كنا في الماضي ننظر إلى حروب أفريقيا فلا نفهمها، ونقرر من بعيد أن المعارك الدموية في هذا البلد أو ذاك هي بين قبائل متناحرة عرقياً أو ضد دكتاتور بربري يمص دم شعبه (فعلياً وليس فقط مجازياً) أو بين فصائل ثوار تمكنوا من الانقلاب على الحكم ثم اختلفوا في توزيع الغنائم. كل تلك الحروب التي ظنناها بعيدة وغريبة تماماً عن شكل مجتمعاتنا كانت عائدة بنظرنا إلى جهل مطبق وأمية شبه مطلقة لا تمت إلينا بصلة. اليوم أصبح العالم العربي والشرق الأوسط جزءاً من هذا الواقع بحلة مذهبية مريرة والمؤسف أنها لن تختفي بين ليلة وضحاها.
ليس الوقت الآن وقت محاسبة من أوصلنا إلى هنا وكيف <تأفرقنا> تماماً في أقل من ثلاث سنوات. هي عقود من الأخطاء السياسية والإقتصادية المتراكمة التي تتحمل الشعوب المنقادة كالإبل مسؤوليتها قبل الحكام. ولكن لا يمكن فصلها عن الصراع مع إسرائيل. لولا إسرائيل لكان الوضع العربي أفضل مما هو عليه اليوم. لولا إسرائيل لما احتجنا لهذه الأنظمة الممانعة التي رسخت الظلم الإجتماعي بكل أشكاله. لولا حجة إسرائيل لما كانت كل هذه الموازنات العسكرية تنفق بلا حساب ثم تهدر أيضاً بلا حساب، ولما كان القمع الأمني والسياسي والفكري والثقافي مقبولاً على مدى حوالى نصف قرن في بلاد أسست للحضارة الكونية.
المشكلة أن إسرائيل باقية في المدى المنظور. حتى إزالتها لو حصلت فستكون متأخرة لأن زلزال الجهل ضرب منطقتنا رغم كل العلم والتكنولوجيا والتطور الذي يطبع هذا العصر. الأغرب في الحالة التي نحن فيها هو كيف يتم تطويع التكنولوجيا في خدمة الجهل. <التويتر> ينقل أخبار قطع الرؤوس، والـ<يوتيوب> يبث صور الذبح، و«الفايسبوك» يستخدم لتجنيد وتوظيف <الدعشاء>. لذلك لا بد من توصيف الجهل في حالتنا. فهو بالتأكيد ليس جهلاً تكنولوجياً أو علمياً، بل هو أقرب إلى الجهل الفكري والثقافي والتربوي رغم أن معظم قياديي المجموعات الإرهابية هم جامعيون.
هذا الكلام يقود للبحث الجدي في سلسلة الرتب والرواتب. في المبدأ الهيئات الإقتصادية محقة في معارضة السلسلة لأن كلفة تمويلها بالطريقة المطروحة ستهد اقتصاد البلد. ولكن في الحقيقة والواقع فإن مستقبل البلد مرهون بشكل الأداء التربوي فيه. إن كان الأستاذ يذهب ليعلم أجيال المستقبل بالحقد والإحساس العميق بالظلم فهو لا بد أن يعزز الحالة نفسها التي نحن فيها مهما كان تفانيه الوظيفي وتعاليه الأخلاقي. يجب إعطاء المدرسين حقهم وشحذهم لبث قواعد التربية الصحيحة في عقول أولاد اليوم، رواد الغد. ولا يكفي استنباط حل حسابي ميكانيكي صرف ترفع من خلاله الضريبة على القيمة المضافة فيحصل المعلمون على بعض حقوقهم ثم يعانون مع بقية الناس من غلاء المعيشة. لا بد من وضع خطة تربوية شاملة ترسم للمدرس الخطوط العريضة لمستقبله الإجتماعي فيصبح ضمانة ضد الجهل الآتي إلينا من كل حدب وصوب.
تسليح الجيش والوقوف وراءه بالمطلق أمام الهجمة الإرهابية التي تهدد كيان الوطن، يوازيان أهمية إنصاف المعلمين المسؤولين عن زرع بذور لبنان المستقبل. وأي هبة أو مساعدة للجيش يجب أن يقابلها دعم حقيقي للمعلمين. الأمر اليوم في عهدة وزير التربية الياس أبو صعب الذي أسس ثقافة علمية ناجحة في الجامعة الأميركية في دبي ولكنه يتخبط اليوم في المعمعة السياسية اللبنانية. المطلوب منه سحب مشروع السلسلة كما هو مقترح وتحويله إلى خطة تربوية شاملة تضمن للمعلمين حقوقهم... وللبلد مستقبله .