ما أكثر المشاكل في هذا العالم، وما أقل الحلول، هذا إذا لم تستعص على أصحابها: وهذه المشاكل تجعل قادة العالم، بدءاً من الولايات المتحدة، وفرنسا، وانكلترا وروسيا، في شغل شاغل عما يصيبنا في هذا البلد العزيز، والنصيحة الآتية من الخارج الى لبنان هي: الأفضل أن يقتلع اللبنانيون أشواكهم بأيديهم، ولا ينتظروا في هذا الظرف العالمي الساخن أن تمتد إليهم يد من الخارج لتقتلع أشواكهم بدلاً منهم.
فالرئيس الأميركي <باراك أوباما> مشغول في هذه المرحلة بالطائرة الماليزية التي سقطت في أوكرانيا بصاروخ روسي من معقل الانفصاليين في شرق أوكرانيا، والرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> يريد أن يرفع التهمة عن الصاروخ الروسي، ويشير الى وجود طائرة محاذية للطائرة الماليزية في الجو قبل سقوط الأخيرة وموت ركابها عن بكرة أبيهم.
والرئيس الأميركي، اضافة الى الطائرة الماليزية، مشغول البال بما يحدث في قطاع غزة، لا استنكاراً للمجازر الاسرائيلية بحق السكان المدنيين الأبرياء، أو بمجزرة منطقة <الشجاعية> بل لمعرفة ما إذا كان <بنيامين نتانياهو> قادراً على كسب الحرب التي أعلنها على قطاع غزة، ومشغول البال كذلك على فاعلية القبة الحديدية في ردع صواريخ <حماس> ومنها صواريخ <أبابيل>.
والرئيس الفرنسي <فرانسوا هولاند> ملتزم بدعم اسرائيل، دون أن يمنعه ذلك من إبداء رغبته في وقف اطلاق النار بين اسرائيل و<حماس> حفاظاً على السلام الاقليمي وعلى مصالح فرنسا الاستراتيجية في المنطقة.
والرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> يريد أيضاً وقف اطلاق النار بين اسرائيل وحركة <حماس>، ولكنه لم يظهر أية إدانة للمجزرة الاسرائيلية المرتكبة في حي <الشجاعية>، ولم يتقدم بأي مشروع قرار في مجلس الأمن لإدانة المجازر الاسرائيلية. وليس ذلك بمستغرب على روسيا، فهي أول دولة في العالم اعترفت باسرائيل عام 1948، وهي التي أرسلت سفيرها في القاهرة مع الهزيع الأخير من الليل في مطلع حزيران (يونيو) 1967 الى الرئيس جمال عبد الناصر بعد اقفال مضائق تيران ليتمنى باسم حكومته بأن لا يكون البادئ بالحرب، فكانت البداية لاسرائيل!
والأمين العام للأمم المتحدة <بان كي مون>، ضيف المنطقة هذه الأيام، أشبه بالأم <تيريزا> الطيبة الذكر، وهي تدعو الى السلام من الهند، ولا يملك أن يوقف حرب الصواريخ والمدافع والمقاتلات الجوية الاسرائيلية في سماء قطاع غزة، ويتماشى مع قول الشاعر المتنبي: <فليسعد النطق إذا لم تسعد الحال>.
وقد يكون من أخطاء حركة <حماس> عدم الاعتماد على الدور المصري في إطفاء حريق غزة، بعدما صدرت مبادرة مصرية لوقف اطلاق النار، وهي مبادرة تعتمد على طرفين: <حماس> واسرائيل. واسرائيل قبلت المبادرة، لتغسل يديها من إثم الدماء الفلسطينية المهدورة بمدافعها وصواريخها، وتقول للعالم إنها محبة للسلام، وما أشطر كذبها في هذا المجال. لكن حركة <حماس> لم تعلن قبولها بالمبادرة المصرية، وكانت الحجة انها لم تتبلغها رسمياً، فرد وزير الخارجية المصري الجديد سامح شكري بالقول: لو قبلت <حماس> المبادرة> المصرية لكانت حقنت دماء مئات الفلسطينيين!
<حماس> والمبادرة المصرية
إلا ان المبادرة المصرية حية ترزق وينقصها بعض التعديل، فتقبل بها حركة <حماس>، وإن كانت المحاور الاقليمية تحاول تعطيل هذا القبول. فهناك المحور التركي الذي يمثله رئيس وزراء تركيا <رجب طيب أردوغان>، ويريد لغليله أن يشفى من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأنه أطفأ شعلة حلفاء تركيا الاخوان المسلمين، وألقى بهم وراء قضبان السجون. وما المظلة التي يبسطها <أردوغان> فوق رأس حركة <حماس>، بالتحالف مع إيران، إلا للتشفي من الرئيس السيسي الذي وصفه بالطاغية، وهناك ملامح بأن بعض مسلحي <حماس> لم يكونوا في عصمة من تهمة الاشتراك في أحداث سيناء الأخيرة، حتى لو نفت حركة <حماس> مثل هذا التورط.
وفي اسطمبول جرى في الأسبوع الماضي عقد مؤتمر اسلامي بدعوة من <رجب طيب أردوغان>، شاركت فيه إيران، ودولة قطر، ولم تشارك فيه السعودية ومصر ودولة الإمارات، وهذا المؤتمر الذي انبثقت عنه لجنة متابعة هو تعزيز للحلف التركي ــ الإيراني. وإن كانت بين الطرفين بعض الملابسات. فتركيا لا تمانع، على ما يبدو، في إقامة كيان كردي مستقل باسم كردستان، فيما تعتبر إيران مثل هذا الكيان خطراً على تركيبتها الديموغرافية والجغرافية، أي ان <أردوغان> يريد أن ينشئ حلفاً اقليمياً بين تركيا وإيران، وأهلاً بمن ينضم، مقابل الحلف غير المكتوب بين مصر والمملكة السعودية ودولة الإمارات. وبذلك يريد <أردوغان> أن يقدم نفسه زعيماً اسلامياً في هذه المنطقة برغم أن نظام تركيا هو نظام علماني، كما أنشأه مطلع العشرينات <مصطفى كمال أتاتورك>. ولكن لماذا لا يحاول؟
ونحن في لبنان لا نعرف كيف نستغل الفرص في سبيل تأمين مصالحنا. فقد كان انشغال الدول الكبرى بأحداث غزة، وقبلها أحداث أوكرانيا، وأحداث العراق، فرصة ذهبية للبنانيين حتى يقتلعوا أشواكهم بأيديهم، وينتخبوا رئيساً جديداً للبنان، ولكن أنت تريد وأنا أريد والجهل يفعل ما يريد. فيكفي أن يقرر العماد ميشال عون رأس كتلة الاصلاح والتغيير، أن يحضر جلسة انتخاب الرئيس الجديد، حتى يفتح صفحة جديدة في تاريخ لبنان، وحتى الآن لا يريد أن يفعل برغم أجراس الخطر على الوجود المسيحي في الشرق، وهي تقرع في العراق، وتجبر الجالية المسيحية العراقية بدءاً من رهبانها، على ترك مدينة الموصل ومحافظة نينوى، الى كردستان، حيث كان عسكر <البيشماركة> أرحم بالمسيحيين المهاجرين من قوات نوري المالكي.
عون وهجرة المسيحيين!
وحسناً فعل الرئيس سعد الحريري وهو يدعو من الشاشة التلفزيونية في إفطار تيار <المستقبل> الى انتخاب رئيس للجمهورية، وتحديداً قبل الدعوة الى أية انتخابات نيابية جديدة. فهذه الانتخابات، لو جرت قبل انتخاب الرئيس، لتطلبت استشارات نيابية لتأليف حكومة مصلحة وطنية على طراز حكومة تمام سلام. فمن يجري هذه الاستشارات غير رئيس الجمهورية، ورئيس الجمهورية غير موجود؟ وإذا لم تكن هجرة المسيحيين من العراق مدعاة لتعديل سياسة العماد عون، وهو الذي يقدم نفسه كزعيم للمسيحيين في لبنان، فمتى يكون التعديل إذن؟ ويدرك العماد عون تماماً أن هناك خوفاً مسيحياً مستشرياً في لبنان من الذي يحدث في العراق، وأول ما يجب فعله في هذا السبيل هو الالتفاف حول البطريرك بشارة الراعي الزعيم الروحي للموارنة، والتلاقي وإياه في الدعوة الى انتخاب رئيس للجمهورية يملك الوعي والثقافة وبُعد الرؤية والقدرة على تحويل الكلام الى فعل، لا أن يبقى الكلام دخاناً في الهواء..
الحريري وأسئلة السفراء!
والرئيس الحريري محدد الهدف. فرئيس الجمهورية يختاره أولاً المسيحيون، ويباركه غبطة البطريرك بشارة الراعي، ثم يلتف حوله المسلمون لأنه فعل إرادة اخوانهم في الوطن، المسيحيين، وأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله مستعد للالتفاف حول الرئيس الجديد إذا تعهد بدعم المقاومة، ولا يكون حرباً عليها أو خنجراً في ظهرها.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد أحب بعض السفراء في لبنان أن يسألوا: لماذا لم تفتح المقاومة في لبنان جبهة جنوبية ضد اسرائيل لتخفف الضغط على أهالي غزة، وتقيهم شر المجازر؟! ولماذا اكتفى السيد نصر الله برسالة تضامن الى خالد مشعل رئيس حركة <حماس> ورضوان شلح أمين عام حركة <الجهاد الاسلامي>، ولم يكن هذا التضامن بدعم عسكري؟!
الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج الى اجتهاد. فلبنان، ومعه المقاومة، مرتبط بالقرار الدولي 1701، وأي رصاصة تطلقها المقاومة صوب الأراضي المحتلة، أو ما يسمى بشمال اسرائيل، معناه سقوط القرار 1701، وعودة الحرب بين اسرائيل والمقاومة في لبنان. صحيح ان هناك صواريخ بدائية قد أطلقت من بعض قرى الجنوب اللبناني باتجاه اسرائيل لم تحدث أي أضرار بشرية، إلا ان اسرائيل بمخابراتها والمخابرات الأميركية تعلم ان المقاومة لا علاقة لها بهذه الصواريخ التي هي <فشة> خلق من بعض عناصر فلسطينية..
والحكمة هنا قبل شجاعة الشجعان. فلا يجوز أن يدفع لبنان عسكرياً ثمن أحداث غزة، إلا في حال واحدة، وهي أن تقوم اسرائيل بعمل عسكري يخترق القرار 1701، وعندئذ لا يلومن أحد.. المقاومة!
فالحرب أولاً تولد في عقول الرجال، قبل أن تتحول الى نار وبارود. وعقول الرجال لا ترى موجباً لخرق القرار 1701، وفتح جبهة عسكرية جديدة ضد اسرائيل، إلا إذا كانت هذه الجبهة رداً على عدوان اسرائيل، أو أمراً تقتضيه الكرامة الوطنية. وكل الاستعدادات للطوارئ على الحدود أخذتها المقاومة، كما أخذها الجيش اللبناني، ولكن هل من مصلحة اسرائيل توتير الجبهة مع لبنان؟!
هذا ما يحاول الموفدون الديبلوماسيون، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الفرنسي <رولان فابيوس> اتقاء شره منذ الآن امتثالاً لقاعدة <الحكم رؤية>.
وليس في منظار هذه الرؤية الآن ما ينذر بحرب اسرائيلية لبنانية جديدة!