائيلية الى أن عمدت عام 2005 الى إزالة المستوطنات من القطاع والانسحاب منه يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر في ذلك العام وإعلانها إنهاء الحكم العسكري في القطاع.
وكانت غزة جزءاً من السلطة الفلسطينية التي أقيمت في الضفة والقطاع عام 1994 لكن بعد الانتخابات النيابية التي جرت عام 2006 وفازت <حماس> فيها بأغلب المقاعد في المجلس التشريعي بدأ الخلاف الفلسطيني لاسيما بين <فتح> و<حماس> وتحول الى تصادم عسكري عمدت <حماس> بعده الى الحسم العسكري في غزة يوم 4 حزيران/ يونيو من العام 2007 وسيطرت على كامل القطاع وأنشئت بالتالي حكومتان: واحدة في الضفة برئاسة سلام فياض والثانية في غزة برئاسة اسماعيل هنية واستمر الحال على هذا المنوال حتى الاتفاق مؤخراً على تشكيل حكومة التوافق الوطني برئاسة رامي الحمد لله في أول حزيران/ يونيو من هذا العام لتنهي 7 سنوات من الانقسام الفلسطيني، لكن <نتنياهو> رفض ذلك ودعا المجتمع الدولي لعدم الاعتراف
بها، وأعلن الحرب على غزة بحجة خطف المستوطنين وقتلهم، لكن السحر انقلب على الساحر وباتت اسرائيل في موقف العاجز عن الحسم ووافق على المبادرة المصرية حفظاً لماء الوجه.
وعلى كل فالأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات وترخي بتداعياتها على المنطقة بأسرها بدءاً من لبنان الذي شهد اطلاق أربع صليات من الصواريخ العشوائية باتجاه فلسطين المحتلة وردت اسرائيل بقصف قرى لبنان بمدفعية الدبابات، في وقت أطلقت من الجولان المحرر صواريخ باتجاه فلسطين ردت عليها اسرائيل بقصف من الطائرات الحربية طاولت القنيطرة ووقع شهداء وجرحى، وبالتالي إذا توسع نطاق الحرب وغامرت اسرائيل بحرب برية ضد القطاع فمن الممكن أن تشهد تحولات دراماتيكية في أكثر من منطقة وتحركات عسكرية ومواقف سياسية وديبلوماسية وشعبية عربية رادعة للعدوان بدءاً من قطع العلاقات أو على الأقل تجميدها ووقف التعامل مع الكيان الغاصب، حتى ان مصر التي أطلقت مبادرة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تطورت الأمور نحو الأسوأ وسيكون لها موقف رادع يساهم في وقف العدوان آجلاً أم عاجلاً.