بكّر البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في الانتقال هذه السنة الى المقر البطريركي الصيفي في الديمان، خلافاً للعادة التي كان يتم الانتقال فيها خلال النصف الثاني من تموز/ يوليو، وبدا أن سيد بكركي آثر أن تبدأ <الصيفية> مع مطلع شهر تموز/ يوليو ليتفادى ليس فقط حرّ الصيف الذي بدت طلائعه بحرارة مرتفعة، بل كذلك للحدّ من زوار بكركي الذين يطالبونه بخطوات عملية لإخراج الاستحقاق الرئاسي من مرحلة الجمود التي يعاني منها منذ نهاية شهر أيار/ مايو الماضي. صحيح أن الديمان ليست بعيدة جغرافياً، لكن التوجه إليها يحتاج الى فترة زمنية تفوق تلك التي يستغرقها الوصول الى بكركي.
العارفون بالشؤون البطريركية يتحدثون عن <انزعاج> البطريرك مما آلت إليه الأوضاع السياسية، مع تعذر الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية، وتنامي الحديث عن <اهتمامات أخرى> تشغل المجتمع الدولي الذي كان قد أوصل رسائل الى البطريرك قبل توجهه الى الديمان خلاصتها أن الأجواء الدولية لا توحي بإمكانية حصول <تدخل نوعي> يؤدي الى انتخاب الرئيس العتيد، لاسيما وأن التطورات الأمنية التي تسارعت في العراق فرضت أجندة جديدة على الاهتمامات الدولية، وأن التحرك الذي بدأه الفرنسيون بقرار من الرئيس <فرنسوا هولاند> بقي في إطار <الاستطلاع والتشاور>، ولم يلج بعد مرحلة تكوين <لوبي> يصب في مصلحة رئيس لبناني جديد يريده البطريرك في أقرب وقت ممكن، فيما يعتبر الفرنسيون أن المسألة تتطلب وقتاً إضافياً، وهو ما أبلغه الرئيس الفرنسي <هولاند> لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، عندما استقبله في قصر <الإليزيه> الأسبوع الماضي.
لا موفد بابوياً...
ويتحدث البطريرك الراعي أمام زواره عن <الكثير من الجهد> الذي بُذل محلياً وإقليمياً ودولياً لإخراج الاستحقاق الرئاسي اللبناني من عنق الزجاجة، لكن غياب <الحماسة> اللبنانية للتجاوب مع <المواصفات> الدولية للرئيس العتيد جعل المساعي المبذولة تدور في حلقة مفرغة رغم التواصل الذي سُجل قبل أيام بين الكرسي الرسولي والاتحاد الروسي لحماية الموقع المسيحي الأرفع في الشرق، أي رئاسة الجمهورية، إلا أن <اللانتيجة> التي سجلت حتى الآن لن توقف المساعي الدولية، وفقاً لما يقول البطريرك، بدليل ما سُجل من اتصالات مع إيران ظلت بعيدة عن الأضواء، في وقت نفى فيه مصدر مطلع لـ<الأفكار> أن يكون البابا <فرنسيس> قرّر إيفاد مبعوث بابوي الى لبنان للقاء المسؤولين والقيادات السياسية فيه وتحريك الملف الرئاسي المجمّد منذ أسابيع. وأشار المصدر الى أن الدوائر الفاتيكانية مستمرة في متابعة الملف اللبناني بأسلوبها الديبلوماسي الهادئ الذي لا يستفز أحداً والذي يبقى الأساس في العمل الديبلوماسي البابوي الذي تظهر عادة نتائجه <في الوقت المناسب>. ويؤكد المصدر أن التواصل البابوي مع الملف الرئاسي اللبناني يتم من خلال السفير البابوي المونسنيور <غبرياللي كاتشا> الذي أكد لوزير سابق زاره الأسبوع الماضي أن المتابعة البابوية <حثيثة> من خلال القنوات الديبلوماسية المفتوحة مع باريس وطهران وواشنطن، على أن تشمل لاحقاً الحلقة السعودية إذا ما حصل أي تقدم في المفاوضات الجارية على أكثر من خط.
ويرى المصدر نفسه أن مجيء مطران أو كاردينال من الكرسي الرسولي الى لبنان لحضور قداس ما أو سيامة كاهن أو أسقف لا يعني أنه مكلف من الأب الأقدس بإثارة الملف الرئاسي مع محدثيه، لأن كل ما يتصل بالوضع اللبناني يتولاه وزير الخارجية المونسنيور <مابرتي> بتكليف من البابا مباشرة، وبالتالي فإن آوان مجيء موفد بابوي لم يحن بعد، ولن يكون متوافراً، إلا عندما يُسجل الملف تقدماً لافتاً بحيث يساهم الموفد البابوي - عندما يتقرر مجيئه - في تذليل عقبات <آخر ساعة> وتحفظات من هنا وهناك، إضافة الى أن السفارة البابوية في حريصا باتت <محجاً> للسياسيين اللبنانيين الذين يترددون على المونسنيور <كاتشا> ويزودونه بآخر التطورات حتى يكون على بينة منها ويرسل الى الفاتيكان كل المعطيات التي تجعله ـــ أي الفاتيكان ـــ يحسم خياراته في ما خص الملف الرئاسي.
الراعي علّق تحركه!
ويبدو من خلال زوار الديمان أن البطريرك الراعي سيعلّق في الأسبوعين المقبلين أي تحرك له خارج الكرسي البطريركي، تاركاً لمطارنته، الذين يثق بهم، مهمة التواصل مع القيادات السياسية التي لن يوجه لها دعوة قريبة للقاء في بكركي أو في أي مكان آخر برئاسته، تفادياً لأي حدث أمني ليس الآن وقته أو أسبابه. ولعل الصمت في الصرح البطريركي الذي قوبلت به مبادرة العماد عون وعدم صدور أي موقف مباشر أو غير مباشر، ما دفع بالاعتقاد أن بكركي <غاضبة> من الطرح العوني سواء من خلال توقيته أو من خلال مضمونه. وفي هذا الانطباع <بعض الحقيقة> التي لم تكتمل مفاعيلها بعد، إذ ان البطريرك يكتفي بالتأكيد على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع وقت، متفادياً الحديث مباشرة عن مبادرة العماد عون وإن كان مضمون المبادرة لم يفاجئ البطريرك بقدر ما فاجأته ردود الفعل التي صدرت بعد أقل من دقيقتين من انتهاء المؤتمر الصحافي، ما يعني استطراداً أن المبادرة العونية <مثالية> في المبدأ، لكنها صعبة التحقيق في الظرف الراهن.
وإذا كانت بكركي (أو الديمان) تتخوف من أن يطول الفراغ الرئاسي في ضوء ما يصلها من معلومات من ديبلوماسيين وزوار متابعين، فإنها ترى في المقابل أن المجتمع المسيحي لم يعد يتناغم مع <المغامرات> التي يُدعى هذا المجتمع الى خوضها خصوصاً إذا كانت ظروفها غير مؤاتية. وفي مفهوم البطريرك أنه قام بما يفترض أن يقوم به من دور وسعى الى تذليل العقبات الشكلية والعميقة، وتقريب وجهات النظر بين المختلفين، لكن جهوده اصطدمت بعدم وجود رغبة لدى القيادة المسيحية بالتعاطي بشفافية مع هذا الاستحقاق ووضع كل الخلافات حياله على الطاولة <وتشريحها> وصولاً الى <التفاهمات> ولو تدريجياً لأن تراكم الخلافات لن يقدم أي نتاج تسووي وسط متغيرات متسارعة ينتظر أن تحمل خلال الأيام الآتية الكثير من المفاجآت السياسية والميدانية.
ولا يعتقد المتابعون أن إمكانية اقناع القيادات المارونية بتبديل مواقفها واردة في الوقت الحاضر، بل تحتاج الى أسابيع أو أكثر، علماً أن الكلام حول ارتباط الاستحقاق الرئاسي اللبناني باستحقاقات أخرى إقليمية ودولية بات حقيقة قائمة، وهذا ما يعرفه البطريرك الماروني وغالبية المتابعين معه هذا الملف.