محاكمة للمحكمة في نقابة الصحافة
كلنا نعرف البداية في معركة رئاسة الجمهورية، ونرى المشهد الرئاسي محصوراً بين اثنين: الدكتور سمير جعجع، والنائب هنري حلو، ولكنه مشهد لن يستمر مع اقتراب نهاية الاستحقاق الرئاسي حسب الدستور، يوم 25 أيار (مايو) الجاري. فحركة التحضير لهذا الاستحقاق دوارة الآن بين الرياض التي زارها وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور موفداً من قبل رئيس جبهة النضال الوطني الزعيم وليد جنبلاط، والتقى في هذه الزيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أحد عرابي اتفاق الطائف 1989، وصاحب الدراية الخاصة بالملف اللبناني كما التقى الرئيس سعد الحريري.
ومن زوار الرياض كذلك وزير الخارجية والنائب السابق جان عبيد الذي لا يقل حظه في الوصول الى قصر بعبدا عن حظ الآخرين. والرجل شغل معركته الرئاسية بدقة شغل <الكانفا>، ولكن لا بد أن تتكون الظروف التي تسانده في هذا التحضير للمعركة.
ومن الرياض الى باريس تنتقل رياح المعركة الرئاسية اللبنانية. الى هناك توجه الرئيس الحريري ليلتقي البطريرك بشارة الراعي، وانتقل وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل للاجتماع بالرئيس الحريري كما بالبطريرك بشارة الراعي، والقاسم المشترك هو كرسي الرئاسة في بعبدا بعد 25 أيار (مايو) الجاري. وسلوك سعد الحريري ينطلق من أن كرسي الرئاسة حق دستوري للموارنة، من حيث اختيار الاسم المناسب له، ومن بعد ذلك يتولى المسلمون تكوين الرأي المناسب.
أي ان الشاشة في لبنان و<البروجيكتور> في الخارج، شأن أغلب الانتخابات الرئاسية، منذ عهد الرئيس بشارة الخوري الذي اجتمع على تأييده الانكليز، ورثة الانتداب الفرنسي، والملك فاروق ومصطفى النحاس باشا في مصر، ثم عهد الرئيس كميل شمعون الآتي بدعم الوزير المفوض البريطاني الجنرال <ادوارد سبيرس> والوزير المفوض الأميركي <ووزورث>، ثم عهد الرئيس فؤاد شهاب الآتي بدعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس الأميركي <دوايت أيزنهاور> عام 1958.
والسلسلة لا تنتهي. فبابا روما <يوحنا الثالث والعشرون>، ووهج فؤاد شهاب، جاءا بوزير التربية شارل حلو رئيساً للجمهورية، ثم جاء الرئيس سليمان فرنجية بدعم من الاتحاد السوفييتي وكمال جنبلاط، والياس سركيس بدعم من الرئيس السوري حافظ الأسد. ولا حاجة بعد ذلك للتعداد.
والآن.. كيف هي صورة المشهد؟!
أمس الأول الأربعاء بقي كل فريق على موقفه: فريق 14 آذار استمر في دعم مرشحه الرئاسي الدكتور سمير جعجع، وجبهة النضال الوطني بزعامة وليد جنبلاط واصلت مساندتها للمرشح الرئاسي هنري حلو. وفريق 8 آذار تابع قراره بتعطيل النصاب البرلماني، والرئيس نبيه بري لم يملك سوى التأجيل،الى حين يتم الاتفاق على مرشح يرضي الطرفين، وعندئذ تكون الجلسة النيابية الحاسمة.
العماد عون والسجاد الأحمر!
وللمعركة حصتها في الشارع. فالمنادون بتطبيق سلسلة الرتب والرواتب يرفعون شعار العدالة، والمالكون للشقق القديمة يرفعون شعار المطالبة بالانصاف، والمتضامنون مع قناة <الجديد> وجريدة <الأخبار> المحالتين على المحكمة الدولية، وعلى رأسهم الزميل الكبير طلال سلمان، يطلقون من مقر نقابة الصحافة وسط الزحام المنقطع النظير، شعار الحرية، حتى تبدو الجلسة وكأنها محاكمة للمحكمة في <لاهاي>. ويقول رئيس مجلس ادارة قناة <الجديد> تحسين خياط ان الخمسمئة مليون دولار التي أنفقتها الخزينة اللبنانية على المحكمة كانت كافية لتجهيز القضاء اللبناني بالتقنية العالية وللاستغناء عن اللجوء الى محكمة <لاهاي>.
ولكن هذا الشارع المنتفض لا يملك أصواتاً نيابية داخل البرلمان. بل يتعامل مع البرلمان وكأن العديد من النواب هم في قفص الاتهام، وهذا ما يجعل الكتل النيابية والنواب المستقلين في حذر من أية خطوة ترتد عليهم في الانتخابات المقبلة المتفق على اجرائها في الخريف المقبل. وفريق كبير في قوى 14 آذار، وعلى رأسه الرئيس سعد الحريري، لم يكن يتوقع ردة فعل سنية في طرابلس ضد ترشيح الدكتور سمير جعجع للرئاسة، وهو المتهم بدم الرئيس الشهيد رشيد كرامي. وسيعد بعض النواب للعشرة قبل أن يسقط ورقة باسم سمير جعجع مرة أخرى.
وقوى 14 آذار ومثلها قوى 8 آذار، تمارس سياسة تسديد الفواتير. فالأولى لا تريد أن يحصل أي شرخ أو تصدع في صف <ثورة الأرز>، ولذلك انحازت الى تأييد سمير جعجع مع انه لم يأخذ رأيها قبل اعلان ترشيحه، وبذلك قدمت لجعجع الضمانة بأن كتلة 14 آذار وفية لأهلها، ولا تفرّط بهم. وقوى 8 آذار ظلت على وفاء لمرشحها الرئاسي الوحيد العماد ميشال عون، وإن كان لم يعلن ترشحه حتى الآن، وبذلك أعطت الأطراف المتجمعة ضمن فريق 8 آذار، الضمانات بعدم التفريط في حق أي فصيل فيها. وإذا استنكف العماد عون، فهناك النائب سليمان فرنجية الذي يستطيع أن يكسب أصوات أكثر نواب طرابلس.
والعماد عون يلتزم سياسة الصمت، ويترك الكلام للآخرين عملاً بعبارة بديع الزمان الهمذاني <رب ساع لقاعد>. والساعي الناشط في هذا المضمار هو صهره وزير الخارجية جبران باسيل الذي يجول بين موسكو وروما وباريس، لتسويق اسم العماد عون، ولا يبقى إلا أن يتوجه الى واشنطن، ليكمل جولة التسويق. وتريث العماد عون في اعلان ترشيحه يأتي من ايمانه بعدم الارتماء في أحضان المجهول، لأنه يعرف أن الكتلة الوازنة في ترشيحه هي كتلة <المستقبل> بزعامة الرئيس سعد الحريري، والمرشح الماروني الذي يكسب جانب الحريري يكون الأكثر حظاً بالفرصة الرئاسية.
ورغم الاجتماع الشهير للعماد عون مع الرئيس سعد الحريري، وفتحه الباب أمام تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، فإن هذا الاجتماع، على ما يبدو، اكتفى بتشكيل الحكومة، ولم يتطرق الى تشكيل شخصية رئيس الجمهورية الآتي وإن كانت هناك ملامح لهذا التشكيل بين السطور. أي ان الرئيس الحريري، كما قال نائب رئيس كتلة <المستقبل> النائب السابق انطوان اندراوس، لم يعط العماد عون وعداً بتأييده للرئاسة، لأن لهذه الرئاسة تحضيرات أخرى وأجواء مختلفة.
سياسة تسديد الفواتير!
والرئيس الحريري مثل وليد جنبلاط صاحب حاسة شم سياسية من أول باب، ولذلك لا ينفرد بتسمية أي مرشح رئاسي، وما تأييده لحليفه في 14 آذار الدكتور سمير جعجع إلا جزء من حكم الضرورة، لكنه لم يكن هو الذي سماه، أو رشحه، أو طلب تسويقه، فلا بد للحريري من أن يختبر أجواء المنطقة، قبل أن يقول: هذا مرشحنا.
والمنطقة الآن تعيش متغيرات بالجملة. فالرئيس السوري بشار الأسد أعلن ترشيحه لمعركة الرئاسة يوم 3 حزيران (يونيو) المقبل. والمشير عبد الفتاح السيسي سيكون الرئيس المصري الآتي في انتخابات الرئاسة أواخر هذا الشهر. ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بدعم من إيران يحاول يوم الأربعاء أمس الأول أن يكون المنتصر في معركة الانتخابات الرئاسية، بل قل ان إيران هي المنتصرة حيال رموز سياسية لها تاريخها مثل أسامة النجيفي رئيس البرلمان المنتهية ولايته، وعمار الحكيم، واياد علاوي.
ولا بد من ترتيب أوزان المعارضة السورية في انتخابات الرئاسة يوم 3 حزيران (يونيو) المقبل، لبناء أي موقف حيال الوضع السياسي في سوريا، وإن كان الرئيس الحريري يدرك منذ الآن ان الرئيس الأسد، إذا عاد الى قصر المهاجرين، لن يترك الساحة اللبنانية بدون تدخل مباشر وغير مباشر.
وفي حسبان بعض المراقبين ان عسكرياً يحكم مصر، وعسكرياً يحكم سوريا، وعسكرياً يحكم اليمن مثل عبد ربه منصور هادي، لا بد لهم من تكامل بعسكري يحكم لبنان، وإن ضمن المعايير الدستورية والديموقراطية، وهذا يعني زيادة حظوظ قائد الجيش العماد جان قهوجي، وان الرجل يدرك أن هذه الطريق تحتاج الى تعديل الدستور، لأنه محسوب على فئة موظفي الفئة الأولى الذين يفترض تقديم استقالتهم قبل سنتين من موعد الاستحقاق الرئاسي، أي كان على العماد قهوجي أن يستقيل قبل سنتين وينقطع عن ممارسة الوظيفة، وهذا لم يحصل حسب المادة 49 من الدستور، ولا بد لترشيحه من تعديل الدستور في جلسة خاصة يعقدها المجلس النيابي، ودون ذلك مصاعب وعقبات، خصوصاً وأن البطريرك بشارة الراعي أعلن معارضته لتعديل الدستور، صوناً للعمل الديموقراطي. كما ان الدكتور سمير جعجع، والعماد ميشال عون، سبق لهما أن عارضا فكرة تعديل الدستور.
كل هذا كلام معقول، ولا نستطيع أن نقول عنه شيئاً، ولكن ماذا لو أتى الضوء الأخضر من الخارج مخالفاً لهذه التوقعات؟ ألا تنعقد جلسة برلمانية لتعديل الدستور؟!
إلا أن الرياح لا تجري بما تشتهي سفن التعديل الدستوري، لا داخل لبنان، ولا خارجه، والمجيء بعسكري رابع الى الرئاسة بعد فؤاد شهاب واميل لحود وميشال سليمان، يربك صفوف الكتل، ولاسيما كتلة وليد جنبلاط، فلا ترى سدة الرئاسة إلا محسومة لمرشح مدني، دون أن ينتقص ذلك من قيمة العماد جان قهوجي وانجازاته الأمنية في السنتين الأخيرتين.
والصورة الآن كالآتي: الباب الخليجي موصد الآن أمام تسمية أي رئيس جديد للبنان، بحكم انشغال الأوساط الخليجية بالصفقة الأميركية ــ الإيرانية حول الملف النووي، وإيران <حسن روحاني> منشغلة بهذا الملف، وقبل وصوله الى خاتمة سعيدة، لا رأي لإيران في المعركة الرئاسية اللبنانية. وهذا ينسحب أيضاً على كل من الولايات المتحدة وروسيا المنشغلتين الآن حتى العظم بالملف الأوكراني، ومثلهما الرئيس الفرنسي <فرانسوا هولاند> الذي تكفيه مشاكله الداخلية وتورطه العسكري في <مالي> وافريقيا الوسطى، ونزول شعبيته في الاستطلاعات الى نسبة 18 بالمئة، وهي نسبة لم يهبط إليها أي رئيس فرنسي سابق!
ربما تكون الفرصة مؤاتية لرئيس صنع في لبنان.
وتباركت هذه الأحلام!