هناك خاسرون كبار ورابحون كبار من إنخفاض أسعار النفط إلى ما دون 70 دولار للبرميل. أهم الخاسرين هم أصحاب الشركات الأميركية المستثمرة في النفط الصخري والتي ستضطر الى خفض استثماراتها ودراسة إمكانية الإبطاء أو التوقف التام عن التنقيب والإستخراج حتى تعود أسعار النفط إلى مستوى ٨٠ دولار للبرميل. كما أن الشركات الصينية التي كانت قد بدأت تستعد للإستثمار في إستخراج النفط الصخري في الصين أجلت كل مشاريعها في الوقت الحاضر. فنزويلا ودول أفريقية كثيرة ستعاني من إنخفاض الأسعار لأن كل مشاريعها الإقتصادية بنيت على سعر ١٠٠ دولار للبرميل.
تأتي روسيا وإيران أيضاً في مجموعة الخاسرين الكبار رغم مكابرة الدولتين. إيران لم تعترض كثيراً على قرار <أوبيك> بإبقاء إنتاج دول المنظمة تحت سقف ٣٠ مليون برميل يومياً مع أن الإنخفاض الذي تلا هذا القرار يشل كل قدراتها المالية. ولن تتمكن إيران من دعم الحوثيين ونظام الأسد وحزب الله بالطريقة نفسها في ظل سعر بترول يتهاوى. هي ستعاني لوقف التضخم الإقتصادي الذي ينهش في قيمة عملتها. إيران لن تكون في آذار (مارس) ٢٠١٥ وهو موعد البت في الإتفاق المبدئي مع الغرب أو حزيران (يونيو) ٢٠١٥ وهو تاريخ التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن منظومتها النووية ما هي عليه اليوم. المفروض أن تصبح دولة قلقة إقتصادياً ومالياً. وإذا لم تكن كذلك، فلا بأس من إستمرار إنخفاض الأسعار سنة أخرى أو سنتين أخريين... على الأقل هذا ما تبتغيه المملكة السعودية التي ترى في أحداث اليمن وسوريا والعراق واليد الإيرانية الطولى فيها خطر أشد من تراجع سعر برميل النفط.
روسيا أيضاً خسرت كثيراً. ورغم اللامبالاة التي يظهرها الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين>، فإن الأرقام تؤكد أن روسيا ستشهد إنكماشاً إقتصادياً في ٢٠١٥ حتى بعد أن تلغي العديد من المشاريع الداخلية. كما أن عناد الرئيس الروسي في <اوكرانيا> سيكلف شركة الغاز الروسية <غازبروم> أكثر من ٧٠٠ مليون دولار لاضطرارها إلى بيع الغاز بأسعار مخفضة إلى تركيا مقابل قبول الأخيرة بتمديد خط الغاز من خلالها إلى دول البلقان بعدما رفضت بلغاريا ذلك بضغط من الإتحاد الأوروبي. كما أن <غازبروم> يمكن أن تخسر حوالى ما يقارب مئة مليار دولار من أصل أربعة مئة مليار كانت ممكنة خلال الخمس عشرة سنة المقبلة من خلال بيع الغاز إلى الصين وآسيا.
أحد الرابحين الكبار من كل ذلك هي تركيا <اردوغان>. فهي تشهد انتعاشة إقتصادية بسبب إنخفاض أسعار النفط والغاز لأنها مستوردة كبيرة. كما أن عدم مجاراتها الغرب في العقوبات على روسيا فتح أبواب الأسواق الروسية على مصراعيها أمام الشركات التركية. الرابحة الأخرى هي الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين حيث فاتورة إستيراد الطاقة ستنخفض أكثر من ٤٠ مليار دولار سنوياً مع هبوط الأسعار.
يبقى أهم رابح من كل ذلك هو الدولار الأميركي. فعقب سياسة التخفيف الكمي (Quantitative Easing) كان الكل يتخوف من جموح تضخمي نظراً لكم العملة الهائل الموجود في الأسواق. ولكن نزول أسعار النفط عزز القوة الشرائية للمستهلك الأميركي مما سيساعد في تمتين مستوى النمو الإقتصادي في الولايات المتحدة ويزيد من قوة الدولار خاصة مع إستعداد الإحتياطي الفدرالي الأميركي لرفع أسعار الفائدة مع منتصف السنة المقبلة بربع في المئة على الأقل.
لبنان من الرابحين في معركة الطاقة العالمية، على الأقل في المدى القريب. الفاتورة النفطية تثقل كاهل المواطن وخزينة الدولة في وقت واحد ومع تراجعها سيتراجع مستوى العجز في الموازنة. ورغم تخوف حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة من تراجع التحويلات من الخليج بسبب إمكانية تراجع النمو الإقتصادي في الدول النفطية وبالتالي تراجع مداخيل اللبنانيين هناك، فإن القطاع المصرفي اللبناني يمكن أن يجتذب المزيد من الودائع بسبب المستوى المرتفع للفوائد في لبنان. كما أن الليرة ستزداد إستقراراً مع الدولار القوي وتراجع فاتورة الإستيراد.
في الوقت نفسه، على لبنان أن يتأقلم مع البطء في ملف النفط والغاز. ففي ظل إنخفاض الأسعار، ستتراجع شهية الإستثمار الدولي في بحرنا ولن نحصل على ما كنا نطمح به من أموال مقابل حقوق الإستخراج والبيع. هذا يعني أن مهمة الإصلاح الإقتصادي والمالي والإداري أصبحت أكثر إلحاحاً وأقل اعتماداً على مداخيل المستقبل النفطي.
من المؤكد أن ما نشهده اليوم هو إعادة ترتيب الخارطة النفطية في العالم مع كل ما لذلك من مفاعيل سياسية وإقتصادية. لم يكن أحد يتوقع أن تصل أسعار النفط إلى المستويات الحالية ولا يمكن الأخذ بأي توقعات جديدة، رغم توافق الخبراء على أننا لن نرى أسعار نفط بمستوى مئة دولار للبرميل لعدة سنوات.