في ملف النازحين السوريين الذين يتجاوز عددهم في البيانات الرسمية المليون ومئتي ألف نازح ونازحة، وفي الحساب غير الرسمي مليون ونصف مليون انسان، يحتاج لبنان الى أصدقاء أقوياء في العالم، مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا التي يزورها رئيس وزراء لبنان هذا الأسبوع لحضور مؤتمر برلين حول النازحين السوريين، وكل الرجاء ألا يعود الرئيس سلام من بلاد <الراين> بخفي حنين، لأن وضع لبنان مع النازحين السوريين تجاوز كل قدرة ممكنة على الاستيعاب، و<بحبك يا سواري قد زندي لا>.
وتركيبة لبنان في الأساس مبنية على أنه بلد قومي عربي لا يقصر في واجباته القومية، بل ويكاد يكون طليعياً في هذا المجال. فمن شوارع بيروت وطرابلس وصيدا سارت تظاهرات التأييد للمجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد، والتعاطف مع الزعماء الجزائريين الخمسة وأولهم أحمد بن بيللا، عندما اختطفتهم طائرة فرنسية زمان حرب الجزائر وهم يغادرون المغرب. كما غطت التظاهرات شوارع لبنان انتصاراً للرئيس عبد الناصر خريف 1956 بعد تأميمه قناة السويس، وانتشرت الفرحة الجماهيرية بولادة الجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا عام 1958.
ولا يجوز أن يشك أحد في النزعة القومية لدى اللبنانيين، واعلان عدم قدرتهم على استيعاب المزيد من النازحين السوريين لا يعني أنهم تخلوا عن واجبهم القومي العربي، أو تجاهلوا الاعتبارات الانسانية، خصوصاً وأن الرئيس تمام سلام وهو يطلب في اجتماع برلين من أجل النازحين السوريين دعماً دولياً للبنان لتوفير فرص الحياة الكريمة، لن يطلب إعادة النازحين السوريين الى بلادهم، بل الاكتفاء بهذا القدر المليوني منهم وأكثر لدعم حاجاتهم المعيشية ولاسيما الماء والكهرباء والغذاء والدواء والمدرسة، فلا يجوز أن يبقى أطفال النازحين السوريين بدون مدرسة، وإلا اعتبر ذلك نقيصة بحق لبنان!
وللسوريين دور طليعي في لبنان منذ الاستقلال عام 1943، وقد ساهموا في إنشاء المصارف والشركات أمثال آل الصحناوي الآتين الى لبنان من حي باب توما في دمشق، وكان منهم نائب ووزير في الستينات هو انطوان صحناوي، ووزير بالأمس هو نقولا صحناوي ورئيس بنك هو أنطون صحناوي، كما لهم دورهم في الاقتصاد اللبناني حتى الآن مثل آل الأزهري الذين ساهموا مع الرئيس حسين العويني في إنشاء بنك لبنان والمهجر، حين كان مقره الرئيسي في شارع <ويغان> المتفرع من ساحة الشهداء، وفيهم حتى الآن مساهمون في المصارف اللبنانية مثل رجل الأعمال صائب نحاس. وبذلك يكونون جزءاً لا يتجزأ من العائلة الاقتصادية في لبنان. والاعتراف بالدور السوري في الاقتصاد اللبناني سمة من سمات الفروسية والوفاء لدى اللبنانيين، وإن كان الدور السوري العسكري زمن الوصاية عكّر على بهجة الألق السوري في الاقتصاد اللبناني، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مطلع عام 2005.
لقاء سلام و<ميركل>
ولكن الوفاء شيء وترتيب البيت اللبناني سياسياً وأمنياً واقتصادياً شيء آخر. وكل ذلك سيقوله الرئيس تمام سلام في برلين للمستشارة الألمانية <أنجيلا ميركل>، ويطلب منها أن تساعد لبنان في تمويل ملف النازحين السوريين، خصوصاً وهي أكثر بلدان الاتحاد الأوروبي قدرة مالية، وقدرة على اقناع حلفائها في الاتحاد الأوروبي على أن يأخذوا موضوع النازحين السوريين في لبنان بالاهتمام الذي يستحق، مخافة أن يتحول الأمر الى انفجار اجتماعي إذا قصر الاتحاد الأوروبي عن مد يد المساعدة.
وفي رد غائلة كابوس الزيادة في عدد النازحين يلتقي في لبنان المسلم والمسيحي. فإن ابن طرابلس وزير الشؤون الاجتماعية المحامي رشيد درباس لا يوفر فرصة إلا ويتحدث فيها عن عدم استطاعة لبنان استقبال المزيد من النازحين، ومثله يردد الكلام نفسه قطب الكتائب وزير العمل سجعان قزي. أي ان وضع حد للنزوح السوري موضوع لا يؤدي الى انقسام اللبنانيين. فالكل يشعر بالأزمة، وبانقباض فرص العمل أمام اللبنانيين، لأن العامل أو الموظف السوري يقتنع بالأجر القليل، ولا يطالب بالأجر الذي يتقاضاه اللبناني.
وإذا أثير موضوع النازحين السوريين في مجلس النواب، فلن يجد أحداً من ممثلي الشعب يطالب بفتح الباب واسعاً أمام النزوح السوري. وهذا متفق عليه.
إلا ان ملف النزوح السوري المفتوح على مصراعيه في برلين، لا يلغي الاهتمام بباقي الملفات، ولا يصرف النظر عن مخاوف الآتي من الأيام، بعدما أصبحت طَرَقات <داعش> على الباب اللبناني واضحة كالشمس، كما في عكار شمالاً، كذلك في شبعا جنوباً، وفي البقاع شرقاً، والتمديد البرلماني الذي يأخذ مجراه الآن، كبديل عن الانتخابات النيابية غير المأمونة العواقب في هذا التردي الأمني، والمخاوف من تمدد حرب <داعش> و<النصرة> من سوريا الى لبنان، كل ذلك سيجعل التمديد البرلماني أبغض الحلال، وفن الممكن، لمواجهة الآتي من الأحداث.
وإزاء المناعة الوطنية المطلوبة للبرلمان الممددة ولايته، كانت هناك مناعة في صلب التشكيلة الحكومية بعد الحملة الضارية التي ساقها وزير الداخلية نهاد المشنوق على كوادر حزب الله، في موضوع اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن والرد الذي أتى من وزير حزب الله محمد فنيش، واعتبرت تلك المساجلة محصورة في إطارها السياسي، ولم تتجاوزه الى تفكير وزيري حزب الله محمد فنيش وحسين الحاج حسن في الانسحاب من الحكومة. فلا مصلحة لأحد الآن في تفكيك الحكومة، لأنه سيكون متهماً بإدخلال البلاد في نفق مجهول، وسط الأحداث التي تعصف بالمنطقة، وبقاء الحكومة هو أفضل ربط نزاع بين تيار <المستقبل> والقوات اللبنانية من جهة، وحزب الله والتيار الوطني الحر من جهة ثانية.
مشهد <داعش> وفريد مكاري
وانتخاب الأردن عضواً في مجلس الأمن سيتيح للصوت العربي أن يتنفس، وأن يطلب دعم لبنان كما الأردن، في ملف النزوح السوري، وإن كان أكثر الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن منشغلين الآن عن لبنان بمواجهة قوات <داعش> في سوريا والعراق، وهي مواجهة بالغارات الجوية لم تسفر حتى الآن عن منع تمدد <داعش> في العراق، بل أصبح أقرب ما يكون الى بغداد، وما إنزال الأسلحة الأميركية قرب مدينة <عين العرب> أو <كوباني> لدعم القوات الكردية المقاتلة ضد <داعش> إلا من قبيل سياسة رفع العتب، لأن الحملة الجوية الأميركية على <داعش> مشكوك في جديتها. وهذا نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري يقول صباح الأحد مع <وردة> في إذاعة <الشرق> انه متفق مع الرئيس سعد الحريري بأن الغارات الجوية للولايات المتحدة وحلفائها، لن تكفي لقطع دابر <داعش>.
وضرب فريد مكاري مثلاً على عدم هذه الجدية الأميركية بقوله إنه كان يعاين مشهداً تلفزيونياً لقوات <داعش> وهي تصول وتجول في طرقات العراق، بسيارات <جيب> وسيارات عادية، والشمس طالعة والناس قاشعة، ومع ذلك لم تظهر أي دلائل على غارة جوية لأميركا والحلفاء..
أي ان الولايات المتحدة أعلنت حربها المفترضة على <داعش> وأن <داعش> كشف الزيف الأميركي في حقيقة التصدي له..
مشروع تسوية
ولكن ماذا بعد؟!
إن اللبنانيين بقدر ما هم منشغلون بهواجس <داعش> بقدر ما يعنيهم أن يعرفوا ماذا سيحصل لكرسي رئاسة الجمهورية، وهل ستبقى شاغرة أيضاً الى أعماق عام 2015؟!
كان لافتاً للنظر يوم الثلاثاء الماضي توجه رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الى جدة لمقابلة مسؤولين سعوديين بترتيب من الرئيس سعد الحريري، وربما كان الضيف المقبل هو العماد ميشال عون، ومن خلال وجود الدكتور جعجع في السعودية ومعه نائب الكتائب سامي الجميّل، يمكن التكهن بأن المملكة السعودية المؤتمنة على اتفاق الطائف الذي أنهى حمام الدم اللبناني عام 1989، تحاول اختراق الجدار الصلب في معركة الرئاسة اللبنانية، والتوصل الى انقشاع في الرؤية.
وتقوم معادلة الانقاذ الآن، وهي معادلة صاغها الرئيس سعد الحريري في روما مع البطريرك بشارة الراعي، على الآتي:
ــ يعلن الدكتور جعجع عدم مضيه في معركة الرئاسة لمصلحة مرشح توافقي إذا قبل الطرف الآخر، أي العماد ميشال عون وحليفه حزب الله، بهذا المرشح التوافقي.
ــ يعلن العماد ميشال عون بعد تأكده من انسحاب الدكتور جعجع من معركة الرئاسة أنه موافق على المرشح التوافقي والتحول من مرشح كبير الى ناخب كبير، أي لا يأتي رئيس جمهورية يضمر له العداء، أو يكون ظهيراً للدكتور سمير جعجع.
والدكتور جعجع لن يلقي بأوراقه على طاولة التسوية، إلا بعدما يتأكد أن العماد ميشال عون أصبح في طور العزوف عن خوض المعركة..
والعماد عون يرفع سقف الموقف حتى إذا تنازل يكون قد تنازل لدولة لا لشخص، أو مرجع سياسي..
والعقدة إذن تبقى محصورة في العماد عون لا في الدكتور سمير جعجع!