لم يكن الاجتماع الديبلوماسي الذي دعا إليه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الأسبوع الماضي في بكركي والذي جمع سفراء عدد من الدول الغربية الأول من نوعه إذ درجت العادة على أن يلتقي البطريرك السفراء الأجانب إفرادياً أو جماعياً، لطرح مواضيع توليها بكركي اهتماماً خاصاً مثل الاستحقاق الرئاسي وغيره من الاستحقاقات الوطنية. إلا ان اجتماع الأسبوع الماضي ارتدى طابعاً مختلفاً إذ سبق الزيارة التي بدأها البطريرك لباريس واللقاء مع الرئيس الفرنسي <فرنسوا هولاند> وما تردد في الأوساط السياسية اللبنانية عن رغبة فرنسية متجددة بإعادة تحريك الملف الرئاسي اللبناني بعدما اقترب الشغور الرئاسي من عتبة السنة الأولى خلال أواخر شهر أيار/ مايو المقبل، وسط مؤشرات لا توحي بإمكانية التوصل الى اتفاق يفضي الى انتخاب الرئيس العتيد.
وما حرّك السعي الخارجي وأعاد الاهتمام بالملف الرئاسي اللبناني توافر قناعة لدى السفراء، ومعهم إداراتهم في دولهم، ان اتفاق اللبنانيين في ما بينهم على انتخاب رئيس جديد للبنان أمر صعب التحقيق بسبب تناقض المواقف من جهة، وعدم اقتناع أي من الأطراف المعنيين بالتنازل لحساب مرشح واحد تتوافر فيه الشروط المناسبة للحلول في الموقع الرئاسي الأول من جهة أخرى. وعليه، فإنه بات من الضروري تفعيل التدخل الخارجي الذي كان يثمر في السابق <اتفاقاً> على اختيار شخصية ما، سرعان ما يجمع عليها اللبنانيون ويتبنون انتخابها. صحيح ان ظروف الماضي تختلف عن الظروف الراهنة، والأجواء الإقليمية والمناخات الدولية لا تشجع على <المغامرة> لعدم ضمان الوصول الى نتائج عملية، إلا ان الصحيح أيضاً ان الأمر يحتاج الى من يبادر بطرحه وهو ما ستتولاه دول الغرب مجتمعة أو توكل الى دولة واحدة المهمة باسم المجموعة الدولية.
آلية عمل طرحها السفراء
وفي هذا السياق، تقول مصادر تابعت الاجتماع الديبلوماسي في بكركي ان السفراء أبلغوا البطريرك <عودة> الاهتمام الدولي بلبنان في فرصة تكاد تكون النهائية لضمان تجاوب اللبنانيين بالمسعى الدولي المتجدد، مقترحين آلية عمل تقوم على الآتي:
أولاً: تحقيق مصالحة وطنية داخلية بين اللبنانيين تنهي الخلافات القائمة بين الأطراف اللبنانيين، أو على الأقل تجمّد الوضع الى حين وصول المصالحة الى خواتيمها، لاسيما وان الأجواء والمخاطر التي تعيشها المنطقة تفرض ذلك.
ثانياً: الاتفاق على <سلة> واحدة تشمل الانتخابات الرئاسية وشكل الحكومة وتركيبتها وحصص كل طرف فيها، وصيغة مقبولة من الجميع لقانون الانتخابات النيابية التي يفترض ان تتم بعد انتخاب الرئيس العتيد بأسابيع قليلة. وهذه <السلة> يفترض أن تشكل المدخل الفعلي للحل الحقيقي.
ثالثاً: الاتفاق على شخصية الرئيس العتيد انطلاقاً من ضرورة طرح ثلاثة أسماء <وفاقيين> يختار الأقطاب الموارنة اثنين منهما أمام الشركاء في الوطن، ومن ينال الأكثرية ينتخب رئيساً في مهلة لا تتجاوز الـ24 ساعة. وترددت معلومات ان العدد ارتفع الى 4 بعد إضافة اسم وزير سابق يحظى بموقع مميز لدى بكركي، على أن يلي انتخاب الرئيس تشكيل أول حكومة في عهده وفقاً للمعايير والأسس التي تم التفاهم عليها مسبقاً.
وفي المعلومات ان هذه الآلية التي قدمت للتداول والمناقشة <تسللت> الى عدد من المقرات السياسية والرسمية حيث لقيت اهتماماً، في حين سجل <إطلاق نار> عليها من قبل بعض أهل الحل والربط، ما دعا الى تقييم الموقف ليبنى على الشيء مقتضاه، لاسيما لجهة <تعطيل> القدرة على إسقاط هذه الآلية والبقاء في المجهول. وقد وعد السفراء، استناداً الى ما توافر من معلومات، بأن ينقلوا الى دولهم إلحاح البطريرك على التدخل لتسهيل انتخاب الرئيس وممارسة الضغط على الأصدقاء والحلفاء في الداخل لحثهم على التجاوب مع الآلية الجديدة المطروحة. وفي هذا الإطار، قال البطريرك للسفراء ان المشكلة الرئاسية لم تعد شأناً محلياً، وإنما تجاوزته الى كل العالم الذي بات بإمكانه المساهمة في الحل كي يبقى لبنان مكاناً للتعددية في الشرق، وقادراً على مكافحة الإرهاب وحماية العيش المشترك المسيحي - الإسلامي. ولفت المراقبين ما أعلنته ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان <سغريد كاغ> باسم الحاضرين بأن منسوب القلق لدى السفراء بدأ يرتفع حيال تداعيات الفراغ الرئاسي، ما حتم توجيه <الرسالة القوية> الى القادة اللبنانيين لحثهم على التزام الدستور واتفاق الطائف، والميثاق الوطني، وبدعوة جميع الأطراف الى التصرف بمسؤولية ووضع استقرار لبنان ومصلحته الوطنية قبل السياسة الحزبية.
تقرير <بان كي مون>: أنهوا الشذوذ!
واعتبرت مصادر مواكبة ان تحرك السفراء في بيروت لا يمكن فصله عن التحرك القائم في نيويورك حول الموضوع اللبناني ككل، وفي آخر مظاهره مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة <بان كي مون>، في أحدث تقرير له عن تنفيذ القرار 1559، جميع الزعماء اللبنانيين بالعمل من دون مزيد من التأخير على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وحمّل التقرير - الذي أعدّه فعلياً الموفد الخاص للأمم المتحدة <تيري رود لارسن> المكلف متابعة تنفيذ القرار 1559 - الفراغ الدستوري مسؤولية ازدياد هشاشة الوضع في لبنان في وجه التحديات الأمنية والاقتصادية والإنسانية المتواصلة. وإذ أشاد التقرير بالرئيس تمام سلام وحكومته لضمانهما استمرارية مؤسسات الدولة في غياب الرئيس، انتقد بصورة مباشرة تعمّد عدم حصول نصاب في مجلس النواب بسبب غياب نواب من التيار الوطني الحر وحزب الله، مشيراً الى ان لبنان لا يمكنه أن ينتظر طويلاً لتسوية <هذا الشذوذ>.
التسوية على <البارد> أم على <السخن>؟
لكن السؤال الأبرز بقي: هل تلقى نداءات المجتمع الدولي ومجلس الأمن الصدى الإيجابي لدى القيادات اللبنانية؟ عن هذا السؤال تقول مراجع سياسية إن قبول المرجعيات اللبنانية بتسوية تضع حداً للأزمة الرئاسية المفتوحة على كل الاحتمالات ليس بالأمر السهل خصوصاً إذا كانت هذه التسوية ستتم <على البارد>، حيث لا مجال للتنازلات المتبادلة. أما إذا اختلف الوضع وصارت التسوية <على السخن>، فإن هامش الخيارات يتقلص أمام الأطراف المعنيين ويتم الوصول حينذاك الى التسوية المرجوة. من هنا، توقعت المراجع السياسية ان تحمل الأيام المقبلة سخونة في الوضع الأمني تدفع بالجميع الى القبول بتقديم تنازلات متبادلة تؤدي الى التفاهم على الرئيس العتيد. إلا ان هذا الأمر من الصعب تحقيقه خلال شهر أو شهرين، وان الأمر قد يحتمل انتظاراً لحلول فصل الصيف... أو فصل الخريف، فيتزامن الحل اللبناني مع بداية الحلول للأوضاع في سوريا والعراق واليمن حيث من المقدر ان تستمر المواجهات ستة أشهر إضافية على الأقل